تزامنًا مع تحركات سياسية ملحوظة في الملف السوري، خلال الأسابيع الماضية، أصدرت “الإدارة الذاتية” التي تعتبر الذراع الإداري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا، عفوًا عامًا أفرجت بموجبه عن مئات المعتقلين في السجون وخاصة المشمولين بقانون مكافحة الإرهاب.
الإفراج عن المعتقلين جاء في ظل تصاعد التصريحات السياسية حول تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الأسد بواسطة روسية، إلى جانب ترقب الانتخابات الأمريكية ومعرفة الرئيس المستقبلي للبيت الأبيض، إلى جانب تحذيرات أمريكية من عودة تنظيم “داعش” الذي صعد من هجماته في المنطقة خلال الأشهر الماضية.
وفي سياق ذلك أثار قرار العفو تساؤلات بشأن دوافعه، سواء كان يهدف إلى كسب دعم العشائر في مناطق سيطرتها، وتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، أم أنه خطوة ضمن استراتيجية أوسع للاستفادة من التغيرات التي قد يشهدها الملف السوري وإمكانية استخدام ورقة “داعش” لتنفيذ أجنداتها وكسب دعم حلفائها.
عفو جزئي
في 17 يوليو/ تموز الحالي، أصدر “مجلس الشعوب الديمقراطي” في الإدارة الذاتية قانون رقم 10، الذي ينص على “العفو عن المعتقلين السوريين الذين ارتكبوا جرائم إرهابية بحقّ أمن الإدارة الذاتية” و”قسد” في مناطق شمال شرقي سوريا، حتى تاريخ صدوره.
جاء القرار بناءً على مخرجات الملتقى العشائري والمكونات السورية الذي أُقيم في مدينة الحسكة في 25 مايو/ أيار الماضي، الذي طالب بـ”العمل على إصدار عفو عام يشمل من لم تتلطخ يده بالدم السوري، ومن ثبت تأهيله وإصلاحه ليعود ويندمج في إطار مجتمعه”.
ونصَّ القانون على العفو عن عقوبة نصف السجن المؤقت، واستبدال عقوبة السجن المؤبد بالسجن لمدة 15 عامًا، والعفو عن كامل العقوبة المؤقتة والمؤبدة للمحكوم المصاب بالعضال وممّن تجاوز عمره الـ 75 عامًا.
في حين استثنى أمراء وقادة من وصفهم القرار بـ”التنظيمات الإرهابية”، والمشاركين في أعمال التفجيرات والأعمال القتالية، والجرائم التي تسبّبت في مقتل إنسان، وجرائم الاغتصاب والفعل المنافي للحشمة والاعتداء الجنسي على القصّر، إضافةً إلى جرائم الإتجار بالمخدرات وترويجها، وجرائم الإتجار بالأعضاء البشرية، والمحكومين المتوارين عن الأنظار والفارّين من العدالة.
وبموجب القرار أفرجت عن 185 معتقلًا في سجن غويران بمدينة الحسكة، و141 معتقلًا في سجن علايا في القامشلي، و250 معتقلًا من سجن الأحداث والسجن المركزي في الرقة، و68 معتقلًا من السجن المركزي في منبج شرق حلب.
وحسب ما قاله مصدر محلي في المنطقة، طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لـ”نون بوست” فإن “قرار العفو شمل أشخاصًا مدنيين اُعتقلوا نتيجة تقارير كيدية من كوادر قسد، وآخرين محكومين جنايات، وناشطين معارضين لسياستها في المنطقة وشاركوا في نشاطات معارضة”.
كما أفرجت عن “أشخاص اُعتقلوا بتهمة انتمائهم إلى فصائل المعارضة، إضافةً إلى عناصر ينتمون إلى تنظيم “داعش، ممّن كانوا يعملون بالشأن الإداري أثناء سيطرة التنظيم في جهازَي الحسبة والشرطة الإسلامية والحواجز العسكرية”، حسب المصدر.
وأكد أن معظم الذين أُفرج عنهم كانوا يقضون الأشهر الأخيرة من محكوميتهم، لا سيما الأشخاص الذين تجاوزت فترة اعتقالهم الـ 8 أعوام.
ولم تعلن الإدارة الذاتية عن عدد السجناء المفرج عنهم حتى اللحظة، إلا أن مصادر أكّدت للمرصد السوري للحقوق الإنسان أن “قسد” تتجهّز للإفراج عن نحو 1500 معتقل على دفعات متتالية حتى نهاية العام الحالي، في حين بلغ عدد المعتقلين والمختفين قسريًا منذ مارس/آذار 2011 وحتى تموز الجاري نحو 5 آلاف و232 شخصًا، بينهم 534 أنثى بالغة و838 طفلًا، حسب احصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
ضغوط داخلية وخارجية
جاء قرار العفو بعد ضغوط عشائرية وشعبية على “قسد” والتي تعتبر أحد أبرز الدوافع لإطلاق سراح المعتقلين، حيث شهدت المنطقة مطالبات عشائرية خلال مؤتمرات ومجالس عديدة لإصدار عفو عن المحكومين بجنايات الإرهاب، لا سيما الناشطين المعارضين لسياسة “قسد”.
