ظهرت أولى غرسات الطبقات الرأسمالية بشكلها الحالي في مصر مع بداية سياسة الانفتاح التي شهدتها البلاد في السبعينيات، عندما فتح الرئيس أنور السادات الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، ليتحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد يسيطر عليه القطاع الخاص، وليتنامى حجم شركات القطاع الخاص خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات.
حسب تقرير أستاذ الاقتصاد عمرو عدلي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فقد توسعت حصة القطاع من خلال العمل في أنشطة كثيفة رأس المال وذات قيمة مضافة أعلى، كما انخرطت شركات القطاع الخاص في قطاعات الصناعة التحويلية، مثل السياحة، والتشييد والبناء، واستيراد التكنولوجيا، بالإضافة إلى أنشطة التصدير مثل تصدير المحاصيل الزراعية من الفواكه والخضار، مع تصدير السلع المصنّعة مثل الملابس الجاهزة والسجاد.
عصر مبارك.. نقل الثروة العامة إلى القطاع الخاص
كانت الانطلاقة الأكبر للقطاع الخاص ورؤوس الأموال الكبيرة في بداية التسعينيات، عند توقيع الحكومة المصرية آنذاك اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي يهدف إلى خصخصة شركات القطاع العام تدريجيًا، والتي كانت مرتكزًا أساسيًا لنقل الثورة إلى القطاع الخاص.
بالإضافة إلى تخفيف و إلغاء القيود في العديد من القطاعات الاقتصادية التي كانت تسيطر عليها شركات القطاع العام، ما أدّى إلى زيادة حصة شركات القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي في مصر على نحو غير مسبوق.
مشروع مبارك لتوريث الحكم لابنه جمال لم يكن مشروع جمال في الأساس، بل كان مشروع شريحة رجال الأعمال الصاعدة، الذين كانوا يخوضون معركة ضد الحرس القديم في تحالف الحكم
بحلول العام 2004 مع تولي حكومة نظيف الوزارة بدأت مرحلة جديدة، إذ دخل رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال شريكًا في الحكم، من خلال تولي مسؤوليات سياسية مباشرة، وتقلدهم بأنفسهم الوزارات التي تشرف على أعمالهم، لتوفر الحكومة الجديدة دعمًا غير مسبوق للقطاع الخاص، وذلك في شكل إعفاءات ضريبية وحوافز استثمارية، وتخصيص الأراضي بأسعار بخسة، وتوفير طاقة مدعومة، لتتحول مصر نحو اقتصاد يهيمن عليه القطاع الخاص، مع تراكم عالٍ لرأس المال والإنتاج من قبل عائلات تملك مجموعات من الشركات الضخمة، وتعمل في قطاعات متعددة.
هنا برز ما يُعرف بـ”رأسمالية المحاسيب” (بتعبير الاقتصادي المصري محمود عبد الفضيل)، والتي تصف نمطًا اقتصاديًا يتّسم بتبادل المنافع والخدمات بين الطبقة السياسية الحاكمة ورجال الأعمال. وفي هذا النظام، تمتلك الطبقة السياسية القدرة على إصدار تشريعات وقوانين تخدم أغراضًا محددة في مجالات الإنتاج والاستيراد والتصدير، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية للدولة.
في كتاب “رأسمالية المحاسيب”، يرى محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن هذا الوضع مكّن فئة من رجال الأعمال المقربين من الدائرة الضيقة للسلطة السياسية الحاكمة، والذين يبدون ولاءً لها، من الاستفادة من هذه التشريعات والقوانين، ونتيجة لذلك راكم هؤلاء الأفراد ثروات مالية ضخمة، وهو ما خلق الأساس لصعود نفوذ هذه الطبقة بلا توقُّف حتى هذه اللحظة.
وتكشف دراسة صادرة عن البنك الدولي عام 2015 تأثير ما أسمته بـ”رأسمالية الأهرام” على الإنتاجية في مصر، من خلال الربط بين العلاقات السياسية التي كان يتمتع بها رجال أعمال مقرّبون من نظام مبارك، وبين شبكة تضم 469 شركة تسيطر على قطاعات بعينها، وتحقيقهم أرباحًا ضخمة.
