لا تراجع حتى اللحظة عن موعد أو مكان اجتماع الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني المقرر نهاية الشهر الجاري بمدينة رام الله على الرغم من مطالبات وضغط الفصائل الفلسطينية الوازنة وهيئات وشخصيات وطنية. وهو تراجع مستبعد، على كل حال، بالنظر الى توجه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ البداية للدعوة الى انعقاده دون توافق وتشاور مع الأطراف الوطنية فيما يتعلق بموعد ومكان –وهو الأهم- الاجتماع.
ليس بحاجة إلى كثير من الفطنة للقول أن تحديد مدينة رام الله مكانا لعقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني كان يعني استثناء قطاع من الفاعلين الفلسطينيين، وبدرجة أولى حركتي حماس والجهاد الاسلامي، ممن لا يروقون للرئيس الفلسطيني محمود عباس ولا يروقهم مشروعه السياسي، من المشاركة في الاجتماع وأخذ صفة تمثيلية في مؤسسات منظمة التحرير. فكما هو متوقع، أعلنت حركتا حماس والجهاد الاسلامي مقاطعتهما الاجتماع وطالبتا بعقده إلى حيث يمكنهما حضوره خارج وصاية وسيطرة الاحتلال. ذات الموقف اتخذته الجبهة الشعبية لاحقاً بعد فشل محادثاتها مع حركة فتح –شريكها بالمنظمة- لتأجيل الاجتماع من اجل ضمان تأسيس مجلس وطني توحيدي تشارك فيه كل الاطراف الفلسطينية فصائل وهيئات وشخصيات.
وفق مشهد كهذا فإن مقادير عالية من المفارقة تبرز مع إتمام عقد المجلس الوطني تتصدرها مسألة الشرعية. فأن يتم اقصاء فصائل وطنية وازنة بالجملة من المشاركة والانخراط في إحدى أهم مؤسسات منظمة التحرير والتي هي الممثل “الشرعي والوحيد” سيجعل هذه الصفة للمنظمة تحت مظلة الشكوك. فقاعدة العمل الفصائلي منذ اتفاق القاهرة عام 2005م وحتى اجتماع الفصائل في بيروت في يناير عام 2017م قائمة على الاتفاق بضرورة تفعيل دور منظمة التحرير وتضمين جميع القوى والفصائل الفلسطينية فيها وهو الأمر الذي ينسفه الرئيس محمود عباس باستفراده في تصريف شؤون المنظمة وصرف أي تغيير او احتمالية تغيير في مكوناتها أو برنامجها السياسي.
يرى الرئيس عباس أن حماس بطريقة أو باخرى جزء من صفقة القرن وتذهب عن سابق إرادة أو سوء تدبير منها نحو فصل القطاع عما أسماه “المشروع الوطني”
إن عقد اجتماع المجلس الوطني حسب ما يريده الرئيس محمود عباس في مدينة رام الله حيث لا دخول إلا برضا وموافقة الاحتلال لا يمكن أن يفضي إلى أي نقاش جدي في تغيير برنامج أو رؤى أو اشخاص منظمة التحرير. بل سيكون فقط لتجديد نسخة المنظمة ما بعد أوسلو والتي يراها قطاع عريض من الفلسطينيين نسخة مسخ ويطالبون بتفعيلها وفق شرعية وطنية تأخذ بالحسبان تغير الظروف التي صاحبت نشأة المنظمة وعقم تجربتها مع مسار أوسلو.
كما تمثل هذه الدعوة تناقضًا جليًا مع مسار المصالحة والتي يتهم الرئيس عباس حماس بتعطيلها وشرع لأجل ذلك بفرض مزيد من العقوبات على قطاع غزة. فلا يكاد يخلو اتفاق مصالحة (مكة، القاهرة، صنعاء، الدوحة) عبر سنين الانقسام الطويلة من بند إصلاح منظمة التحرير ومؤسساتها وإشراك حماس وفواعل فلسطينية أخرى في عملها.
