رغم الحفاوة البالغة التي اُستقبل بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، والتي بلغ فيها عدد مرات التصفيق نظيرتها عندما ألقى الرئيس جورج بوش الابن خطابه الشهير عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، إلا أن هذه لم تكن المرة الأولى.
صفّق الكونغرس سابقًا لنتنياهو مناصرًا إياه ضد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في خطابه الشهير حول الأسلحة النووية الإيرانية عام 2015، وهو الخطاب الذي أعاق خطوات الاتفاق النووي الذي كانت تسعى واشنطن إلى إبرامه مع إيران.
هل يبدو أن الكونغرس ورجاله مغرمون إلى ذلك الحدّ بشخصية “بيبي” وكلماته الآسرة؟ ربما يكون لذلك مبرر، فنتنياهو يمكن اعتباره سياسيًا أمريكيًا بشكل ما، فقد نشأ في الولايات المتحدة وتخرّج في واحدة من أعرق جامعاتها معهد ماساتشوستس، كما كان في بدايات حياته السياسية نجمًا في برامج الـ Talk Show الأمريكية في الثمانينيات الساخنة ومطلع التسعينيات، قبل أن يعود إلى تل أبيب لممارسة العمل السياسي داخل الكيان الصهيوني.
لكن، هل تكفي تلك السمات الكاريزماتية؟ لا يبدو ذلك. الأكثر وضوحًا من تلك السمات هو أن الخطابَين اللذين ألقاهما نتنياهو في الكونغرس استهدفا موضوعات “الشرق الأوسط”، وهو موضوع يغري كثيرًا الإنتلجنسيا الأمريكية المغرمة بنظرية “صدام الحضارات”، وتفسيرات صامويل هنتنغتون وبرنارد لويس وليو شتراوس لعالم السياسة. لكن، هل ذلك الموقف شاذّ عن وعي مجتمعي مشوَّه بالشرق الأوسط بشكل عام، وبفلسطين بشكل خاص؟
الأيديولوجية المسيحية الصهيونية
أغرت مظاهرات الطلبة في الجامعات الأمريكية البعض باستنتاج أن هناك رأيًا عامًا آخذًا في التغير، وأن المواطن الأمريكي بدأ يعي ما معنى فلسطين وما القضية، لكن اعتناق وجهة النظر تلك هو إفراط في الأمل، وإغفال لبعض الحقائق والعوامل التي تجعلها عصية على التصديق، أبرزها تنوع وتعدد المجتمع الأمريكي، والمصادر التي يتحصل منها أغلبية الأمريكان على معلوماتهم تجاه الأمم الأخرى والقضايا الكبرى في العالم، وأيضًا حالة اللامبالاة السياسية (Political apathy) التي تصيب الكثيرين منهم، علاوة على ذلك، أن هناك تيار كبير وواسع من معتنقي الفكر المسيحي الصهيوني، الذي سبق وأن عرض له بنفاذ الباحث “محمد عمارة تقي الدين” في كتابه “الأحزاب الدينية الإسرائيلية”.
بصورة أدق، ووفقًا لمركز “بيو” الأمريكي، في بحث أجراه عام 2013، فإن 82% من أتباع المذهب البروتستانتي، وهو المذهب المسيحي الذي يشكل نصف عدد سكان البلاد، يرون أن “إسرائيل” معطاة لليهود بواسطة الله”، و54% منهم يرون أن الدعم الأمريكي لليهود هو دعم صحيح، و31% يعتقدون أن الدعم الأمريكي حتى الآن غير كافي، في حين يرى 50% من البروتستانت البيض أنه من غير الممكن أن تعيش “إسرائيل” كدولة مستقلة إلى جوار دولة فلسطينية.
في السنوات الأخيرة، زاد تدخل أصحاب تلك الأفكار في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة في إدارة الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب، وسبق أن عرضت آفاق ذلك التدخل في تشكيل السياسة الخارجية والموقف من “إسرائيل”، الذي أسفر عنه إعلان ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بدلًا من تل أبيب في الفيلم الوثائقي “صلاة من أجل أرمجدون 2023″، الذي عرضته قناة “الجزيرة الإنجليزية” تحت عنوان “لماذا تؤثر الإنجيلية في السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط؟”.