وتُظهر الدراسة كيف استفادت هذه الشركات من المعاملات التنظيمية التفضيلية، مثل الحماية التجارية ودعم الطاقة والحصول على الأراضي والتهرُّب من القوانين، ما جعلها تتمتع بأداء مالي أفضل مقارنة بالشركات الأخرى التي لا يتمتع أصحابها بعلاقة مع النظام أو الحزب الحاكم، ما أدى في النهاية إلى خلق بيئة اقتصادية مشوّهة تهيمن عليها الشركات المرتبطة سياسيًا.
ويجادل الباحث الاقتصادي وائل جمال في كتاب “الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين“، بأن مشروع مبارك لتوريث الحكم لابنه جمال لم يكن مشروع جمال في الأساس، بل كان مشروع شريحة رجال الأعمال الصاعدة، الذين كانوا يخوضون معركة ضد الحرس القديم في تحالف الحكم (بيروقراطية الدولة والأجهزة الأمنية وبالذات القوات المسلحة).
كما توسعت قوة الشركات التي يملكونها في الخارج، وأصبح ثمة شركات عابرة للقوميات وتتجاوز قيمتها مليارات الدولارات، وفي ظل أوضاع احتكارية وامتيازات غير محدودة من الدولة والضعف المؤسساتي داخل الأسواق، أصبح لها وزن غير مسبوق في الاقتصاد.
سنوات الغليان.. تمهيد الأرضية لتحالف الحكم الجديد
أتت ثورة يناير التي كانت موجّهة ضد تحالف الحكم، والذي كانت الشريحة العليا من أصحاب رؤوس الأموال جزءًا لا ينفصل عنه، وتحت الضغط الشعبي في الميادين اضطر النظام إلى الزجّ ببعض رجال أعماله في السجون إلى حين.
يقول وائل جمال في دراسته: “بدأت حينها طبقة رجال الأعمال في فقدان العديد من الامتيازات التي ظلوا يتمتعون بها لسنوات طويلة خلال عهد مبارك، وصدرت مجموعة من الأحكام القضائية ضدهم، ولكن نفوذهم وتحالفاتهم الخارجية استمرا”.
مع تراجع الضغط الشعبي، استعادت هذه الطبقة قوتها ونفوذها بدايةً من العام 2014، وعادت التشريعات لتخدم مصالحها، مثل قانون تحصين العقود الحكومية، وقانون التصالح مع رجال الأعمال، وتعديل قانون المزايدات والمناقصات بشكل يتيح للحكومة إرساء عقود تمليك الأراضي وغيرها بالأمر المباشر لرجال الأعمال المصطفين، بالإضافة إلى التخفيضات الضريبية وغيرها من الامتيازات التي عطّلتها سنوات الغليان الثوري من قبل.
واستفادت تلك الشريحة من تحرير قطاعات الغاز والمياه، ومن طرح الشركات العامة في البورصة الذي أفاد شركات الوساطة المالية وبنوك الاستثمار، فضلًا عن نقل المزيد من الأصول العامة إلى يد القطاع الخاص.
كشفت دراسة جمال أن القطاع المالي (المصارف والوساطة المالية) ظل يواصل التراكم، وحقق أرباحًا هائلة خلال السنوات القليلة الماضية لم تكن تأتي من النشاطات الأساسية للبنوك والمتعلقة بإقراض الأنشطة الاقتصادية المتنوعة، بل من الإقراض الخالي من المخاطر للحكومة ذي الفائدة المرتفعة على أذون الخزانة.
أي إن البنوك المصرية تجمع ودائع ومدخرات المصريين وتقرضها للدولة وتستفيد بفارق الفوائد، ليحقق مديرو البنوك وأصحاب الأسهم من رجال الأعمال أرباحًا هائلة، وهو النشاط الذي يستمرّ حتى اللحظة، والذي يفيد في المقام الأول أصحاب الأسهم في البنوك بالإضافة إلى المدراء بطبيعة الحال.