في أغسطس/ آب الماضي، شهدت دير الزور احتجاجات مناهضة لسياسة “قسد” بعد حلّ مجلس دير الزور العسكري وملاحقة قائده أبو خولة، سرعان ما تحولت إلى اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة مع توجُّه كوادرها لاعتقال وقمع المحتجين.
ورغم استعادة “قسد” السيطرة على المنطقة، أدت الأحداث إلى فتح المجال أمام مشاركة بعض وجهاء العشائر في “مجلس سوريا الديمقراطية” خاصة بعد تدخل التحالف الدولي كوسيط بين العشائر و”قسد”.
وفي سياق ذلك فإن قرار العفو جاء تنفيذًا لمطالب العشائر والمكونات الاجتماعية التي طالبت بالإفراج عن المعتقلين عقب انتفاضة العشائر في النصف الثاني من 2023، إلا أن “قسد” تلكّأت عن تنفيذ المطالب حتى العام الحالي، حسب الباحث في مركز جسور للدراسات سامر الأحمد.
وقال الأحمد لـ”نون بوست” إن “الضغوط العشائرية والاحتجاجات في دير الزور أدت إلى تسليط الضوء على إدارة قسد، من قبل المنظمات الحقوقية والقوى الدولية، ما شكّل ضغطًا داخليًا وخارجيًا عليها، الأمر الذي دفعها إلى إصدار عفو جزئي بينما يقبع الآلاف في سجونها حتى الآن”.
وتسعى “قسد” عبر قرار العفو إلى تعزيز ثقة وجهاء العشائر في “الإدارة الذاتية”، بعدما أعادت هيكلة “مسد” وإعلان العقد الاجتماعي والتقسيمات الإدارية، وفقًا لأحمد، وبالتالي تعزيز مكانة الوجهاء بالمجتمعات المحلية وكسب ثقتها وإعطاء إشارة إلى الرعاة الدوليين أنها بدأت إصلاحات جدّية في إطار تحسين إدارتها.
وفي تقريرها الصادر منتصف أبريل/ نيسان الماضي، أكدت منظمة العفو الدولية أن “الإدارة الذاتية” مسؤولة عن انتهاكات واسعة النطاق لحقوق أكثر من 56 ألف شخص محتجزين لديها، من بينهم 11 ألف و500 رجل، و14 ألف و500 امرأة، و30 ألف طفل اُحتجزوا في 27 منشأة احتجاز ومخيمَي الاحتجاز روج والهول.
وأشارت المنظمة إلى أن رغم مرور أكثر من 5 سنوات على هزيمة تنظيم “داعش”، إلا أنه لا يزال عشرات الآلاف من الأشخاص محتجزين تعسفيًا لأجل غير محدد، وكثيرون منهم يعيشون في ظروف غير إنسانية تعرضوا للتعذيب والضرب المبرح والإبقاء في وضعيات مجهدة والصعق بالصدمات الكهربائية والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
من جانبه اعتبر الباحث مهند الكاطع أن حالة التململ الشعبي من إدارة “قسد” أحدثت احتجاجات مدنية مناهضة وانتفاضة عشائرية، وجعلت المنطقة ساخنة ومحل أنظار واهتمام حقوقي ودولي، لا سيما منظمات حقوق الإنسان، ما دفعها إلى التناغم مع التقارير الحقوقية والضغوط الدولية بعدما أصبحت مدانة داخليًا وخارجيًا.
وإلى جانب الضغوط الداخلية، تبدو هناك أسبابًا أخرى تدفع “قسد” إلى إصدار قرار العفو واتخاذ إجراءات هدفها كسب ثقة المجتمع المحلي، أولها ملامح التطبيع بين أنقرة ونظام الأسد برعاية روسية، ما يعني زيادة المخاطر الوجودية لإدارتها.
وتخشى “قسد”، التي تعتبرها أنقرة تهديدًا لأمنها القومي، أن تكون ضحية للتقارب بين النظام وتركيا، لا سيما أنها باتت على طاولة نقاشات اللجان التحضيرية لعمليات التطبيع، وفي ظل المطالب التركية التي تشمل مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود السورية-التركية وحل مسألة اللاجئين السوريين.
