ترجمة وتحرير: نون بوست
كل مساء تقريبا عند حوالي الساعة السادسة، يبدأ إياد عبيد البالغ من العمر 32 عاما، ومجموعته الفنية، بتحريك أرجلهم على إيقاع الدبكة، وينضم إليه المتظاهرون من المخيمات المجاورة التي تمت إقامتها على بعد 700 متر من الحدود الشرقية بين غزة وإسرائيل.
ويقول عبيد في لقاء مع ميدل إيست آي: “تتمثل رقصة الدبكة في وقوف الشباب في صف بجانب بعضهم، وتشبيك الأيادي والرقص بخطوات متناسقة ترمز للوحدة”.
فرقة كنعان الراقصة للفن الشعبي تؤدي الدبكة، وهي رقصة فلكلورية تقليدية.
يرتدي هؤلاء الملابس التقليدية الفلسطينية، وهو القميص الأبيض، والسروال القطني الواسع، والحذاء الطويل إلى جانب غطاء الرأس التقليدي، ويؤدون الدبكة الشامية التقليدية، من بين أنواع أخرى من الرقص الفلكلوري.
وتنحدر عائلة عبيد في الأصل من بئر السبع، التي تعد اليوم بلدة في جنوب إسرائيل. وبحسب عبيد، فإن فرقته المسماة “كنعان” للرقص الشعبي تهدف إلى تشجيع المتظاهرين على الحفاظ على حق العودة ومواصلة المطالبة به.
وفي آذار/ مارس، تمت إقامة ما يسميه المتساكنون “مدينة الخيام”، على امتداد حدود خمسة محافظات في قطاع غزة، كجزء من مسيرة العودة الكبرى، وهي مظاهرات حاشدة متواصلة لمدة 46 يوما انطلقت في 30 آذار/مارس الذي يصادف يوم الأرض، ومن المنتظر أن تتواصل إلى 15 أيار/مايو، الذين يصادف الذكرى السبعين للنكبة، التي تعرض فيها أكثر من 750 ألف فلسطيني للتهجير القسري من بلداتهم وقراهم في الأراضي الفلسطينية، بعد إقامة دولة إسرائيل في أيار/مايو 1948.
وقد كتب على بعض هذه الخيام أسماء القرى والمدن الفلسطينية التي تم احتلالها من قبل الإسرائيليين في 1948، في مسعى من هؤلاء الفلسطينيين لإظهار إصرارهم على العودة إلى ديارهم.
يصر الأولياء على تثقيف أطفالهم حول حق العودة
ولكن بالنسبة للفلسطينيين، فإن الوطن ليس فقط مجرد مكان أو قطعة أرض، بل هو أيضا ميراث الأجداد والتقاليد والثقافة.
ويقول المتظاهرون إن الليالي الطويلة التي قضوها في الخيام عززت الوحدة بين الفلسطينيين، وأحيت فيهم التاريخ والموروث الثقافي.
وينشد الفلسطينيون الأغاني التقليدية مثل “يا ظريف الطول”، التي تشجع الفلسطينيين على عدم التخلي على وطنهم، وأغنية “على دلعونا”، التي تتحدث عن الاشتياق إلى الأحبة الذين تركوا في مكان بعيد، ويروون أيضا قصص الماضي وسط الصمت الذي يخيم على المكان.
وينحدر بشير كسكين البالغ من العمر 25 سنة، في الأصل من حمامة، وهي قرية فلسطينية في شمال غزة، وواحدة من بين 400 قرية تعرضت للتدمير وتم تهجير أهلها في 1948. وخلال أمسية في مخيم اللاجئين البريج في وسط قطاع غزة، يعكف بشير على تحضير طبق فلسطيني تقليدي فوق نار المخيم، تكفي لإطعام الأصدقاء والخيام المجاورة.