المثال الأبرز لاستفادة رجال الأعمال في عهد الرئيس السيسي يتعلق بشركة “أوراسكوم للإنشاءات” التي تملكها عائلة ساويرس التي تعدّ العائلة الأغنى في مصر وقارة أفريقيا، إذ تلقت الشركة في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 مطالبة من “مصلحة الضرائب” بتسديد ضريبة بقيمة 2.2 مليار دولار، عن صفقة بيع شركة “أوراسكوم بيلدينغ” لمجموعة “لافارج” الفرنسية بقيمة 12 مليار دولار عام 2007.
ونشب خلاف بين الطرفين نتيجة رفض الشركة تسديد الضريبة، ما دفع وزير المالية حينها إلى اللجوء للنيابة العامة لتحريك الدعوى الجنائية والتحقيق معها، بسبب التهرب من أداء ضرائب مستحقة عليها.
وفي مارس/ آذار 2013 أصدر النائب العام، المستشار طلعت عبد الله، حينها قرارًا بوضع كل من رجلَي الأعمال أنسي ساويرس، مؤسس شركة “أوراسكوم للإنشاءات والصناعة”، ورئيس مجلس إدارة الشركة الابن ناصف أنسي ساويرس على قوائم الممنوعين من السفر، وتوترت العلاقات بين عائلة ساويرس وحكومة الرئيس المصري السابق مرسي.
وبعدها بنحو شهر، في أبريل/ نيسان 2013، توصّلت الشركة إلى اتفاق مع مصلحة الضرائب، لتسوية النزاع مقابل سداد الشركة 7.1 مليارات جنيه على دفعات، وجرى رفع اسمَي ناصف وأنسي ساويرس من قوائم المنع من السفر.
وسددت الشركة بعدها 2.5 مليار جنيه، ثم توقفت عن السداد بعد تغير الظروف السياسية في 30 يونيو/ حزيران، ليصدر في سبتمبر/ أيلول 2014 حكم بالحبس 3 سنوات وغرامة 50 مليون جنيه على رجل الأعمال ناصف ساويرس، لامتناعه عن سداد شيكات مستحقة لمصلحة الضرائب المصرية.
لكن بعدها بأيام في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، قضت لجنة الطعن الضريبى بمصلحة الضرائب ببراءة ناصف ساويرس من تهمة التهرب الضريبي، مع وقف جميع الأحكام ضد الشركة.
وعقب عزل الرئيس مرسي، كانت الشركة قد تقدّمت بطلب للنائب العام بهدف إلغاء اتفاقية التسوية التي وقّعتها بدعوى أنها تمّت تحت ضغوط سياسية، وأتى الحكم في صالحها واستردّت المبلغ الذي سددته مسبقًا بقيمة 2.5 مليار جنيه، ليقوم مسؤولو الشركة حينها بالتبرع بالمبلغ لصندوق “تحيا مصر” الذي أنشأه الرئيس الجديد حينها عبد الفتاح السيسي.
كانت حالة “أوراسكوم” كاشفة عن استمرار تأثير رؤوس الأموال في لعب دور حيوي خلال المرحلة الانتقالية التي شهدتها مصر منذ العام 2011، ومشاركتها مشاركة رئيسية في الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين، في عام 2013.
تمّ ذلك من خلال ممارسة ضغوط في لعبة كرّ وفرّ، من خلال الامتناع عن الاستثمار في الاقتصاد، بهدف الضغط على نظام الحكم لضمان عدم اتخاذ إجراءات ضد الشركات والاستثمارات التي يمتلكونها، بالإضافة إلى استخدام وسائل الإعلام التي يملكونها لمعارضة نظام الإخوان وتأجيج الجماهير ودفعها إلى التظاهر، مع نزع البُعد الاجتماعي عن الخطابات السياسية واختصارها في معارك الدفاع عن هوية الدولة المصرية ذات الطابع العلماني.
في هذا السياق، كان رجال الأعمال قد ارتعبوا من زيادة قوة العمال السياسية في ظل المزاج الثوري السائد، وأغضبهم عجز الإخوان عن كبح المزاج العمالي الثوري في البلد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى خشوا منافسة أصحاب المصالح التجارية من جماعة الإخوان الذين اقتربوا من السيطرة على أجهزة الدولة التشريعية والإدارية (التي تمنح العقود وتوزّع الصفقات التجارية وتوفر الوظائف)، وكذلك القدرة على تصميم القوانين وفقًا لمصالحهم.
