ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال تواجدها في البيت الأبيض، أعلنت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن نهاية عهد الهدوء الذي ساد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن جهته، أعطى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إشارة على بداية الحرب التجارية مطالبا ألمانيا بدفع ثمن الدعم العسكري الأمريكي لها.
خلال المؤتمر الصحفي، الذي جمعها مع ترامب في البيت الأبيض، كانت نبرة صوت ميركل تحيل إلى أن زيارتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مثمرة. ظلت المستشارة الألمانية متصلبة لبعض الدقائق وملامح الحزن بادية على وجهها، فيما كانت تصريحات ترامب مترددة. في ذلك الوقت، كانت ميركل تحدق في وجوه الصحفيين بعيون شاحبة وذهن شارد.
أراد ترامب أن يوقظ ضيفته من شرودها عبر سرد بعض النكات، ولعل الأمر المثير للاهتمام أن ترامب استقبل ميركل عند وصولها إلى البيت الأبيض بحفاوة. وخلال المؤتمر الصحفي، وصف الرئيس الأمريكي ضيفته بالمرأة الاستثنائية. أما خلف الكواليس، فكانت الأمور مختلفة تماما. وعلى الرغم من أن الطرفين حاولا إخفاء خلافاتهما أمام الصحافيين الحاضرين، إلا أن اختلاف وجهات النظر فيما يتعلق بالعديد من المسائل الهامة بدا جليا.
في هذا الإطار، أثنت المستشارة الألمانية على السياسة الخارجية المتشددة التي ينتهجها الرئيس الأمريكي حيال كوريا الشمالية. فقد ساهمت مواقف ترامب المتصلبة بشأن كوريا الشمالية في تعمق الأزمة الدبلوماسية الحالية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وفي الحقيقة، يُعد الاتفاق النووي الإيراني واستثناء أوروبا من العقوبات الجمركية المفروضة على الفولاذ والألومنيوم من بين هذه القضايا، التي دفعت أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى زيارة واشنطن، علما وأن هاتين القضيتين لا زالتا عالقتين لأن هذه الأطراف لم تتوصل إلى توافق بشأنها.
أصر ترامب على موقفه المناهض لهذا الاتفاق، في حين أعربت ميركل خلال المؤتمر الصحفي عن تأييدها له مشيرة إلى أنه يعتبر بمثابة الخطوة الأولى، التي يجب أن تعقبها أخرى
عند سؤالها عن إمكانية التوصل إلى أرضية توافق بشأن المسائل الخلافية، أجابت المستشارة الألمانية بشكل مقتضب أنه من “المنتظر أن يُصدر الرئيس ترامب موقفه الحاسم بشأن هذه المسائل”. في المقابل، لا تشعر الحكومة الألمانية بتفاؤل كبير بشأن إمكانية موافقة ترامب على تمديد مدة استثناء الاتحاد الأوروبي من العقوبات الجمركية، يوم الثلاثاء المقبل. ومن شأن ذلك أن يدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ عقوبات جمركية ضد الولايات المتحدة، ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب تجارية.
أما فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني، فقد أصر ترامب على موقفه المناهض لهذا الاتفاق، في حين أعربت ميركل خلال المؤتمر الصحفي عن تأييدها له مشيرة إلى أنه يعتبر بمثابة الخطوة الأولى، التي يجب أن تعقبها أخرى. ومن طرفها، ترى الدول الأوروبية أن إبرام اتفاقيات إضافية قد يمنع إيران من صنع قنبلة نووية بصفة دائمة. كما يرغب الاتحاد الأوروبي في ردع طهران من تطوير الصواريخ النووية طويلة المدى. في الأثناء، تعمل كلٌ من باريس ولندن وبرلين على احتواء النفوذ الإيراني، الذي زعزع استقرار المنطقة.
في الواقع، تبدو مواقف الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية حيال أزمة الاتفاق النووي متباينة. فقد أعربت دول الاتحاد الأوروبي عن استعدادها للتعامل بشكل أكثر صرامة مع إيران، بهدف إنقاذ الاتفاق النووي. في المقابل، من الواضح أن الرئيس الأمريكي، الذي قطع خلال حملته الانتخابية وعدًا بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، لن يغير من موقفه في المستقبل حيال هذا الاتفاق، ما يعني أنه لن يستجيب لرغبة الأوروبيين في الحفاظ عليه.
