يوم الجمعة الواقع في 27 نيسان 2018 انطلق قطار الإنتخابات النيابية اللبنانية للمغتربين في الدول العربية. ويوم الأحد 29 نيسان 2018 حُدّد لاقتراع اللبنانيين المغتربين في أفريقيا وأوروبا وأميركا، وبلغ عدد المسجّلين في السفارات اللبنانية في أربعين دولة أكثر من ثمانين ألف مغترب، إذ اشترط قانون الإنتخاب لاقتراع المغتربين التسجيل في السفارات في وقت سابق.
ويوم السادس من أيار 2018، تفتح مراكز الإقتراع أبوابها على كافة الأراضي اللبنانية لاقتراع اللبنانيين، في يوم انتخابي واحد، يمتد من الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة السابعة مساء بتوقيت بيروت. وقد بلغ عدد المرشحين إلى الندوة النيابية في هذا الدورة 918 مرشحاً من بينهم 111 إمرأة، فيما بلغ عدد اللوائح التي تسجّلت لدى وزارة الداخلية اللبنانية لخوض الانتخابات 77 لائحة، بينما بلغ عدد الناخبين داخل لبنان وخارجه 3744245 ناخباً موزعين بنسبة 65% تقريباً مسلمين و35% مسيحين.
قانون الإنتخاب
يخوض لبنان تجربة جديدة على صعيد الإستحقاق الإنتخابي لناحية القانون الذي ينظم الإنتخابات النيابية. ففي الدورات السابقة، منذ قيام لبنان، كان النظام الذي يُعتمد هو النظام الأكثري مع إعادة تقسيم وتوزيع الدوائر الانتخابية في كل مرة تقريباً. أما اليوم فإن القانون الذي اعتُمد بات مختلفاً، إذ أقرّ المجلس النيابي اللبناني بداية الصيف الماضي 2018 قانوناً هجيناً دمج بين اعتماد النسبية، وبين اعتماد ما يُعرف بالصوت الواحد (التفضيلي).
بالنسبة لعملية الاقتراع، فإن وزارة الداخلية ستزود عبر رؤساء أقلام الإقتراع الناخبين بورقة واحدة جمعت فيها اللوائح التي تسجلت في الدائرة المعنية
لقد قسم القانون الجديد لبنان إلى خمس عشرة دائرة إنتخابية يتراوح عدد النواب الذين يمثلون كل دائرة بين أصغرها خمسة نواب (صيدا – جزين) وأكبرها ثلاثة عشر نائباً (الشوف – عالية)، ثم دمج أحياناً بين مجموعة أقضية في دائرة واحدة وهو ما سمّاها الدوائر الصغرى ( طرابلس – المنية – الضنية)، أو أبقى على محافظة بكاملها دائرة واحدة (عكار)، واشترط لخوض الانتخابات أن تشكل لوائح في هذه الدوائر يكون فيها تمثيل بنسبة 40% من عدد مقاعد الدائرة، وأن يكون فيها تمثيل للدوائر الصغرى.
أما بالنسبة لعملية الاقتراع، فإن وزارة الداخلية ستزود عبر رؤساء أقلام الإقتراع الناخبين بورقة واحدة جمعت فيها اللوائح التي تسجلت في الدائرة المعنية، ومن ثم يقوم الناخب، خلف العازل ال،نتخابي، بوضع علامة (صح) أمام اللائحة التي سيقترع لها، وكذلك سيضع علامة (صح) أخرى أمام مرشح واحد سيختاره من اللائحة التي اقترع لها، وهو ما يُعرف هنا بالصوت التفضيلي أو الصوت الواحد. وهنا يظهر أن القانون مزج بين النسبية والصوت الواحد الأكثري، لذا فإن التمثيل لن يكون نسبياً مئة بالمئة.