وإن ابتعدنا عن المؤثرات النخبوية للأيديولوجيات السياسية والدينية في تشكيل الموقف من القضية الفلسطينية، كيف يمكننا أن نحاول التحقّق من صورة فلسطين لدى المواطن الأمريكي غير المؤدلج؟ هل هي قابلة بأي حال من الأحوال إلى دعم القضية الفلسطينية منها إلى دعم “إسرائيل”، أو اللامبالاة بصفة عامة؟
في تقرير نشره مركز أبحاث تي-في ساينتفيك عام 2023، أظهرت البيانات أن 89% من البالغين الأمريكيين يشتركون في خدمات البث (Streaming)، بينما تمتلك 71% من الأسر الأمريكية جهاز “كابل تي في (Cable TV)”، ويعكس تفضيل المشاهدين أن العديد من الأمريكيين يفضلون الحصول على معلوماتهم من خلال وسائل الترفيه مثل السينما والدراما والأنيميشن، بدلًا من الوثائقيات والكتب ومحطات الأخبار، في حين لا تقدم الوثائقيات والكتب ومحطات الأخبار في أمريكا غالبًا صورة موضوعية عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
تشكّلت في السابق الكثير من الصور النمطية للأمم الأخرى من خلال الترفيه بالأساس، حيث قدمت ديزني في بواكيرها أفلامًا عن “علاء الدين” و”مولان” و”بوكهانتوس”، والتي كانت المصدر الرئيسي الذي يستقي منه الأمريكيون صورتهم عن الثقافة العربية وثقافة السكان الأصليين لأمريكا والثقافة الآسيوية، وهي أفلام كارتونية شهيرة قدّمت صورة مبسّطة جدًّا عن تلك الثقافات، وهي ليست صورة سيّئة بالضرورة، بقدر ما أصبحت صورة ذهنية ترتبط بتصور تلك الثقافات عند ذكرها لدى المشاهد، لذلك هي صورة مخلّة، لكنها راسخة ومؤثرة.
لذلك، لن تكون صورة “الفلسطيني” في الترفيه الأمريكي استثنائية من حيث إنها تعكس وعيًا حقيقيًا بما تمثله تلك الصورة، وتنتج عن ذلك الوعي الزائف أو الساذج حقيقة متخيلة سيظل يحملها المشاهد الأمريكي عن الفلسطيني، ولم تعرَض تلك الصورة في أعمال هامشية، بل دائمًا ما أتت في سياق أعمال شهيرة وناجحة.
وفي خلال تتبُّع تلك الصورة، لسنا في حاجة إلى العودة والتفتيش بعيدًا في أرشيف السينما والدراما الأمريكية، فما يهمنا هو الأعمال التي شُوهدت وشكّلت وعي جيل من البالغين الآن، وبعضها ما زال معروضًا ومستمرًّا ومتوسعًا في شهرته وتأثيره.
الفلسطيني في سياق جادّ
في عام 2005 عُرض فيلم “ميونيخ” للمخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ، وهو الفيلم الذي حقق إيرادات فاقت 130 مليون دولار، 30% منها داخل الولايات المتحدة.
يناقش الفيلم حادثة ميونيخ عام 1972 التي قامت بها منظمة “أيلول الأسود” بمساعدة مجموعة من الفدائيين، حيث تم اختطاف عدد من لاعبي البعثة الأولمبية الإسرائيلية داخل مدينة ميونيخ، وانتهت بقتلهم جميعًا إضافة إلى قتل الفدائيين كذلك.
يمجّد الفيلم بشكل أساسي أحفاد الناجين من الهولوكوست، وقدرة اليهودي على الاستمرار وتحدي الصعاب، وهي ثيمة أعمال سبيلبرغ. ومع ذلك لا يمكن اعتبار الفيلم في إطار الجوقة الصهيونية الدعائية، حيث إنه واجه العديد من الاتهامات الصهيونية بالتشويه، فالفيلم يحاول أن يناقش مفهومَي الوطنية وأخلاقية فعل القتل، ويسائل الوطنية من ذلك المنطلق، فهو يصور أحداث ميونيخ بصفتها ردًّا على عمليات الاغتيال التي قام بها الموساد الإسرائيلي تجاه الفدائيين الفلسطينيين، والتي أنتجت سياسة وديع حداد “وراء العدو في كل مكان” وصوّرتها في ميونيخ.