لذا سخّرت شريحة رجال الأعمال كل إمكاناتها المالية وأدواتها الإعلامية للقضاء على أي شكل للديمقراطية، عبر اللجوء إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية التي تعدُ قيادتها صاحبة المصلحة الكبرى في استعادتها السلطة، ودعمت بكل قوة تحالف الحكم الجديد بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي الذي سرعان ما سيصبح رئيسًا.
المصطفون لدى السيسي.. وضحاياه
يعتقد الخبير الاقتصادي عمرو عدلي، في دراسته عن التحولات التي شهدتها الشركات الكبرى الخاصة بعد ثورة يناير، أنه رغم أن الثورة وما تبعها من تطورات وتغيرات لم تقلص الوزن الاقتصادي الفعلي لشركات القطاع الخاص الكبرى، فإن السطوة السياسية التي حظيت بها تلك الشركات قد انحسرت على نحو ملحوظ عمّا كانت عليه إبّان عهد الرئيس السابق حسني مبارك. فمعظم عمليات اتخاذ القرار الاقتصادي وغيرها، انتقلت إلى الجيش أساسًا وأطراف أخرى من بيروقراطية الدولة.
من هذا المنطلق، عمل النظام الجديد على تفكيك شبكات الفساد والمحسوبية القديمة، التي انتفع منها أصحاب الشركات الكبيرة في عهد مبارك، وجرى تغيير هياكلها من خلال إقصاء المستفيدين السابقين منها، مع إجراء تغييرات هيكلية عميقة في السلطة الاقتصادية المتحالفة مع نظام الحكم، لضمان استمرار العلاقة الوثيقة بين الدولة ورؤوس الأموال لكن بشكل مختلف، وذلك من خلال إعادة تشكيل شبكات المحسوبية.
نتج عن ذلك استبدال “المحاسيب” القدامى بآخرين جدد، وقد تمكّن هؤلاء الجدد من استغلال علاقاتهم في دعم النظام، واستغل البعض صلاتهم السياسية في الحصول على امتيازات غير محدودة وقدرة على النفاذ إلى موارد الريع، التي تدفقت بأشكال مختلفة إلى الاقتصاد المصري.
الحكومة تنفق.. ورجال الأعمال يتربّحون
خلال السنوات الماضية، توسعت الحكومة المصرية في تشييد العديد من المشاريع القومية الكبرى، وركزت على قطاعات مثل الطاقة والمياه والنقل، وفي الوقت نفسه جرى تمويل هذه المشاريع من خلال قروض المؤسسات الدولية الكبرى والبنوك الأجنبية، ولا تفضّل هذه الأطراف العمل مع المؤسسة العسكرية أو المؤسسات البيروقراطية الأخرى، وبدلًا من ذلك تفضّل العمل من خلال شركاء من القطاع الخاص.
من هنا أُسندت هذه المشاريع إلى شركات مصرية عابرة للقوميات، ولديها تواجد في العديد من الدول حول العالم وتتمتع بثقة مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأس تلك الشركات أتت “أوراسكوم للإنشاءات” المملوكة لعائلة ساويرس، و”السويدي إلكتريك” المملوكة بحصة أغلبية لعائلة السويدي.
ويمكن عدّ شركة “أوراسكوم” مثالًا على الفوائد الهائلة التي حققها القطاع الخاص نتيجة الإنفاق الحكومي غير المسبوق. ويكشف تحقيق صحفي لمنصة “متصدقش” كيف تحولت “أوراسكوم” من تسجيل خسائر بلغت نحو 9.1 مليار جنيه في العام 2012 و1.4 مليار جنيه في العام 2013، إلى تحقيق أرباح ضخمة بفضل الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية.
وتظهر بيانات الإفصاح الخاصة بالشركة طفرة غير مسبوقة في الإيرادات والأرباح، نتيجة الزيادة الكبيرة في حجم عقود المشاريع التي كانت تحصل عليها سنويًا، منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم عام 2014.
