ترجمة حفصة جودة
ينتشر الاكتئاب بين العديد من العائلات، لكننا بدأنا في فهم طريقة عمله وأسبابه مؤخرًا بعد العديد من الإحباطات، كان الاكتشاف العلمي العظيم الذي نشره مؤخرًا “اتحاد الجينات الوراثية” في مجلة “Nature Genetics” إنجازًا صعب المنال ساعد في فهمنا لهذا الاضطراب الشائع.
إذا كان والداك قد تعرضا للاكتئاب فإن فرص إصابتك بالاكتئاب تزداد بشكل ملحوظ، فنسبة الإصابة بالاكتئاب بين الناس هي نحو 1 بين كل 4 أشخاص، وعليه فكل منا معرض بنسبة 25% للإصابة بالاكتئاب في مرحلة من مراحل حياته، وإذا كانا الوالدان مصابين بالاكتئاب فإن هذه نسبة الخطر تزداد 3 أضعاف.
لكن الخلاف يدور الآن بخصوص الطبيعة أم التنشئة، فالطفل المصاب بالاكتئاب لأم مصابة بالاكتئاب هل ضحية الأمومة الناقصة والعاطفة الباردة والبيئة غير المحبة التي يحصل عليها في أول سنوات حياته؟ أم أنه ورث هذا الاكتئاب جينيًا بغض النظر عن مهارات أبويه؟ هل هي الطبيعة أم التنشئة؟ وهل هي الوراثة أم البيئة التي تفسر توارث الاكتئاب في العائلات؟
هناك 44 جينًا على الأقل يسهمون في نقل خطر الاكتئاب من جيل لآخر
في القرن الـ20 أجاب الأطباء النفسيون عن بعض تلك الأسئلة، فعلى سبيل المثال وجد الأطباء أن التوأم المتماثل ممن يتوافقون في حمضهم النووي بنسبة 100% أكثر عرضة للإصابة بنفس أعراض الاكتئاب عن التوأم غير المتماثل الذين يتوافقون في حمضهم النووي بنسبة 50% فقط، هذا يعني أن الاكتئاب ينتقل بالوراثة.
لكن حتى القرن الـ21 كانت هوية جينات الاكتئاب تلك غامضة، ومنذ عام 2000 كان هناك جهد بحثي دولي مستمر لاكتشاف تلك الجينات، لكن النتائج كانت خادعة وغير متسقة.
لهذا السبب كانت الدارسة التي نُشرت الأسبوع الماضي تعد خطوة بارزة في هذا المجال، فلأول مرة يتمكن العلماء من أنحاء العالم من جمع بيانات حمض نووي كافية لتحديد مواقع الجينات التي تسهم في زيادة خطر الاكتئاب، وذلك بمساعدة مركز الأبحاث الوراثية النفسية في المملكة المتحدة بتمويل من مجلس البحوث الطبية في جامعة كارديف وجامعة إدنبره وكلية كينجز في لندن.
لذا نحن نعلم الآن بدرجة كبيرة من الثقة شيئًا مهمًا عن الاكتئاب لم نكن نعلمه من قبل، نحن نعلم أن هناك 44 جينًا على الأقل من بين 20 ألف جين يشكلون الجينوم البشري يسهمون في نقل خطر الاكتئاب من جيل لآخر.
تاريخنا الوراثي المعقد يجعلنا جميعًا عرضة لخطر الاكتئاب بشكل مستمر
في البداية هناك العديد من الجينات التي تسهم في الإصابة بالاكتئاب وليس هناك جين بعينه يتسبب في الإصابة بالاكتئاب لهؤلاء الذين يرثونه، بشكل أكثر واقعية جميعنا يرث بعضًا من جينات الاكتئاب وتعتمد فرصة إصابتنا على تراكم تلك الجينات، وكلما ازدادت الأبحاث وازدادت العينات المتاحة للتحليل والبحث، فمن المرجح أن يتم اكتشاف عدد أكبر من الجينات المرتبطة بالاكتئاب في المستقبل.
هذا يعني أنه لا يوجد مسافة واضحة بين المرضى بالاكتئاب والأصحاء، فتاريخنا الوراثي المعقد يجعلنا جميعًا عرضة لخطر الاكتئاب بشكل مستمر، فما تلك الجينات؟ وماذا تخبرنا عن الأسباب الجذرية للاكتئاب؟ لقد اتضح أن العديد منهم يلعبون دورًا مهمًا في بيولوجيا الجهاز العصبي، وهذا يتفق مع الفكرة الرئيسية التي تقول إن الاضطرابات المزاجية تعكس بعض الاضطرابات الكامنة في الدماغ.
الأمر المثير للدهشة أن العديد من الجينات المسببة للاكتئاب تلعب دورًا في الجهاز المناعي للجسم، فقد اتضح أن الالتهاب – وهو الاستجابة الدفاعية للجهاز المناعي لبعض التهديدات مثل العدوى – قد يسبب الاكتئاب، وجميعنا يدرك أن الضغوط الاجتماعية تسبب زيادة الالتهابات في الجسم.
لعقود طويلة كنا نعلم أن الضغوط الاجتماعية تشكل عاملًا رئيسيًا في الإصابة بالاكتئاب، والآن يبدو أن الالتهاب أحد الصلات المفقودة: فالضغط يثير الاستجابة الالتهابية للجسم التي بدورها تغير من عمل الدماغ مما يتسبب في ظهور الأعراض النفسية للاكتئاب.
يعد الأصل الجيني بداية عظيمة للبحث عن علاجات من شأنها أن تتعمق أكثر في أسباب وآلية الاكتئاب
ولمعرفة جينات الاكتئاب دور كبير في العلاج العملي، فليس هناك أي تقدم كبير في علاج الاكتئاب منذ عام 1990، لذا نحن بحاجة للعثور على طرق علاجية جديدة، ويعد الأصل الجيني بداية عظيمة للبحث عن علاجات من شأنها أن تتعمق أكثر في أسباب وآلية الاكتئاب.
من السهل أن نتخيل كيف يمكن أن تُصمم الأدوية المضادة للاكتئاب في المستقبل لتستهدف البروتينات الالتهابية التي تزيد من خطر جينات الاكتئاب، ومن المثير للتفكير كيف تفتح الأصول الجينية للاكتئاب بابًا جديدًا في تقدم العلاج في الطب النفسي.
وفي النهاية على الرغم من أنني أعتقد أن هذا الاكتشاف الجيني أمرًا بارزًا إلا أنه لن يؤدي إلى انقسام أيدولوجي، فهو لا يثبت أن الاكتئاب سببه الجينات فقط أو أن العلاج النفسي لا فائدة منه، وكلما فهمنا المزيد بشأن ما تفعله “جينات الاكتئاب” تلك كلما اكتشفنا أن العديد منهم يتحكم في استجابة الدماغ والجسم للضغوط البيئية، وفي تلك الحالة ربما يكون العلاج الأفضل للفرد علاجًا يستهدف الجينات أو يستهدف العامل البيئي مثل التوتر والإجهاد.
باختصار أرى أن الفهم العميق للأصل الجيني للاكتئاب سوف يؤدي إلى تجاوز السؤال الذي نسأله دائمًا: هل يتعلق الاكتئاب بالطبيعة أم التنشئة؟ وهل هو جيني أم بيئي؟ فالإجابة ستكون: كليهما.
المصدر: الغارديان