في رحلة مع المعتقَل العربي منذ لحظة اعتقاله إلى دخوله لقسم الشرطة واستجوابه ومحاكمته وصولًا باللحظات الأولى في الزنزانة ولحظات انتظاره ربما لشهور أو لسنوات حتى تحين لحظة الإفراج عنه أو لحظة إعدامه، تلك رحلة لا تتم إلا بالصبر، فهو بالنسبة للمعتقلين مفتاح الفرج ووسيلة التحمل الوحيدة، كان الأدب وسيلة المعتقلين لجعل العالم يسمع صرخاتهم داخل المعتقلات التي يعاقبون فيها حتى لو صرخوا.
أينما كان الاستعمار كان هناك أدب السجون، وأينما كان العذاب والتنكيل بالنفس البشرية بأقسى أنواع الألم خرج التعبير عن النفس والمشاعر في أبهى وأصدق صوره في الأدب، ليكون توثيقًا تاريخيًا لمعاناة السجناء والمعتقلين نتيجة أفعال حيوانية وقمعية للسيطرة على السجناء ونزع الاعترافات منهم قسريًا حتى لو لم توجد جريمة يُدانون بها فعليًا.
في كتاب “الحيونة الإنسانية” عُرضت تجارب عن التعذيب أثناء الثورة الجزائرية، وُصف فيها الجلادين كالآتي: “نميّز بين صنفين من الجلادين: هناك الذين قبلوا أن يجعلوا من هذه المهنة القذرة وسيلة للحصول على خبزهم اليومي، وهناك الذين يدافعون بوعي أو بدون وعي عن المواقف الاجتماعية والامتيازات التي تخصهم بها سلطة الأجهزة التي ترأسهم، وكما في كل مكان الصنف الأول يحتمي خلف أدوارهم كمُنفذين، أما الآخرون يجدون مسوّغات لأعمالهم في الترسانة الإيدلوجيّة“.
لقد اتفق المفكر الفرنسي سارتر مع ما ورد في كتاب “الحيونة الإنسانية” وقال في مقدمة كتاب “معذبو الأرض” أن المستعمر لا يشبه الإنسان، وأن كل من يستعبد الإنسان أو يذله ليس بإنسان أيضًا، حيث كانت مهمة القوى الاستعمارية تحويل ذلك المبدأ إلى واقع يظهر في محاولة المستعمر أو المستوطن إلى معاملة الشعب كدواب تمشي على الأرض، واتفق معه المفكر الألماني الأصل “إيريك فروم” قائلًا أن “السلطة هي القدرة على تحويل الكائن الحي إلى جثمان و من ثم إلى شيء”.
رواية شرف
من بين الروايات المهمة من أدب السجون في العالم العربي هي رواية “شرف” للكاتب المصري “صنع الله إبراهيم” والتي اُختيرت من قِبل “اتحاد كتاب العرب” كواحدة من أهم مائة رواية عربية على مر العصور، حيث يفضح فيها الكاتب العالم المسكوت عنه خلف القضبان، حيث يروي قصة شاب فقير تضطره الظروف لارتكاب جريمة قتل بدافع الدفاع عن الشرف ضد “جون” الأجنبي الذي حاول الاعتداء عليه جنسيًا، ليدخل “شرف” إلى السجن ويكتشف هناك هذا العالم الموبوء الذي يجب عليه فيه أن يتخلّى عن “شرفه” من أجل المحافظة على حياته.
“لم يجد الأهل وسيلة للتعبير عن رأيهم سوى الحجارة. تصورت الشرطة أنها تواجه انتفاضة على الطريقة الفلسطينية و ردت بإطلاق الرصاص على الطريقة الإسرائيلية”
― صنع الله إبراهيم
كما فضح فيها “صنع الله إبراهيم” كل ما يخل بالمجتمع المصري من الانتهاك والظلم والاستغلال والفساد، كما تعتبر سردًا وثائقيِا، مما يجعل روايات صنع الله ابراهيم مسجلة ووثائق لما يلحق بالمجتمع المصري من تغييرات عبر الفترات الزمنية المختلفة، حيث تدور أحداث الرواية مشيرة إلى أهمية تأثير العوامل الاقتصادية في تحقيق العدالة والحصول على الحقوق، حيث كان السجن بمثابة مرآة عاكسة للواقع المصري في الخارج وقت الانفتاح الاقتصادي والسياسة النيوليبرالية الجديدة.
رواية “شرق المتوسط”
من أكثر الروايات السياسية المتطرقة لحال المعارضة السياسية في البلاد العربية، فهي من أكثر الروايات التي تحدثت عن موضوع السجن نفسه بدلًا من سردها لأحداث وثائقية، استخدم فيها “منيف” تقنية تعدد الرواة ليتعرف القاريء على الأحداث من أكثر من وجهة نظر وليس من وجهة نظر السجين فحسب.
اعتمد “منيف” على المفارقات في روايته، ما بين الرجل والمرأة من خلال التركيز على وضع المرأة في العالم العربي، وما بين الشرق والغرب إذا تناولت الرواية حياة البطل في سبعة سجون في منطقة شرق المتوسط وذهابه للعلاج مما أصابه من أمراض داخل السجن في المغرب، كما تناول مفارقات بين الحاضر والماضي وبين السجان والسجين والواقع والحلم وعالم القمع وعالم الحرية.
صدرت الطبعة الأولى من الرواية عام 1975، حاول “منيف” ألا يظهر مكانًا جغرافيًا بشكل مباشر ليوحي بأنه لا فارق بين الدول العربية من حيث أنظمتها السياسية القمعية. وتصويره لطبيعة السجان السادية في أي مكان يتواجد فيه.