أما بالنسبة لعملية فرز الأصوات ومعرفة الفائز، فقد حدد القانون عتبة لتمثيل اللوائح، وكل لائحة تحصل على هذه العتبة، لها الحق بالتمثل في الندوة النيابية، وأما طريقة احتساب العتبة، فتكون عبر قسمة عدد المقترعين الفعليين في الدائرة على عدد مقاعد الدائرة، لذا فإن هذه العتبة التمثيلية تختلف من دائرة إلى أخرى. وأما فيما خصّ النائب الذي يمثّل اللائحة التي حصلت على العتبة، فإن الصوت التفضيلي هو الذي يحدد الفائز من بين المرشحين في اللائحة الواحدة، مع الأخذ بعين الإعتبار التوزيع المناطقي (دوائر صغرى ودائرة كبرى) وكذلك التمثيل الطائفي والمذهبي، إذ من المعروف أن الدستور اللبناني أقرّ مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في السلطتين التشريعية والتنفيذية وفي وظائف الفئة الأولى، لذا فإن المجلس النيابي اللبناني الذي يتشكّل من 128 نائباً هو مناصفة بين المسلمين 64 نائباً، والمسيحيين 64 نائباً مع احتساب نسب كل مذهب داخل الطائفة الواحدة، وبالطبع كل ذلك يؤثر على نتائج الإنتخابات وعمليات الفرز والتمثيل ويٌفرغ النسبية من مضمونها أيضاً.
وأشير في هذا المقام إلى أن الكثير من السياسيين اللبنانيين، وحتى الدستوريين، انتقدوا هذا القانون، حتى قال البعض إنه قد فُرّغ من مضمونه النسبي، وبالتالي فهناك مطالبات بإدخال إصلاحات عليه مع إنتهاء الإستحقاق الإنتخابي وانتخاب مجلس نواب جديد.
القوى السياسية في لبنان منقسمة بشكل عامودي بين فريقين في الإستحقاقات الإنتخابية السابقة، لا سيما في دورتي 2005 و 2009
التحالفات
أما بالنسبة للتحالفات الإنتخابية في هذه الدورة فإنها أيضاً باتت مختلفة عن التحالفات في الدورات الماضية، بالنظر إلى القانون الجديد الذي خلط الأمور بين مختلف القوى السياسية.
لقد كانت القوى السياسية في لبنان منقسمة بشكل عامودي بين فريقين في الإستحقاقات الإنتخابية السابقة، لا سيما في دورتي 2005 و 2009. كان الإنقسام بين فريق 8 آذار الذي كان يجمع حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل والأحزاب التي كانت حليفة للنظام في سورية، وفريق 14 آذار الذي كان يجمع تيار المستقبل والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وأحزاب أخرى أقل حضوراً وكان هذا الفريق مدعوماً بشكل أساسي من المملكة العربية السعودية.
اليوم وأمام هذا القانون الجديد تمّ تجاوز هذا الإنقسام العامودي، فبتنا نرى أن الأطراف السياسية قد تكون متحالفة في دائرة من الدوائر، ومتنافسة في دائرة أخرى. فعلى سبيل المثال، وباستثناء الثنائي الشيعي الذي يجمع حركة أمل برئاسة الرئيس نبيه بري وحزب الله، فإن تيار المستقبل مثلاً تحالف مع القوات اللبنانية في بعض الدوائر كما في الشوف والبقاع الشمالي وعكار، ولكنه يتنافس معها في زحلة ودائرة بيروت الأولى ودوائر الجنوب اللبناني.
أظهر القانون الإنتخابي الجديد مدى حاجة القوى السياسية والمرشحين للناخب، وبالتالي فقد اضطر هؤلاء إلى التواصل المباشر مع الناخبين وإطلاق الوعود الإنتخابية التي لم يعد لها سقف
وكذلك الأمر بالنسبة للتيار الوطني الحر، فقد تحالف مع المستقبل في زحلة ولكنه يتنافس معه في صيدا وجزين وفي عكار ويتحالف مع منافسه في الساحة السنّية الجماعة الاسلامية في هاتين الدائرتين، وكذلك في الشوف وبعض الدوائر الأخرى. حتى أنه يتنافس مع حركة أمل في دائرة جزين، ولكنه يتحالف معها في دائرة بعبدا، ويتحالف مع حزب الله في بعبدا ولكنه يتنافس معه في جبيل وكسروان وفي البقاع الشمالي (بعلبك الهرمل).
