كثيرًا ما نقوم بإطلاق الأحكام العامة تجاه شخصيةِ أحدهم أو سلوكياته وتصرفاته وأفكاره، وغالبًا ما يحدث ذلك دون أنْ نتعمّق بذلك الحكم أو الآلية التي أدت إلى استنتاجه والعوامل التي بُنيَ عليها. ومع الوقت يصبح الأمر أشبه بالآليّ، أيْ أنه يخرج من نطاق الوعي أو الذاكرة، فتصبح تلك الأحكام تحدث عن طريق معالجة تلقائية سريعة يقوم بها الدماغ.
وبسبب العملية تلك؛ فغالبًا ما يسهل أنْ تدخل تلك الأحكام والأفكار داخل دائرة الخداع فتخلو من الدقة والمصداقية، ولا تعدو بكونها سوى أوهام أو استدلالاتٍ ناتجة عن عدة عوامل. لكن هل فكرت مرةً بالسبب الذي يدفعك للحُكم على سلوكِ صديقك بطريقةٍ تختلف كليًا عن حكمك على سلوك شخصٍ آخر لا تربطك به علاقة صداقة أو قرابة، على الرغم من تشابه السلوكين تمامًا؟
تخيّل أنك تجلس في حديقةٍ ما، وبالقرب منك تجلس فتاةً تتحدث بالهاتف بصوتٍ عالٍ مليء بالضحك والقهقهات، هنا قد تبدأ بالتفكير بأنّ تلك الفتاة مزعجة، لا تكترث لخصوصيتها ولا لراحة الآخرين في الأماكن العامة، أو ربما قد تطلق عليها وصف بغيضة أو تبدأ بازدرائها. لكن ماذا سيحدث لو كانت صديقتك هي التي تتحدث بنفس الطريقة تلك؟
حسنًا، لنْ يأخذ معك الكثير من الوقت لتصل إلى إجابةٍ أو استنتاجٍ مفاده أنّك لن تتضايق من سلوك وتصرف صديقتك هذا، بل ربما ستبدأ بالضحك معها وعلى ما تقوله في الهاتف، أو تبدآن بإطلاق النكات بعد انتهائها. أليس كذلك؟
نميل إلى عزو الصفات الإيجابية لسلوكيات وشخصيات الأفراد الذين نحبّهم، أو نميل لغضّ النظر عن ما هو سلبيّ وسيء، بعكس ما نفعله تجاه منْ لا نعرفهم
غالبًا أنتَ مدركٌ أنه لا يوجد ما يسمّى بالموضوعية حين يتعلّق الأمر بأصدقائك أو عائلتك أو مَن تعرفهم عن قُرب، فمن الطبيعي أنْ تقوم بتقييم شخصياتهم وسلوكياتهم وأفكارهم وما يقومون به بشكلٍ أكثر إيجابية، بغض النظر عن أدائهم الفعليّ أو نتائج تصرفاتهم أو نواياهم، فيما لو قارنتَ ردة فعلك أو تقييمك أو حكمك على أحدٍ آخر غريب ليس بصديقك حين يقوم بالفعل ذاته أو يأتي بنفس النتائج.
يعزو علم النفس الاجتماعي ذلك الاختلاف المتباين إلى عدة أسباب؛ قد يكون أحدها أنّنا نحكم على سلوك الأشخاص الذين نعرفهم بطرق تتفق مع موقفنا العام تجاههم، لذلك فإننا دائمًا ما نميل إلى عزو الصفات الإيجابية لسلوكيات وشخصيات الأفراد الذين نحبّهم، أو نميل لغضّ النظر عن ما هو سلبيّ وسيء، بعكس ما نفعله تجاه منْ لا نعرفهم بالقدر الكافي أو مَن نكنّ تجاههم بعض المشاعر السلبية.
كما أنّنا غالبًا ما نميل للحكم على على الأشخاص الذين نعرفهم بطرقٍ تساعد أو تدعم مطابقة انطباعاتنا المحددة عنهم، فعلى سبيل المثال، خذ على سبيل المثال أنك كوّنت انطباعًا إيجابيًا عن صديقٍ لك كثير الكلام، فإنّك وقتها لن تتضايق من كثرة كلامه أو حتى ستصبح غافلًا عن هذه الخصلة فيه نظرًا لأنك كوّنت انطباعًا محددًا عنه سابقًا، أما في حال قابل غريبٌ ما صديقك ذاك، فمن الطبيعي أن يرى الغريب أنّ صديقك كثير الكلام وربما يجد هذا السلوك سلبيًا.