ترامب يهاجم ميركل أمام الصحفيين.
هاجم ترامب ألمانيا معرجا على العجز التجاري الأمريكي، الذي تبلغ قيمته 150 مليار دولار أمريكي، والناتج عن ارتفاع الصادرات الألمانية. في هذا الصدد، أورد ترامب “نحتاج إلى علاقة مبنية على المعاملة بالمثل”. إثر ذلك، انتقد الرئيس الأمريكي انخفاض النفقات الدفاعية لدول حلف شمال الأطلسي.
عند هذه النقطة، تبدو حصة ألمانيا من النفقات الدفاعية البالغة 1.2 بالمائة من الناتج المحلي الخام بعيدة كل البعد عما حدده حلف الشمال الأطلسي بنسبة لا تقل عن اثنين بالمائة. وخلال السنوات الأربع المقبلة، لن يتمكن اتفاق تشكيل الائتلاف في ألمانيا من الرفع في مساهمة ألمانيا في النفقات العسكرية. وفي هذا السياق، أفاد ترامب بأن “الناتو رائع، لكنه يساعد أوروبا أكثر منا. فلماذا ندفع أكبر حصة من النفقات العسكرية؟”.
حذر أوباما ميركل من تبعات تواصل عدم التوازن بين الإنفاق العسكري الألماني والأمريكي
أوروبا قوة أمنية مجانية
تدرك ميركل أنها في موقف ضعف فيما يتعلق بمسألة النفقات الدفاعية، نظرا لأن برلين لا تقدر على أن توضح لشركائها السبب الذي يجعل من ألمانيا، التي تعد أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، قوة أمنية مجانية في المستقبل. من هذا المنطلق، طلب ترامب من برلين الترفيع من نفقاتها العسكرية عن طريق فائضها التجاري، علما بأنه سبق للرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، أن انتقد انخفاض النفقات العسكرية الألمانية.
في عدة مناسبات، حذر أوباما ميركل من تبعات تواصل عدم التوازن بين الإنفاق العسكري الألماني والأمريكي. ويكمن الاختلاف بين ترامب وسلفه في أن أوباما حذر ميركل من تبعات تخفيض النفقات الدفاعية بلطف، في حين كان خطاب ترامب تجاه المستشارة الألمانية عنيفا. ولعل أكثر ما أثار غضب ترامب هو انخفاض النفقات الدفاعية للدول الأوروبية رغم فوائضها التجارية المتراكمة، ناهيك عن تعويل هذه الدول على الدرع العسكري الأمريكي. وبالنسبة لترامب، تعتبر أوروبا مذنبة فيما يتعلق بالنقطتين الأخيرتين.
في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض
خلال المؤتمر الصحفي، عارضت ميركل ترامب في بعض المسائل. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، أكدت المستشارة الألمانية أن الفائض التجاري في تراجع طفيف وأن طريق تحقيق التوازن التجاري لازال طويلا. كما أوضحت ميركل أن برلين ستخصص خلال هذه السنة 1.3 مائة من ناتجها المحلي الخام للإنفاق العسكري. ومن الواضح أن هذه النسبة بعيدة عن تلك التي حددها حلف الناتو. ومع ذلك، من المتوقع أن تخفض الحكومة الألمانية من نفقاتها العسكرية خلال السنة المقبلة بسبب النمو الاقتصادي.
في ردها على سؤال طرحه صحفي ألماني بشأن إشارتها، خلال حملتها الانتخابية الأخيرة، إلى إمكانية استغناء الاتحاد الأوروبي عن الدعم الأمريكي على مستوى السياسة الدفاعية، كشفت المستشارة الألمانية عن موقفها من الإنفاق العسكري بشكل علني. فقد صرحت ميركل بأن “عهد نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية قد ولى، حيث لن تعول أوروبا وألمانيا على الدعم العسكري الأمريكي مجددا، خاصة وأن الأمريكان أصبحوا يتساءلون عن جدوى ذلك”.