رغم ذلك، تبدو الصورة الإنسانية مسطحة جدًّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، إن وُجدت أصلًا بالفيلم، رغم أن الأفلام السينمائية دائمًا ما تتيح فرصة للشرير أن يعبّر عن ذاته وأبعاده أكثر من الواقع، وفي مقابل ذلك يوجد للإسرائيليين صورة إنسانية مركّبة والعديد من الصراعات التي تحرك الشخصيات في الفيلم، وحتى يبدو هذا في توزيع الأدوار الرئيسية في الفيلم، فالممثلون الرئيسيون يؤدّون أدوار جنود الموساد.
ولأن الفيلم في عام 2005، وفي ذروة الحرب الأمريكية على الإرهاب، جاء ليفتش عن جذور ماضية تعبّر عن جوهرية مسألة الإرهاب في الشرق الأوسط، ومدى عنف ولا عقلانية الشرق الأوسط والعرب، الذين مثّلهم الفلسطينيون في هذا الفيلم، ويظهر بوجود الرابط المؤدي إلى الحادي عشر من سبتمبر وتداخله مع أحداث الفيلم، حيث يبدو البرجان التوأمان شامخَين في مشهد النهاية، قبل أن يتحولا إلى حطام بسبب أحداث إرهابية فيما بعد.
يعدّ مسلسل “هوملاند” (2011-2020) المفضل للرئيس السابق باراك أوباما، والحائز على جائزتَي إيمي، الجائزة الأرقى للدراما التلفزيونية، واحدًا من أشهر المسلسلات الأمريكية الجادة، وقد جلبت حلقته الأخيرة لموسم 2013، 2.4 مليون مشاهدة أثناء عرضها المباشر.
يركز المسلسل بشكل أساسي على التعامل مع قضية الحرب على الإرهاب، لذلك يعرض صورة عن الشرق الأوسط تتقاطع مع “إسرائيل” وفلسطين بشكل أساسي، وهو مبني على مسلسل إسرائيلي اسمه “هاتوفيم” (2009-2012) عن جنود إسرائيليين كانوا أسرى في لبنان لمدة 17 عامًا.
صُوّرت أحداث المسلسل التي من المفترض أنها تدور في شارع الحمرا في بيروت، داخل حيفا في “إسرائيل”، وشارك في كتابته جدعون راف الذي كتب مسلسل “هاتوفيم”.
يقدم “هوملاند” الصورة المثالية عن المسلم الشرقي الأوسطي كما يحب أن يراها المشاهد الأمريكي، فهو يعلن عداءه للإسلام صراحة منذ المواسم الأولى، حين نتابع رحلة صعود الرقيب برودي السلَّم السياسي في واشنطن، وهو رقيب في المشاة البحرية الأمريكية، لكنه مسلم في الخفاء من وراء أسرته.
وتُعرض لنا صوره أثناء الصلاة، وهي من المرات القليلة التي نرى فيها الصلاة في مسلسل أمريكي، لكن ينتهي بنا الأمر أن نعرف أن النقيب برودي عميل لتنظيم القاعدة، ليمثل صورة أن الإسلام والمسلمين معادين بالضرورة للمجتمع الأمريكي، وأن لديهم قدرة للنفاد إلى مواقع حسّاسة داخل السياسة الأمريكية كالجيش.
ورغم أن الفلسطينيين هم اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط، إلا أن المسلسل لا يضمّهم، بينما يضمّ تمثيلات للإيرانيين والسوريين وأعضاء من ميليشيا “حزب الله” وخلافه، لكن في الموسم السادس عام 2017، كان يبدو أن المسلسل قدّم أخيرًا لافتة عن فلسطين، لكنها جاءت في سياق تطهّري لأحد اليهود الصهاينة السابقين، حيث تتحدث إحدى الحلقات عن مستوطنات الضفة الغربية التي يعيش فيها 400 ألف يهودي بشكل غير قانوني وفقًا للأمم المتحدة، وكيف أنها وبال على الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
يضاف إلى ذلك، أن الأحداث تتحرك في سياق التبادل الاستخباراتي المعهود بين وكالة المخابرات الأمريكية والموساد الإسرائيلي وأدوارهم في حفظ الأمن، كما يتصورون في منطقة الشرق الأوسط و”إسرائيل”.