في سوقه لأسباب تحلله من المضي في المصالحة في اجتماعه الاخير بالمجلس المركزي للمنظمة، يرى عباس أن حماس بطريقة او بأخرى جزء من صفقة القرن وتذهب عن سابق إرادة أو سوء تدبير منها نحو فصل القطاع عما أسماه “المشروع الوطني” واشترط للمصالحة تسليم حماس لسلاحها وكل شيء في غزة. أي ان رؤية الرئيس للمكونات الفلسطينية قائمة على أن يكونوا تَبع وليس شركاء في “مشروع وطني”.
ولكن المفارقة هنا في دعوة اجتماع المجلس الوطني، والذي هو برلمان المنظمة، أنه يقصي ليس قطاع غزة بفصائلها وشخصياتها عما يعتبره الرئيس “المشروع الوطني” بل يقصي اصواتا في الخارج والشتات ترفض “مكان” انعقاد المؤتمر. هنا يغدو الذي يتهم الآخرين بالانفصال عن “المشروع الوطني” هو نفسه مُتهَما بإقصاء الاخرين عن المشروع الوطني ونقض غزل ثوب المصالحة. عندئذ يغدو هذا المشروع ليس مشروعا وطنيا بل مشروعا ضيقا يمثل حركة فتح أو بعضًا منها.
من جملة ما أثارته دعوة اجتماع المجلس الوطني والردود عليها هو استفراد الرئيس في ادارة ثلاث مؤسسات هي حركة فتح والسلطة والمنظمة من دون أن يكون له فيها صوت معارض أو موازي. وهو استفراد وإن كان لاكثر من ثلاثة عشر عامًا –ومن قبلها كان يمثلها الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله- إلا انه ليس بالحالة المثلى والأفضل لمواجهة محاولات تصفوية للقضية الفلسطينية متمثلة بصفقة القرن.
حالة الجمود على مستوى الرؤى والبرامج السياسية وكذا حالة التكلس التي أصابت مشغلات الحالة السياسية لا يمكن أن تؤسسا “لمشروع وطني”
ومما يزيد من كارثية حالة الاستفراد هذه أن الذي يمارسها يتمسك برؤية حل وحيدة لا يدفعه عدم جدواها مع وقائع الارض المتغيرة إلى مبارحتها. فبموازاة الجهد الجماعي الذي تبذله دول إقليمية بجانب الولايات المتحدة لاتمام صفقة القرن لا تهتم القيادة الفلسطينية بمقابلة ذلك بجهد ومجابهة فلسطينية، من كل الطيف الفلسطيني، وإنما تسعى حثيثا لتكريس حالة الاستفراد وطرح ذات الرؤية التي اثبتت فشلها منذ اتفاق أوسلو وإعادة تدوير المؤسسات الوطنية وفق ذات الآلية.
لا توقع باجتراح جديد في اجتماع المجلس الوطني المنعقد تمامًا كما الاجتماعات العامة التي رأسها عباس للمؤسسات التي يديرها رغم النبرة العالية التي كانت تسبق كل اجتماع. فبعد الاعتراف الامريكي للقدس عاصمة لـ”إسرائيل” لم تسفر اجتماعات الرئيس على صُعد المجلس المركزي لمنظمة التحرير، واللجنة المركزية لحركة فتح، واللجنة التنفيذية للمنظمة عن خطوات فعلية ذات تأثير لمجابهة هكذا قرار وما يسستبعه من اجراءات صفقة القرن.
حالة الجمود على مستوى الرؤى والبرامج السياسية وكذا حالة التكلس التي اصابت مشغلات الحالة السياسية لا يمكن أن تؤسسا “لمشروع وطني” فضلا عن يدفع به قُدما في وجه تحديات تعصف بالقضية الوطنية برمتها. ولا يمكن للشرعية ان تُمنح صكا أبديا وفق مكتسبات محطات سابقة من التاريخ دون مجاراة سيره إلى محطاته الحالية. ثمة فواعل حقيقية على الارض لن يؤدي تجاهلها إلا لمزيد من الانقسام والضعف في قوة المجابهة الوطنية، وثمة أيضًا شعب يجب أن لا يصادر حقه باختيار من وماذا يمثله.