بشير كسكين، 25 سنة، مع أصدقائه يقوم بشواء الباذنجان فوق نار المخيم لتحضير المتبّل
اليوم، يتم تحضير طبق المتبّل، وهو باذنجان مغموس في الزبادي والطحينة، إلى جانب الشكشوكة، وهي طبق من البيض المطبوخ مع صلصة الطماطم والفلفل والبصل.
ويقول كسكين أن متساكني مدينة الخيام لا يخاطرون بالاقتراب من الحدود التي تقف فيها قوات الحراسة الإسرائيلية، ولكنهم مصرون على ملازمة أماكنهم ومواصلة المطالبة بحق العودة.
حيث يقول: “نحن نقاوم بشكل سلمي، لسنا مسلحين إلا أننا نقف في وجه أسلحة القوات الإسرائيلية. ولكنهم يطلقون علينا النار ويسموننا إرهابيين”.
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإن القوات الإسرائيلية قتلت 33 متظاهرا، من بينهم ثلاثة أطفال تحت سن 18 سنة، وقامت أيضا بجرح أكثر من 3000 آخرين.
متظاهرة تحمل لافتة تحمل أسماء أولئك الذين سقطوا أثناء المظاهرات خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
وقد تعرض أيضا أكثر من عشرة صحفيين للإصابة بطلقات نارية، وتوفي أحدهم وهو ياسر مرتجى، بعد أن أصابته رصاصة في بطنه، على الرغم من أنه كان يرتدي سترة تشير بكل وضوح إلى أنه يشتغل في المجال الإعلامي.
الجرحى يعودون للتظاهر
رغم الجراح التي أصيب بها أحمد أبو قمر، البالغ من العمر 21 سنة والمنحدر من بلدة بئر السبع، وصديقه نادر الشلتيني البالغ من العمر 23 سنة، فإن ذلك لم يمنعهما من المشاركة في أنشطة أمسيات الخيام.
وقد تعرض الصديقان للإصابة في 30 آذار/مارس، أثناء مشاركتهما في مظاهرة سلمية في شرق بلدة جباليا في شمال قطاع غزة.
أحمد أبو قمر لا يزال يشارك في الأنشطة التي تقام في مدينة الخيام على الرغم من إصابته
أثناء تلويحه بالعلم الفلسطيني، أصيب أبو قمر بطلق في ساقه، فيما تعرض الشلتيني إلى نفس الإصابة أثناء مساعدته لصديقه. واليوم لا يستطيع أبو قمر المشي دون مساعدة العصي، ويقدر الأطباء أن شفائه سيستغرق ثلاثة أشهر.
ورغم اقتناع أبو قمر بأن القوات الإسرائيلية أطلقت عليه النار عن عمد، فإنه يؤكد على مواصلة المشاركة في المظاهرات.
ويقول أبو قمر: “بعد أن تعرضت للطلق الناري، قضيت أسبوعا في المستشفى ولكنني كنت أتحرق شوقا للعودة للمظاهرات حتى أخبر المحتلين أننا مستمرون على الرغم من وحشيتهم ضدنا”.
أما مصعب فودة، البالغ من العمر 27 سنة، والمنحدر من بلدة حمامة، فإنه يتحدث عن الإصرار الفلسطيني على مواصلة المقاومة السلمية على الرغم من العدد الكبير من الضحايا والجرحى.
ويتظاهر فودة في بلدة خزاعة شرقي خان يونس في قطاع غزة، وهو يقضي الليالي في الخيام.
كشف تقرير للأمم المتحدة أن ظروف عيش حوالي 2 مليون ساكن من سكان غزة، من بينهم 1.3 مليون لاجئ، تشهد تدهورا مأسويا، وقد باتت الحياة في القطاع غير ممكنة
ويقول فودة: “نحن نشعر بالألم على كل شهيد أو متظاهر جرح عندما جاء لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه المسيرة هي آخر أمل لنا، بما أن الحياة في غزة لا تطاق. نحن نحاول تقديم تاريخنا وموروثنا الثقافي بأشكال سلمية. نحن نغني ونؤدي رقصاتنا التقليدية لأن أجدادنا كانوا يؤدون الدبكة كنوع من المقاومة”.