الكوميديا وترسيخ اللامبالاة ومساواة الكفّة
بعيدًا عن الصورة الجادة، كثيرًا ما تتأذى الصورة الفلسطينية في السياق الهزلي الذي تركز عليه مسلسلات الأنيميشين الأمريكية ومسلسلات الكوميديا الهزلية القصيرة.
في إحدى حلقات المسلسل الشهير “Curb Your Enthusiasm”، والذي حققت حلقات موسمه الأخير ما يقارب 5 ملايين مشاهدة لكل حلقة، خاصة الحلقة الثالثة من الجزء الثامن، والتي تعدّ أفضل حلقات الموسم وفقًا لتقييم النقاد والمشاهدين في أمريكا تحت عنوان “الدجاجة الفلسطينية”.
يقدم لاري ديفيد، اليهودي التقدمي أي أنه يهودي الثقافة فقط وليس صهيونيًا، في مسلسله صورة هي الأسوأ في انتهاكها للصورة الفلسطينية من خلال شخصية شارا، فرغم أن ديفيد يسخر من تعصُّب اليهود الأمريكيين من مطعم الدجاج الفلسطيني بسبب القضية الإسرائيلية، ورغم أن ديفيد لا يخوض كثيرًا في غمار السياسة في الحلقة، إلا أنه يقدّم شارا الفلسطينية التي يمارس معها الجنس في نهاية الحلقة، تنطق بالعديد من الجمل المسيئة التي تحقّر من شأن الموت الفلسطيني وإسقاطها على تلك الممارسة بينهما.
وتنتهي الحلقة باحتجاج عبثي بين الفلسطينيين في مطعم “الدجاجة الفلسطينية” والإسرائيليين المحتجين على المطعم بصفته معاديًا للسامية، ويقف لاري محتارًا إلى أي صفّ ينضم. تلك الصورة هي واحدة من صورة التسطيح والسخرية من القضية الفلسطينية وموتاها في الشرق الأوسط، والتي يحبّها الأمريكيون غير المبالين سياسيًا.
في عالم الأنيمشين، الذي يحظى بشهرة واسعة داخل المجتمع الأمريكي، ويشكّل جزءًا من الثقافة الشعبية ويوميات الحياة الأمريكية، تتجلى القضية الفلسطينية بتمثيلات هزلية في بعض المسلسلات الشهيرة مثل “ذا سيمبسونز” و”فاميلي غاي” و”أمريكان داد“.
وفي حلقتين في مسلسل “أمريكان داد” عنوانهما “ستان العرب“، يعرض صورة اعتيادية ساخرة من المسلمين وثقافتهم وعاداتهم، لكنها تنتهي بتضمين القضية الفلسطينية في الموضوع، حيث ينتحل فيها سكوت سميث شخصية النبي الذي يظهر لشعب السعودية ليبشرهم بأنه نبي عليهم اتّباعه الآن، حيث ألهمه الإله حلًّا للقضية الفلسطينية الإسرائيلية بخريطة تقسيم الأمم المتحدة عام 1947، وبتلك الطريقة يمكن إحلال السلام في الشرق الأوسط، لكن ذلك يفشل في النهاية حين يخبر سكوت الأهالي أن الإله الذي أرسله هو امرأة وليس رجلًا.
هكذا يتم التسفيه من القضية الفلسطينية والفلسطينيين والمسلمين بصفة عامة في إطار كوميدي، خلال الأعمال الترفيهية التي تشكّل الثقافة الأمريكية ونظرتها إلى المجتمعات الأخرى وقضاياها. كذلك ناهيك عن البرامج الأسبوعية الساخرة مثل برنامج جون أوليفير “الأسبوع الماضي اليوم”، والذي حين يتناول ويعرض القضية فإنه يساوي بين أطرافها من منطلق السخرية من غباء كليهما.