“لماذا لا يقرأ الجلادون والحكّام التاريخ؟ لو قرأوا جزءاً من الأشياء التي يجب أن يقرأوها، لوفّروا على أنفسهم وعلى الآخرين الشئ الكثير.ولكن يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته،والحرية،أغلب الأحيان،غالية الثمن “
عبدالرحمن منيف
رواية تلك العتمة الباهرة
من أشهر روايات أدب السجون في العالم العربي للكتاب المغربي “الطاهر بن جلون” وحصلت بنسختها الإنجليزية على جائزة دبلن للآداب عام 2004، بُنيت الرواية على شهادة السجين عزيز بنبين، وهو معتقل سابق في سجن تزمامرت في المغرب، الذي أبقته السلطات سرًا لمدة طويلة، وتدور أحداثها على لسانه عن مجموعة من 23 سجينًا اتهم معهم بتنفيذ محاولة “انقلاب الصخيرات” على ملك المغرب حسن الثاني بداية السبعينيات.
على مدى ما يزيد عن 220 صفحة في رواية “تلك العتم الباهرة” يصف الكاتب ببلاغة حياة السجين ورفاقه في السجن، الذي كان يسميه الحفرة أو المقبرة، حيث كانت المهجع والمأكل والمشرب والحمام في الوقت نفسه، على ارتفاع ألفي متر على سفوح جبال الأطلس، مع البرد والمرض والطعام غير الصالح للأكل، انتهاء بموت السجناء واحدًا تلو الآخر على مرأى ناظريه خلال ثمانية عشر عامًا من السجن.
“في تلك اللحظة عشت هنيهات من الطمأنينة الغامرة. فما عاد شيء يقدر على أن يصيبني. أن أخرج، أن أبقى، أن أنجو، أن أموت؛ سيان عندي. فلسوف أكون من الناجين ما دامت لي القدرة على الصلاة وعلى التواصل مع الخالق. لقد بلغت أخير عتبة الأبدية، هناك حيث لا وجود لحقد البشر وخستهم”
طاهر بن جلون
مذكراتي في سجن النساء
تحكي الكاتبة المصرية “نوال السعداوي” تفاصيل اعتقالها وفقًا لأوامر الرئيس المصري “أنور السادات” باعتبار المعارضين السياسيين الكتاب متآمرين ضد الوطن وأنهم سببًا من أسباب الفتنة الطائفية، حيث سلطت الكاتبة من خلال روايتها لتفاصيل السجن بدقة فترة حكم السادات في مصر وكيف كان كل شيء مراقبًا من جدران المنازل والمكالمات الهاتفية من خلال ما صورته الكاتبة بظ “حكم الفرد الواحد”.
تطرقت “نوال السعدواي” لقصص السجينات من “عنبر غير السجينات” لتروي تفاصيل الضغوط الاجتماعية في ذلك الوقت الذي أدت بهم إلى دخول السجن من أسباب دفعتهم للقتل والسرقة والدعارة الذي أدى بهم إلى واقع أليم في السجن لم ينتهي إلا باغتيال السادات وإفراج حسنى مبارك لهن لتوصف “نوال السعداوي” أن السجن من قبل الإفراج كان قضبانًا حديدة ليتحول فيما بعد إلى قضبان من مادة غير مرئية.
“لايموت الانسان في السجن من الجوع أو من الحر او البرد أو الضرب أو الامراض أو الحشرات لكنه قد يموت من الانتظار”
نوال السعدواي
العصفور الأحدب
مشهد من مسرحية العصفور الأحدب
“يقول الكاتب “محمد الماغوط” في إحدى لقاءاته بداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن، معظم الأشياء التي أحبها، أو اشتهيها، وأحلم بها رأيتها من وراء القضبان، المرأة، الحرية، الأفق”.
أن تُسجن وتهان وتعذب بسبب فكرة، هذا ما جعلني أشعر أن شيئاً تحطم في أعماقي غير الاضلاع، شيء أهم من العظام – محمد الماغوط
العصفور الأحدب تجسيدًا لأدب السجون على المسرح، حيث اشتهر “الماغوط” بتوظيف السخرية في الأدب من خلال التهكم في الميدان الاجتماعي والسياسي، كتب “الماغوط” المسرحية عام 1960 من محبسه، وسبب التسمية بالعصفور الأحدب يعود إلى انتشار الزنازين ذات الارتفاعات المنخفضة التي تُشكل تقوسًا في الظهر لدى السجناء، أما العصفور فيرمز به الماغوط إلى الإنسان الحر.
يسلط الماغوط الضوء على السلطة التي تلاحق المواطنين بشكل مستمر بسبب خوفها أن يقيموا مؤامرات ضدهم، فنرى في المسرحية أن الشرطة تلقي القبض على المواطنين دون أن يقترفوا أية جرائم تستحق السجن والتعذيب.
وُجد أدب السجون في كل اللغات وفي كل الحقب والأزمان، لقد كان ملازمًا للطبيعة البشرية أينما وُجد القمع والذل، لا تنتهي القائمة عند هؤلاء، إلا أنهم كانوا من بين الأصوات التي قررت إيصال أصواتهم وأصوات المعتقلين والسجناء إلى العلن لتكون كلمتهم سلاحًا للمقاومة وتوثيقًا لذكرى من ماتوا وراء القضبان، هناك الآلاف من أمثالهم لم يستطيعوا على نشر كلمتهم، وهناك الكثيرين من عادوا إلى ماراء القضبان بسبب كلماتهم أيضًا، إلا أن هذا لم يمنع أن يكون أدب السجون واحدًا من أهم أنواع الأدب المنتشرة في العالم العربي والرائدة كذلك.