في سياق متصل، تابعت المستشارة الأمريكية أنه “كان جديرا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يقر بالنجاح الاقتصادي الأوروبي وأن يدرك أن الاتحاد الأوروبي لا يريد زيادة نفقاته العسكرية “. وعلى ضوء هذه المعطيات، يبدو أن ترامب محق بشأن موقفه من دول الاتحاد الأوروبي خاصة وأننا نعيش في عالم جديد. وفي المستقبل، لا يمكن أن تسير الأمور كالمعتاد ما يعني أن عهد الهدوء قد أصبح من الماضي.
برزت العديد من الديكتاتوريات على غرار روسيا والصين، التي تسعى إلى كسر هيمنة الغرب، لا سيما وأن موسكو تعمل على تقويض النظام الأمني الأوروبي والإنجازات التي حققها النظام العالمي الليبرالي
“حان الوقت لتسترد الولايات المتحدة الأمريكية شيئا ما”
إن ترامب مقتنع بأن الولايات المتحدة الأمريكية أفضل من المنافسين والشركاء على حد سواء. وخلال لقائه مع ضيفته، أكد ترامب أن بلاده خُدعت طيلة عقود من قبل منافسيها الأذكياء، قائلا “لن أحمل ألمانيا مسؤولية خداعنا، بل ألوم أسلافي على ذلك”. وتابع ترامب أن “الوقت قد حان لتسترد الولايات المتحدة الأمريكية شيئا ما”.
في الوقت الراهن، يجب على ميركل وبقية الزعماء الأوروبيين أن يواجهوا حقيقة تغير العالم. فقبل ظهور ترامب، خسر الاتحاد الأوروبي نفوذه في العالم. وخلال العقود الأخيرة، فقد مفهوما الحرية والديمقراطية قيمتهما، كما أدى انهيار العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط إلى ارتفاع موجة اللاجئين في اتجاه أوروبا، ما ساهم في انتشار الحركات الشعبوية. وفي الأثناء، برزت العديد من الديكتاتوريات على غرار روسيا والصين، التي تسعى إلى كسر هيمنة الغرب، لا سيما وأن موسكو تعمل على تقويض النظام الأمني الأوروبي والإنجازات التي حققها النظام العالمي الليبرالي.
الولايات المتحدة الأمريكية الأولى
أدت النزعة الانعزالية لترامب إلى تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم. كما يعمل الرئيس الأمريكي على حرمان أوروبا من الدعم العسكري اللامشروط، الذي تتلقاه منذ سنوات. ولعل الأمر المثير للاستغراب أن ترامب عبر عن فخره بعدم تعاطف الدول الأجنبية معه. وفي هذا الصدد، صرح ترامب أبن “هذا يعني أن ما فعلته صحيح”. وفي لقائها بترامب خلال السنة الماضية، بدت ميركل متفائلة، حيث أعربت عن أملها في إنشاء علاقة جيدة مع الرئيس الأمريكي؛ ويعزى هذا التفاؤل إلى أن الإدارة الأمريكية كانت تتركب من ثلة من الوزراء المعتدلين.
نفذ ترامب وعوده الانتخابية بشكل منهجي
بعد سنة من توليه رئاسة البلاد، عزل ترامب الوزراء المعتدلين ليعين مكانهم آخرين متطرفين. ويوم الخميس، صادق مجلس الشيوخ على تعيين مايك بومبيو وزيرا للخارجية. قبل ذلك، تقلد جون بولتون منصب مستشار الأمن القومي. وبعد هذا التحوير، أصبح ترامب يشعر بالراحة أكثر من ذي قبل نظرا لأنه أصبح لا يحتاج إلى أخذ المشورة على وجه السرعة كما في السابق. لكن باتت الحكومة الألمانية على اقتناع بأن الرئيس الأمريكي ينفذ وعوده الانتخابية بشكل منهجي، وهذا لا يترك مجالا لبشائر الأمل فيما يتعلق بالمسائل التجارية وبالاتفاق النووي الإيراني.
بناء على ذلك، من المنتظر أن تلتزم الإدارة الأمريكية خلال السنة الثانية من ولاية ترامب بتنفيذ قرارات الرئيس الأمريكي بشكل أكبر من السنة الأولى. فيوم الجمعة، لاحظت ميركل أن ترامب أصبح شخصا واثقا من نفسه، وهو ما يفسر تغير ملامح المستشارة الألمانية خلال زيارتها الراهنة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
المصدر: فيلت