أيام تفصل تونس عن أول انتخابات محلية لها عقب ثورة الـ14 من يناير/كانون الثاني 2011 التي أطاحت بنظام بن علي الذي جثم على صدور التونسيين أكثر من 23 سنة، انتخابات محلية أولى سيكون لها الوقع الكبير على الاستثناء التونسي، فهي الخطوة الأبرز نحو تكريس الديمقراطية في هذا البلد العربي الذي يرنو أبناؤه إلى العيش الكريم.
لماذا تختلف هذه الانتخابات المحلية عن سابقاتها؟
الأحد القادم، الـ6 من مايو/أيار، يتوجه أكثر من 5 ملايين و369 ألف تونسي إلى مراكز الاقتراع لانتخاب ممثليهم في المجالس المحلية الـ350 المنتشرة في كامل أنحاء البلاد، وقد بلغ العدد الإجمالي للمترشحين في هذه الانتخابات أكثر من 45 ألف شخص، 52% لا تتجاوز أعمارهم 35 سنة، إضافة إلى نحو 8300 شخص مسجل في القائمات التكميلية.
هذه الانتخابات، ينتظرها التونسيون منذ سنوات عدة بفارغ الصبر، فمن المنتظر أن تضع حدًا لعمل النيابات الخصوصية التي عينت بعد الثورة، وكان التسيب والفوضى سمتها الأبرز، وأحد أهم أسباب عرقلة نشاط البلديات وعملية التنمية في الجهات وتأخر تحقيق مطلب من المطالب الشعبية الأقرب للمواطنين وهو الحكم المحلي الذي نادى به التونسيون في يناير 2011.
وتتعلق هذه الانتخابات، بانتخاب أعضاء المجالس البلدية في 350 دائرة بلدية، بينها 86 بلدية حديثة العهد و24 مجلسًا جهويًا (تابعًا للمحافظة) موزعة على مختلف محافظات تونس، بمقاعد تزيد على 7 آلاف مقعد، وينص الفصل 117 خامسًا من القانون الانتخابي على أن “يجري التصويت على القائمات في دورة واحدة”.
هذه الانتخابات وما ستفرزه من مجالس بلدية وجهوية، من شأنها أن تركز مؤسسات حكم محلي حقيقية
وينتظر التونسيون منذ فبراير 2014، موعد الانتخابات المحلية لتطبيق ما جاء به دستور بلادهم الذي نص على مبدأ اللامركزية، حيث نص الدستور التونسي الجديد في فصله 131 في الباب السابع المتعلق السلطة المحلية: “تقوم السلطة المحلية على أساس اللامركزية، تتجسد اللامركزية في جماعات محلية، تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون، يمكن أن تحدث بقانون أصناف خصوصية من الجماعات المحلية.”
هذه الانتخابات وما ستفرزه من مجالس بلدية وجهوية، من شأنها أن تركز مؤسسات حكم محلي حقيقية تكون حلقة وصل بين المواطن والسلطة المركزية، وتمكن التونسيين من المشاركة في إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم وتخفف من وطأة السلطة المركزية، كما نادت بذلك الثورة التونسية.
وبلغت الخدمات البلدية في السنوات الأخيرة مستويات متدنية، وشهدت هذه المناطق انتشارًا للجريمة المنظمة، نتيجة الغياب شبه الكلي لكيان الدولة في الأحياء والقرى والمدن خصوصًا الداخلية، مما يعكس اللامبالاة المطلقة تجاه تلبية مطالب المواطنين وتحقيق حقوقهم المشروعة.
هل يضمن نظام الاقتراع تمثيل كل التونسيين؟
ينص القانون الانتخابي في الفصل 117 خامسًا على “توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا”، ويعتبر نظام التمثيل النسبي الأقدر على تمثيل أكبر عدد من المترشحين، حيث يحصل كل حزب سياسي أو ائتلاف حزبي على حصة من مقاعد الدائرة الانتخابية البلدية تتناسب مع حصته من أصوات الناخبين.
خريطة الانتخابات المحلية في تونس
ويقوم اعتماد أكبر البقايا على توزيع المقاعد في مرحلة أولى على أساس الحاصل الانتخابي، ويكون تحديد هذا الحاصل بقسمة عدد الأصوات على عدد المقاعد المخصصة للدائرة وتسند إلى كل قائمة عدد مقاعد بقدر عدد المرات التي حصلت فيها على الحاصل الانتخابي، وتسند المقاعد إلى القائمات باعتماد الترتيب الوارد بكل منها عند تقديم الترشحات، وإذا بقيت مقاعد لم توزع على أساس الحاصل الانتخابي فيتم توزيعها في مرحلة ثانية على أساس أكبر البقايا على مستوى الدائرة.
ونص نظام توزيع المقاعد على عتبة انتخابية 3%، حيث “لا تدخل في توزيع المقاعد القائمات المترشحة التي حصلت على أقل من 3% من الأصوات المصرح بها على مستوى الدائرة” (الفصل 117 خامسًا).
وفتحت تونس أمس الأحد 359 مكتب اقتراع لفائدة القوات الحاملة للسلاح للإدلاء بأصواتهم في هذه الانتخابات وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد، وقالت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التونسية، خلال مؤتمر صحفي عقدته عقب إغلاق مراكز الاقتراع، إن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بلغت 12% على المستوى الوطني، حيث شارك 4492 فقط من جملة 36495 أمنيًا وعسكريًا مسجلاً لدى هيئة الانتخابات.