إذ بلغ إجمالي إيرادات شركة “أوراسكوم” فترة 2014-2023 نحو 35.6 مليار دولار، مع صافي أرباح بلغ نحو 866 مليون دولار، ورغم توسع الشركة الجغرافي وانتشار أعمالها في الولايات المتحدة ومنطقة الخليج، فإن مشاريع البنية التحتية التي تنفّذها الحكومة المصرية كانت تمثّل الجزء الأكبر من حجم وقيمة أعمال الشركة.
وخلال الفترة نفسها (2014-2023)، كان متوسط نصيب مصر من المشاريع التي تنفذها الشركة نحو 68%، وفقًا لتحليل الميزانيات ونتائج الأعمال السنوية الذي أجرته منصة “متصدقش”.
وفي مناسبات كثيرة، انتقدت عائلة ساويرس تدخل الدولة في الاقتصاد وتقلُّص حجم القطاع الخاص، لكن في حقيقة الأمر إن الدور المتزايد للحكومة المصرية في الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة ساهم بشكل فعّال في توسيع أعمال شركة “أوراسكوم” كما توضح لنا الأرقام، إذ حققت إيرادات وأرباحًا طائلة بالعملة الأجنبية، بينما تحمّل المواطن محدود الدخل أعباء هذه الديون على شكل ضرائب غير مباشرة.
السيطرة على الأرض والموارد
على عكس عائلة ساويرس، لم تنتقد عائلة طلعت مصطفى أي شكل من أشكال تدخل الدولة في الاقتصاد، ليس لأن رأس العائلة هشام طلعت أُنقذ من حكم بالمؤبد بعد اتهامه بقتل المغنية الإماراتية سوزان تميم، مقابل صفقة الدولة التي أسفرت عن شراء أراضٍ شاسعة في العاصمة الإدارية، والمشاركة في عدة مشاريع للتطوير العقاري، بل لأن العلاقة بالدولة كانت قاطرة العائلة في حيازة الثروة.
وقد تحقق ذلك سواء في عصر مبارك، إذ جرى تخصيص أراضي مشروع “مدينتي” (بمساحة 33.6 مليون متر مربع) في العام 2005 لطلعت مصطفى بمخالفة للقانون بحكم محكمة مصرية؛ أو في عهد السيسي، إذ حصل على تخصيص أراضي مشروع “سيليا” في العام 2018، وفي العام 2021 حصل على تخصيص أراضي مشروع “نور” في ظل حالة من التعتيم بموجب قانون المزايدات والمناقصات السابق ذكره.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، دخل طلعت مصطفى في شراكة مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة لإقامة مشروع استثماري باسم “ساوث ميد“، بعد نزع القوات المسلحة ملكية 23 مليون متر مربع من أراضي منطقة جميمة من السكان، وتعويضهم بـ 2500 جنيه للمتر السكني، بينما طرحت مجموعة طلعت مصطفى سعر المتر بعد 6 شهور فقط بـ 180 ألف جنيه.
وفي أواخر فبراير/ شباط الماضي، ظهر هشام طلعت مصطفى رفقة مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، ومحمد السويدي مدير صندوق أبوظبي، أثناء توقيع الاتفاق على تنمية منطقة رأس الحكمة، بوصفه الشريك الإماراتي المحلي في صفقة تطوير المنطقة، ولم يُعرف بعد دور طلعت مصطفى في الصفقة، وما إذا كان سيكون مالكًا للأرض أم شريكًا في التطوير.
لكن في الحالتين، كان منح الأراضي الطريق المَلكية لتحقيق ثراء سريع لرجال الأعمال عمومًا، ولطلعت مصطفى على سبيل التحديد، إذ من خلال الحصول عليها بثمن بخس وطرح الوحدات السكنية المزمع إنشاؤها في السوق وجمع الأموال اللازمة للإنشاءات، تقتطع الأرباح وتكون الثروات، حتى أصبح هشام طلعت مصطفى (بدعم حكومي) أكبر مالك للأراضي في مصر.