وهكذا فإن القاعدة التي حكمت التحالفات في هذه الدورة الانتخابية ليست المبادىء والبرامج السياسية بقدر ما كانت المصالح الخاصة بكل جهة سياسية، وهنا نجد أن بعضها كان بحاجة إلى تحالفات مع أطرف لم تكن يوماً على علاقة مع بعضها، ولكن بحكم ما يفرضه قانون الانتخاب، ولعلّ هذه من إيجابيات القانون الذي أرغم القوى السياسية اللبنانية على التحاور مع بعضها والتعاون فيما بينها ولو مرحلياً. مع الإشارة إلى مسألة مهمّة وهي محاولة بعض القوى السياسية حصار قوى أخرى أو حتى إقصائها، ولعلّ أكثر من عانى من هذه المسألة هي الحركة الإسلامية اللبنانية، لا سيما من الأطراف التي تشاركها الساحة ذاتها.
الخطاب الإنتخابي
لقد أظهر القانون الإنتخابي مدى حاجة القوى السياسية والمرشحين للناخب، وبالتالي فقد اضطر هؤلاء إلى التواصل المباشر مع الناخبين من ناحية، وإلى إطلاق الوعود الإنتخابية التي لم يعد لها سقف من ناحية ثانية، وهنا يُذكر حديث رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، عن تسعمئة ألف وظيفة ستنتج عن مؤتمر سيدر1 الذي عقد في باريس قبل أسابيع.
فضلاً عن ذلك، اعتماد الخطاب التخويني والتوتيري والإتهامات بالمسؤولية عن الفساد والأزمة الإقتصادية والإجتماعية وكل أنواع “الأسلحة الإنتخابية”، من دون ضوابط لهذه الأمور، ومن دون النظر أحياناً إلى مخاطرها، وهنا يبرز على سبيل المثال لا الحصر، الخطاب الإنتخابي الذي يعتمده تيار المستقبل، ويتهم فيه من لا ينتخب لوائحه بالعمل لصالح حزب الله والسير في المشروع الفارسي، في وقت اتهم أمين عام حزب الله من يدعم لوائح منافسيه، خاصة في البقاع الشمالي (بعلبك الهرمل)، أنه يدعم “الإرهاب” ويدعم تنظيمي “داعش” و “النصرة”، وهذه بكل تأكيد اتهامات خطيرة وترقى إلى مستوى هدر الدماء.
هناك قناعة عند أغلب اللبنانيين أن إجراء الإنتخابات في ظل هذا القانون، أو في ظل غيره، أفضل بكثير من التمديد للمجلس النيابي الذي حصل ثلاث مرات في الدورة السابقة
فيما نحى التيار الوطني الحر إلى اعتماد خطاب يستثير فيه الغرائز الطائفية والمذهبية، فعزف على وتر حقوق المسيحيين تارة من خلال انتقاد وجود اللاجئين السوريين في لبنان، وتارة أخرى بالحديث عن مصادرة حقوق المسيحيين على مستوى الدولة. وتكاد تكون خطابات أغلب القوى متشابهة وهدفها تعبئة المناصرين ورص صفوفهم واستنهاضهم من أجل الإستحقاق الإنتخابي.
هناك قناعة عند أغلب اللبنانيين أن إجراء الإنتخابات في ظل هذا القانون، أو في ظل غيره، أفضل بكثير من التمديد للمجلس النيابي الذي حصل ثلاث مرات الدورة السابقة، ولكن أغلب اللبنانيين أيضاً لا يعلّقون أملاً كبيراً على نتائج هذه الإنتخابات للخروج من نفق الأزمات المستحكمة في البلد سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً وما سوى ذلك، إلا أنهم يعتبرونها محطة قد تشكل بداية مشجعة نحو التغيير.