نحن نحبُّ أن تكون تصوراتنا عن الأشخاص الذي نعرفهم ثابتة لا تتغير، ما يجعلنا ميّالين لتكوين الصور التمثيلية الإيجابية عنهم دون أن نغيرها
ربما هنا نستطيع القول أيضًا أنّنا نرى أنفسنا من خلال أصدقائنا ومعارفنا المقرّبين، فصورة ذواتنا نستشفّها من خلالهم ومن خلال سلوكياتهم وتصرفاتهم التي نتعامل معها ونكوّن روابط بينها، وهذا يقودنا إلى أنّ أيّ حكم سلبيّ على صديقك أو قريبك فقد يعني بطريقةٍ أو بأخرى أنه حُكم سلبيّ عليك أنت أو على صورة ذاتك التي تنعكس من خلاله أيضًا.
عدا عن أنّ أدمغتنا تميل بطيعتها إلى حب الاستقرار والخوف من التغيّر والتقلب، وبالتالي فنحن نحبُّ أن تكون تصوراتنا عن الأشخاص الذي نعرفهم ثابتة لا تتغير، ما يجعلنا ميّالين لتكوين الصور التمثيلية الإيجابية التي تجعلنا نتبأ بسلوكياتهم المستقبيلة دون الحاجة لبذل الكثير من الجهد أو الطاقة في ذلك.
وبما أنّنا نكون وصلنا لمرحلةٍ من الأمان معهم، فمن الطبيعي أنْ تكون تلك الصور التمثيلية إيجابية بالضرورة، نظرًا لأنّ أيّ صورةٍ سلبية ستكلّف نفسياتنا بعض الألم أو الكثير منه. وهنا قد يفسّر علم النفس التطوريّ الأمر بكونه وسيلة “غِراء اجتماعي”، تعمل بدورها على زيادة تماسك الأفراد داخل المجموعة الواحدة، واستثناء من هم خارجها عن طريق الحُكم السلبيّ عليهم. وبالتأكيد فإنّ السبب الأساسيّ لكلّ هذا وثقًا للنظرية النفسية الوراثية هي الرغبة بالنجاة والبقاء على قيد الحياة التي طوّرها الإنسان قبل عشرات آلاف السنين.
قد يكون أيّ حكم سلبيّ على صديقك يعني بطريقةٍ أو بأخرى أنه حُكم سلبيّ عليك أنت أو على صورة ذاتك التي تنعكس من خلاله أيضًا
كما أنّ هذه الآلية أيضًا، وفقًا لعلم النفس الإدراكيّ، توفّر لنا إحساسًا بتماسك وترابط الكون والعالم من حولنا دون إرادةٍ منا أو نية مسبقة، فكلّ ما في الأمر أنّ عقولنا تتلقّى شبكة معقّدة من المعلومات التي تعجز عن تحليلها، فتبدأ بإنشاء نظّام مبسّط ومنظّم للغاية، تجمع فيه تلك المعلومات وتقولبها في قوالب نمطية يسهل الوصول إليها لاحقًا، وتساعدنا على تصنيف الأفراد والسلوكيات والتصرفات بناءً على تمثيلاتٍ يبنيها الدماغ.
لكنّ الأمر لا يتوقف على بناء تلك التمثيلات وحسب؛ فسرعان ما تتحول إلى عواطف أو تأثيرات انفعالية ثمّ إلى سلوكيات ترتبط بأحكام متسرعة وتقييمات تخلو من الدقة، فنرى سلوكيات مَن نحبهم بطريقة إيجابية، أما الآخرين فلا نتوانى عن إطلاق الأحكام عليهم والتسرع بتقييمهم بسلبيةٍ، دون أنْ نكلّف عقولنا عناء الغوص فيما وراء تلك السلوكيات والبحث عن أصولها.
وبالتالي فمن السهل علينا رؤية الأمر الأكثر سلبية من زاويةٍ بعيدة، فكّر بالأمر كما لو نظرتَ إلى شخصٍ ما تعرفه، كان من أصدقائك المقربين يومًا ما لكنه لم يعد اليوم. بالتأكيد ستبدأ بالنظر بطريقة أخرى، أقلّ إيجابية إنْ صحّ التعبير، إلى شخصيته وتصرفاته وسلوكياته وأفكاره ومبادئه بالحياة، بطريقة تختلف تمام الاختلاف عن تلك التي كنتَ عليها أثناء صداقتكما.