كيف ستساهم في تكريس الديمقراطية التونسية؟
هذه الانتخابات المحلية الأولى في تونس، تمثل حسب عديد من الخبراء خطوة جديدة نحو تكريس الديمقراطية، ذلك أنها بمثابة الفرصة التاريخية لتوسيع القاعدة الديمقراطية في البلاد وخفض درجة الاحتقان، ومن شأن هذه الانتخابات أن تساهم في توسيع المسؤوليات المركزة في مستوى الحكم المركزي إلى آلاف المنتخبين على المستوى المحلي وتخفيف الضغط على الحكومة وتوسيع التجربة الديمقراطية التشاركية في البلاد، ما من شأنه أن يعود بالفائدة على الجميع.
سيكون لتنظيم هذه الانتخابات تداعيات إيجابية على مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد
وكان من المقرر إجراء هذه الانتخابات التي طال انتظارها لتعزيز عملية الانتقال الديمقراطي في الـ30 من شهر أكتوبر سنة 2016، ثم تأجلت إلى 26 من مارس 2017، ثم إلى 17 من ديسمبر من نفس السنة، تزامنًا مع ذكرى انطلاق الثورة، وتم تأجيلها إلى 25 من مارس 2018 نظرًا لأن البرلمان لم يوفق في سد الشغور الحاصل في هيئة الانتخابات بعد استقالة رئيسها وأعضاء منها، قبل أن تؤجل إلى مايو، بناءً على طلب الأحزاب الكبرى.
وسيكون لتنظيم هذه الانتخابات تداعيات إيجابية على مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد، حيث تترجم تقدمًا في هذا المسار، وإشارة إيجابية في تونس، خاصة مع جنوح الرئيس الباجي قائد السبسي نحو النزعة السلطوية ورغبته في استئثار السلطات بمفرده وتلميحه أكثر من مرة إلى رغبته في تغيير النظام السياسي في البلاد وتوسيع صلاحياته.
ومن المنتظر أن تمثل هذه الانتخابات التي سعت عديد من الأطراف الداخلية والخارجية إلى عرقلتها وافشالها، فرصة جديدة لتأكيد نجاح التجربة التونسية وتفردها بين باقي دول المنطقة التي وصلتها موجات الربيع العربي.
مخاض المصادقة على قانون تنظيم البلديات…
قبل خمسة أيام من الآن، كان البعض يشكك في جدوى إنجاز الانتخابات، فمجلة الجماعات المحلية (قانون تنظيم البلديات) التي من المنتظر أن تنظم عمل هذه البلديات لم يصادق عليها بعد، لكن مساء الخميس حمل معه المفاجأة السارة، فبعد أكثر من 9 أشهر من المداولات داخل اللجان وفي الجلسات العامة وجلسات النقاشات الطويلة، نجح البرلمان التونسي في المصادقة على كل بنود “مجلة الجماعات المحلية” التي تمثل بحسب خبراء نقلة قانونية وتشريعية ستقلب المشهد السياسي في البلاد.
وقال رئيس البرلمان محمد الناصر إثر المصادقة على القانون “تمكن المجلس في وقت قياسي من صناعة الحدث وذلك بالمصادقة على هذا المشروع الذي سيمكننا من المضي لمواصلة النهج الإصلاحي العميق على كل المستويات لإرساء أركان الجمهورية الثانية على مبادئ قانونية ثابتة، في إطار أحكام الدستور”، معربًا عن اعتزاز البرلمان “بهذا الإنجاز التاريخي الذي تحقق لصالح تونس عبر المصادقة على هذا القانون قبل تاريخ الانتخابات البلدية، مما مكننا من الوفاء بما تعهدنا به لدى الرأي العام”.
تعطي المجلة الجديدة صلاحيات كبيرة للجماعات المحلية
واعتبر الناصر أن البرلمان نجح في تحدٍ كبير، “إذ تفصلنا أيام قليلة عن موعد انتخابي مهم يحتاج إلى إطار قانوني صلب يتمثل في هذه المجلة التي هي تفعيل للأحكام المضمنة في الباب السابع من الدستور وتكريس المبادئ الدستورية المتعلقة بتنظيم السلطة المحلية وتحديد نظام ممتلكاتها ومرافقها وقواعد تسييرها وفق معايير الشفافية والحوكمة الرشيدة”.
وأضاف أن المجلة تحدد الصلاحيات الذاتية والمشتركة والمنقولة لمختلف أنواع الجماعات المحلية وفق معايير النجاعة ومبدأ التدبير الحر، على أن يتولى القضاء المالي والإداري مهمة الرقابة اللاحقة لتعويض الرقابة المسبقة التي كانت تمارسها سلطة الإشراف”.
ويتضمن قانون “مجلة الجماعات المحلية” الذي سيلغي قانون 1975 الذي ينظم عمل البلديات في تونس، بنودًا تعطي صلاحيات جديدة للمجالس البلدية المنتخبة على المستوى المالي والإداري والتنظيمي وفق رؤية تشاركية تؤسس للامركزية القرار وللحكم المحلي، ومن شأن هذا القانون الجديد الذي يحتوي على 392 بندًا، أن يفتح فرصًا أكبر أمام الجماعات المحلية المنتخبة لدفع التنمية المحلية في مناطقهم، ويحرر الاستثمار والاقتصاد المحلي من قيود البيروقراطية والسلطة المركزية التي كانت تقيدهم في السابق.
وفرض القانون الجديد تفرغ رؤساء المجالس المحلية ويمنع ازدواجية المهن، كما أفضى لصلاحيات أوسع لهذه المجالس في التخطيط والتنفيذ والتسيير، وحررها على مستوى المناقصات والتلزيمات بهدف دفع التنمية وذلك في إطار رقابة القضاء وعبر حوكمة الموارد وترشيد الإمكانات، كما حدد القانون سبل متابعة ومحاسبة ومراقبة المجالس المحلية ورؤسائها.