يرى الأحمد أن إجراءات “قسد” تأتي كردّ على أي سيناريوهات قد يتم الاتفاق عليها بين النظام وتركيا، مرجحًا أن تكون الضغوط اقتصادية وأمنية وليس عملًا عسكريًا، مما سيزيد الضغط على “قسد”.
ولذلك، تسعى “قسد” لاتخاذ خطوات استباقية لتعزيز موقفها قبل تفاقم الضغوط، خاصة في ظل انشغال واشنطن بالانتخابات، مما قد يجعلها في حالة ثبات حتى نهاية العام الحالي.
وقال الأحمد إن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية سيلعب دورًا هامًّا في مستقبل الإدارة الذاتية، وفي حال نجاح دونالد ترامب، فإن ذلك يضع “قسد” أمام خيارات ضيقة ومحدودة لأن الأخير ليس بمزاج جيد معها، لا سيما أن في فترة عهده الماضي شنّت تركيا عمليتين عسكريتين في الأراضي السورية “غصن الزيتون” و”نبع السلام”.
هل تستخدم ورقة “داعش” مجددًا؟
يخشى السكان في مناطق شمال شرق سوريا من أن تقوم “قسد” بالإفراج عن بعض المعتقلين المنتسبين لتنظيم “داعش”، لاستخدام هذه الورقة كوسيلة لمواجهة التحديات التي تعصف مسقبلها المجهول في ظل التغيرات الدولية، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة ودخولها في مرحلة من عدم الأمان.
يوضح الأحمد أن “قسد” أطلقت سراح عناصر مرتبطين بـ”داعش”، خاصة الذين أنهوا فترات عقوبة طويلة منذ معركة الرقة في عام 2017، مشيرًا إلى أنه لا يمكن إطلاق تسمية “داعش” على كل المعتقلين أو تبرئتهم، لأن بين المعتقلين في السجون سياسيين ومعارضين ونشطاء ومدنيين اُعتقلوا في تقارير كيدية، وفق مصالح من كوادر “قسد”.
وتابع أن المفرَج عنهم عناصر عاديون ليسوا من الصف الأول، لأن الأمراء والقادة البارزين تحت رعاية التحالف الدولي ومسألة الإفراج عنهم مستبعدة، مشيرًا إلى أن استخدام ورقة “داعش” من قبل “قسد” يهدف إلى مواجهة التغيرات الدولية في الملف السوري.
وفي 17 يوليو/ تموز الجاري، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” أن تنظيم “داعش” ضاعف من هجماته في سوريا والعراق، خلال الفترة الممتدة بين يناير/ كانون الثاني ويونيو/ حزيران الماضي، مقارنةً مع العام الماضي، حيث تبنى التنظيم 153 هجومًا في سوريا والعراق، مؤكدةً أن التنظيم يحاول إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته.
ويرى الكاطع أن “قسد” تتناغم مع تصريحات القيادة الأمريكية التي تبرر وجودها في المنطقة أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي تزامنًا مع الانتخابات الأمريكية، في أنها لا تزال تحارب “داعش” المتواجد في سوريا والعراق، والذي يشكّل خطرًا على الأمن القومي الأمريكي والعالمي.
وقال الكاطع لـ”نون بوست” إن “مسألة الإفراج عن عناصر من تنظيم داعش واردة جدًّا، لا سيما أنها اعتقلتهم بتهمة عملهم كخلايا نائمة تابعة للتنظيم”.
وأضاف: “تتبع قسد بهذه الطريقة أسلوب نظام الأسد عندما أفرج عن عناصر متشددة ومقرّبة من التنظيمات الإرهابية بغية استثمارها، وبالتالي تحاول الاستثمار بداعش في ظل التغيرات المرتقبة في الإدارة الأمريكية”.
وأكد أن استغلال ورقة “داعش” محاولة للفت أنظار العالم بأن المنطقة لا تزال تحت مخاطر التنظيم، مرجحًا أن تشهد الفترة المقبلة هجمات لعناصر “داعش” المخترق أيضًا تناغمًا مع التصريحات الأمريكية، وبالتالي سنكون أمام حالة تبرير لوجود “قسد” كقوة حليفة لواشنطن وتحارب التنظيمات الإرهابية.
ختامًا، تبدو الضغوط الشعبية الداخلية والإدانات الخارجية للإدارة الذاتية من جهة، ومسيرة التقارب التركي مع نظام الأسد وإمكانية استلام الحزب الجمهوري للإدارة الأمريكية من جهة أخرى، تسبّب في جعل “قسد” أمام محاولات استجداء تهدف إلى كسب الرضا الداخلي والخارجي بأقل الخسائر الممكنة، والتي قد تدفعها إلى استخدام ورقة “داعش” مجددًا.