لكن منح الأرض لم يكن الطريق الوحيد للصعود، إذ كانت إمكانية الحصول على العقود الحكومية طريقًا أقصر لتراكم الثروة، وهذا ما حدث بشكل مثير مع رجل الأعمال السيناوي الأشهر حاليًا إبراهيم العرجاني.
العرجاني الذي خرج من السجن عام 2010 بعد سجنه لنحو عامين إثر صراعه المسلح مع الشرطة واحتجازه العشرات من رجال الأمن، أصبح اسمه الآن يعني صلات وثيقة مع الجهات السيادية، وعلاقة بأعلى مستويات السلطة في البلاد.
بدأ العرجاني نشاطه بعد تأسيس شركة “أبناء سيناء” في مدينة العريش شمال سيناء عام 2010، لكنه لم يدخل دائرة الضوء إلا بعد أن تولت الشركة إدخال المواد اللازمة لإعادة إعمار قطاع غزة بعد الهجوم الإسرائيلي عليه عام 2014، ليتوسع نشاط العرجاني بعدها بفضل العقود الحكومية التي جعلته المسيطر الوحيد على كل أعمال المقاولات في سيناء.
ومن خلال تلك العقود الحكومية، تحوّل العرجاني في ظرف عقد واحد من سجين يعمل في التهريب، إلى صاحب إمبراطورية اقتصادية مترامية النشاطات من نقل الفلسطينيين في غزة إلى مصر (مع الرشاوى)، إلى حيازة حقوق تطوير حديقة الحيوان بالشراكة مع جهات أجنبية وعربية، إلى الحصول على توكيل بي إم دبليو بالمشاركة مع الصافي غروب (صهر السيسي) وعائلة الغانم، حتى أصبح “أبو عصام”، كما يطلق عليه، أحد أشهر وأقوى رجال الأعمال في البلاد.
المغضوب عليهم
في أثناء سعيه إلى إعادة تشكيل تحالف الحكم، طلب الرئيس السيسي في اجتماع مبكر بعد أسابيع من وصوله السلطة عام 2014، من عدد من رجال الأعمال أن يقدموا تبرعات لـ”مصر” اُستثمرت في مشاريع بنية تحتية لاحقًا.
ووفقًا لموقع “مدى مصر“، فقد ظنَّ الحاضرون أن التبرعات ستكون لمرة واحدة، أو أنه سيكون مطلوب تكرارها أكثر من مرة على فترات زمنية متباعدة، لكنهم لم يتخيلوا أن طلب التبرعات سيزداد مع الوقت ويشتد مع مجيء الأزمة الاقتصادية عام 2022.
في الربع الأخير من العام 2022، عقد الرئيس اجتماعًا آخر جمع عددًا من رجال الأعمال، وطالبهم بمشاركة الدولة في تسيير بعض المشاريع التي أطلقتها، سواء من خلال مساهمة مالية مباشرة، أو من خلال إدارة المشاريع من قبل القطاع الخاص لصالح الدولة، أو من خلال شراء القطاع الخاص لهذه المشاريع.
وعلى مدار العقد، خيّر رجال الأعمال بين التبرع لـ”مصر” أو بالأحرى لصندوق “تحيا مصر” الذي يشرف عليه السيسى شخصيًا، أو الحبس. فعلى سبيل المثال، صلاح دياب الذي تتوزع أعماله بين قطاعات البترول والزراعة، بالإضافة إلى ملكيته لجريدة “المصري اليوم”، لم يكن يتبرع لـ”تحيا مصر” فجرى توقيفه مرتين: الأولى عام 2015 حين قُبض عليه مع نجله بتهمة حيازة سلاح غير مرخص، ليفرج عنهما بعد 4 أيام عقب تدخل سريع من الإمارات.
أما الثانية فكانت في سبتمبر/ أيلول 2020، ولم تشفع له الوساطة الإماراتية، فاضطر دياب إلى تنفيذ ما طلب منه، ثم أُخلي سبيله بعد 40 يومًا من الحبس، وكان المطلوب منه وقتها التبرع بمبلغ ثابت لصندوق “تحيا مصر” والتنازل عن بعضه أصوله من الأراضي، والأهم التنازل عن حصصه في “المصري اليوم” التي كانت جريدة معارضة وأصبحت موالية للنظام.