ويشار إلى أن إسرائيل كانت قد فرضت حصارا خانقا على قطاع غزة منذ 2007، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع وحلولها مكان القوات التابعة للرئيس محمود عباس، بعد سنة واحدة من فوز الحركة بالانتخابات التشريعية.
وفي تموز/يوليو 2017، كشف تقرير للأمم المتحدة أن ظروف عيش حوالي 2 مليون ساكن من سكان غزة، من بينهم 1.3 مليون لاجئ، تشهد تدهورا مأسويا، وقد باتت الحياة في القطاع غير ممكنة.
“نحن ندعم بعضنا”
في شرق مدينة غزة، وبالتحديد في منطقة الشجاعية، قام أحمد رياض البالغ من العمر 40 سنة بإشعال النار أمام خيمته لإعداد القهوة. وقد تمت تسمية هذه الخيمة على اسم بلدة بربرة، التي استحوذ عليها الإسرائيليون في 1948.
أحمد رياض، 40 سنة، يحضر بعض القهوة أمام خيمته فيما يتجمع المتظاهرون تحت النجوم للاستماع لحكايات الفلكلور.
ولطالما كان أسعد، وهو والد رياض، يحلم بالعودة إلى بلدته بالقرب من غزة، التي هجّر منها عندما كان صبيا. إلا أنه فارق الحياة في 2011 دون أن تتاح له فرصة تحقيق حلمه.
واليوم يحمل رياض ذكريات عزيزة عليه حول تجمع الأطفال حول والده، والاستماع إليه أثناء حديثه حول القرى والبلدات المحتلة، وحول حق العودة.
وقد أخبر أسعد ابنه في عدة مناسبات حول قطعة الأرض التي كانت تملكها العائلة، والتي كانوا يزرعون فيها العنب والتين والزيتون، وبعض المحاصيل الأخرى الموسمية مثل الطماطم والخيار والباذنجان.
وكان أسعد يذكر الأيام الصعبة التي عايشها في أيار/مايو 1948، وخاصة الليلة التي قصف فيها الإسرائيليون أرضهم وحرقوا أشجار الزيتون. وفي اليوم الموالي، قرر والد رياض مغادرة القرية وتوجه إلى مخيم اللاجئين في شمال غزة، أين تعيش العائلة لحد اليوم.
ويتمنى رياض لو أن والده كان حيا ليشهد مسيرة العودة الكبرى، وإعادة إحياء الموروث الفلسطيني في مدينة الخيام، التي تنظم فيها مسابقات حول استحضار الحكم الفلسطينية ورواية القصص حول بلدة بربرة، والذكريات حول أنواع العنب اللذيذة التي اشتهرت بها البلدة.
ويقول رياض: “كل ليلة نجتمع في الخيام، وفي الصباح أذهب إلى العمل في ورشة النجارة، وفي يوم الجمعة أشارك في المظاهرات مع الشباب ونحن نساند بعضنا في كفاحنا من أجل حق العودة”.
كما أن زوجة رياض وأبناءه الأربعة يرافقونه إلى مدينة الخيام.
يشارك الأطفال في الأنشطة الترفيهية المنظمة من قبل المتطوعين
رغم أن الشباب الفلسطيني هم جزء أساسي من المسيرة، فإن كبار السن لا يقلون عنهم حضورا وحماسا.
حيث أن خليل عوض الله، البالغ من العمر 87 سنة، يذكر الليالي التي كان يقضيها في بلدة المسمية الكبيرة المحتلة، شمال قطاع غزة.
وبعد أداء صلاة المغرب، في جامع صلاح الدين قرب الخيام، يروي خليل للمتظاهرين حكايات شعبية ويذكر قصص حول المقاومة الفلسطينية في سنوات الأربعينات.