تكرر ما حدث مع صلاح دياب بشكل أكثر قسوة مع رجل الأعمال رجب السويركي، صاحب متاجر “التوحيد والنور” الشهيرة، بتهمة “تمويل جماعة إرهابية”، وفي أبريل/ نيسان 2021 أُدين السويركي بتهمة مختلفة تتعلق بعدم اتخاذ احتياطات الأمن الصناعي في بعض فروع “التوحيد والنور”، وصدر بحقه حكم قضائي لـ 3 أشهر وغرامة 30 ألف جنيه.
لكن السويركي بقيَ في السجن سنة وشهرين، وخرج بعد التنازل عن الأموال التي تحفّظ الأمن عليها في منازل خاصة به ومنازل معاونين له، بالإضافة إلى التنازل عن أصول شملت عددًا من محال “التوحيد والنور” وعدة أراضٍ، وفقًا لتقرير “مدى مصر”.
ووفقًا لـ”مدى مصر”، شملت قائمة رجال الأعمال الذين تحركت ضدهم قضايا في الفترة الأخيرة أحمد العزبي مالك سلسلة “صيدليات العزبي”، الذي قُبض عليه في سبتمبر/ أيلول 2022، حيث تعهّد بعد الإفراج عنه بالتنازل عن نسبة من أعماله، وتمرير تبرع سريع لإحدى الجهات الحكومية.
طالت التوقيفات من هذا النوع رجال أعمال كثيرين، لم يتعاملوا بجدّية مع الإشارات التي أُرسلت إليهم بضرورة التبرع لصندوق “تحيا مصر”، والذين لم يطولوهم التوقيف باعوا حصصًا من شركاتهم لشركات في الخارج، مع ضمان حصة في الشركات الموجودة خارج مصر، مثلما حصل مع ورثة رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس في “النساجون الشرقيون”، وهو الأمر الذي تكرر مع شركة “دومتي” الخاصة بالصناعات الغذائية.
خاتمة
في المحصلة، يدرك كل رجال الأعمال، أصحاب الحظوة أو المغضوب عليهم، ضرورة إقامة علاقات قوية مع الدولة، فهي التي توزّع العقود وترسي الصفقات، ولا تُصنع الثروة في بلد مثل مصر بمعزل عن الدولة أبدًا، لكن تلك العلاقات تتفاوت بين مَن يحظون بعلاقات محسوبية، سواء لقيامهم بأدوار أمنية في مناطق معزولة مثل سيناء، أو لأنهم ينشّطون الاقتصاد ويضخّون أموالًا في المشاريع العقارية الكبرى التي يقدم عليها النظام، وبين مَن تراهم الدولة مصدرًا للتبرعات مقابل سماحها لهم بالعمل دون تعطيل أو توقيف.
وعلى ضوء الأزمة الاقتصادية، لم يعد من الممكن تجاهل ما ترغبه الدولة من رجال الأعمال، لكن الدولة أصبحت تدرك على ضوء الأزمة الاقتصادية الحالية أهمية رجال الأعمال في توفير فرص العمل وتحقيق أي نمو اقتصادي يُذكر، لذلك أقلعت حاليًا عن سياسة توقيف رجال الأعمال التي لاقت اعتراضًا من مؤسسات التمويل الدولية، لخرقها كل مبادئ الحرية الاقتصادية و لاعتدائها على الملكية الخاصة.
وبعد الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي في مارس/ آذار الماضي، أصبحت السلطة مضطرة بتوجيه من الصندوق إلى إفساح مجالات أوسع للقطاع الخاص في معظم الأنشطة، وفي خضمّ هذا فإن كل مكسب سيحقق يخلق تراكمًا يترجَم تدريجيًا كنفوذ سياسي، خصوصًا أن ضيق دائرة “المحسوبية” يجبر رجال الأعمال على التكتّل والدفاع عن مصالحهم جماعيًا، وهو من المتوقع أن يحدث في حال توفير مؤسسات التمويل الدولية الحماية لهم من التعامل الأمني، وهو أمر أصبح ممكنًا أكثر ممّا مضى.