وفي 15 أيار/مايو 1948، يذكر عوض الله جيدا كيف أنه كان حينها يبلغ من العمر 17 عاما وكان والده يذرف الدموع ويطلب منه توضيب أغراضه استعدادا للترحيل القسري من ديارهم وأراضيهم الزراعية، من بلدية المسمية الكبيرة التي تخضع الآن للاحتلال.
ويذكر خليل عوض الله أيضا كيف كانوا يزرعون أشجار الزيتون والتفاح ويربون الماشية.
يشكل الأطفال جزء هاما من سكان مدينة الخيام، حيث ينقل لهم كبار السن قصصا عن الأراضي المحتلة
كما يذكر استماعه لقصص رواها مختلف اللاجئين، حول الجرائم التي تم اقترافها ضد النساء والأطفال في عدة بلدات، مثل مجزرة دير ياسين التي خلفت أكثر من 100 قتيل من المدنيين.
وعائلته بدورها لم تنج من هذه المآسي، بما أن شقيقه مسعد تعرض للقتل وهو في سن 21 سنة، في مواجهة مع الإسرائيليين في 1948، وقد تم دفنه في مقبرة جماعية لا يزال موقعها مجهولا للعائلة، وهو ما يمنعهم حتى من توديع ابنهم.
ألعاب ومهرجون
ولا يزال الطفل أحمد صبح، البالغ من العمر 8 سنوات، والمنحدر في الأصل من قرية دير سنيد، يحلم بالعودة إلى أرض أجداده عوضا عن العيش في مخيم اللاجئين الشاطئ في غزة.
وهو يقول: “لا أريد قتل الإسرائيليين مثلما قتلونا وسرقوا أرضنا، ولكن بشرط أن يرحلوا عن أرضنا ويسمحوا لنا بالعودة إلى ديارنا”.
المهرجون بملابسهم الملونة يضفون أجواء من الحماس على المخيم، بحركاتهم ورقصاتهم وتصفيرهم الذي يجتذب الأطفال الذين يحاولون تقليد حركاتهم
ويشكل الأطفال جزء هاما من سكان مدينة الخيام، حيث ينقل لهم كبار السن قصصا عن الأراضي المحتلة، كما يستمتعون بأداء الرقصات التقليدية ويمارسون الألعاب ويقضون الوقت في الأنشطة الترفيهية التي تنظمها مجموعة من المتطوعين، كما يبتهجون أيضا برؤية عروض المهرج في الخيام.
وتضفي الملابس الملونة التي يرتديها المهرجون حالة من البهجة على المخيم، برقصاتهم وتصفيرهم، الذي يجتذب الأطفال الذين يحاولون تقليد حركاتهم.
ورغم حذر الأولياء وحرصهم على إبقاء أطفالهم بعيدا عن الحدود التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية، فإنهم حريصون في نفس الوقت على إبقاءهم في المخيم، لتثقيفهم حول حق العودة وتاريخهم، إلى جانب تعريفهم بأساليب المقاومة السلمية التي يمكنهم من خلالها التصدي للاحتلال الإسرائيلي.
ويريد عوض الله أن تبقى الهوية الفلسطينية قضية مركزية، ويتمنى أن تتواصل مدينة الخيام حتى بعد تتويج مسيرة العودة الكبرى في 15 أيار/مايو.
وهو يقول: “يتعمد الاحتلال الإسرائيلي سرقة الهوية الفلسطينية، ففي الإذاعة الإسرائيلية أسمعهم يتحدثون حول طعامنا التقليدي على أساس أنه طعامهم، أنا أدعو الشباب الفلسطيني والنساء للحفاظ على الموروث الفلسطيني وإحياءه في لباسهم وتاريخهم وطعامهم، نحن نحتاج لإثبات أننا نقاوم من أجل الحفاظ على الهوية الفلسطينية.
المصدر: ميدل إيست آي