ظلت الأوقاف في تاريخ المسلمين عامة والمصريين خاصة ذات مكانة مرموقة، ليس لدورها العظيم في أوجه التكافل الاجتماعي وأعمال الخير فحسب، بل لأنها باتت موردًا دائمًا على موائد قطاعات الدولة والمجتمع كافة على حد سواء، إذ لم تترك نافذة إلا وتسللت أشعتها من بين ثناياها.
فبعد أن كان يقتصر الوقف في عهد النبوة والصحابة على المساجد فقط، توسعت رقعته لتشمل مجالات أخرى منها المستشفيات والمدارس والفنادق والتكايا، بل وصل في بعض الأحيان للإنفاق على التجهيزات العسكرية للدول والحكومات.
الثروات المليارية للأوقاف التي تراكمت عبر العقود الماضية تحولت مع مرور الزمن إلى مطمع للأنظمة والحكومات، خاصة مع تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها، ومن ثم انتقلت من منافذ لإغاثة الملهوفين وسد رمق الجوعى إلى تكية في قبضة السلطة، ليدفع الفقراء والمحتاجون – وحدهم كالعادة – ثمن هذا التغول على حقهم الذي طالما حفظ لهم كرامتهم وآدميتهم طيلة سنوات طويلة.
صور عجيبة للوقف
تجاوزت الأوقاف في مصر المفهوم التقليدي – الذي يعرفها بأنها “حبس العين وتسبيل الثمرة” أي رصد رأس المال ومنع بيعه والإنفاق من إيراداته في سبل الخير، الذي كان يهدف إلى إشباع الاحتياجات الأساسية للفقراء والمساكين والمرضى وطلبة العلم – إلى آفاق أخرى أكثر اتساعًا، لتشمل مراعاة حقوق الإنسان وحقوق الحيوان، بل وصلت في بعض الأحيان إلى محاولة تطييب الأحاسيس ومراعاة المشاعر وتحسّبت لحفظ الكرامة ورفع الإيذاء وإرضاء طموحات المحرومين.
في الحضارة الإسلامية عمومًا وفي مصر على وجه الخصوص كان الوقف هو حجر الأساس الذي قات عليه كل المؤسسات الخيرية التي كانت تتخذ أشكالًا عدة منها بناء الفنادق للمسافرين وغير القادرين، فضلًا عن التكايا والزوايا التي كانت تتضمن بيوتًا للفقراء توزع على من لا يملك شراء منزل له.
تعددت أشكال الوقف في مصر لتشمل صورًا متباينة غطت وبنسبة كبيرة جدًا كل أركان المجتمع المصري حينها، على رأسها أوقاف الجامع الأزهر التي دُشنت لضمان حسن سير العملية التعليمية وتوفير أكبر قسط من الراحة للمدرسين، ومنها كذلك وقف البغلة وهو وقف خصص للإنفاق على البغال التي يركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضمان الراحة لهم.
تحولت الهيئة المخولة بإدارة الأوقاف المصرية إلى أرض خصبة للفساد لا سيما منذ قدوم الوزير الحاليّ محمد مختار جمعة، وهو ما تكشفه الأرقام والإحصاءات والتقارير الرقابية
كذلك كان هناك وقف لختان أبناء الفقراء، حيث كان يختن الولد ثم يعطى الواقف أو القائمون على الوقف صندوقًا به كسوة وطعام وألعاب وحلوى تكفي الطفل لسنوات طويلة، علاوة على ذلك كانت هناك أوقاف لإطعام الطيور والعصافير في مدن عديدة بجانب القاهرة كالقدس ودمشق.
ومن صور الوقف العجيبة ما كان يخصص للكلاب الضالة، حيث كان يُنفق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، كما جاء في كتاب “من روائع الأوقاف الإسلامية” لراغب السرجاني، كذلك مما حكاه الرحالة ابن بطوطة في عهد الدولة العثمانية ما كان يسمى “وقف الإبريق” ويعرف أيضًا بوقف الفاخورة أو الكاسرة وهو وقف خيري كانت مهمته إعطاء الصبي والفتاة والفقير والغلام وعاء فخار سليم مقابل الوعاء الذي انكسر معه في أثناء قيامه بعمله.
الثروات المليارية للأوقاف جعلتها مطمعًا للولاة والحكام
التغول على الوقف
بينما كان يمثل الوقف النافذة الأولى والأخيرة أمام الفقراء لضمان عيشهم بصورة تحفظ كرامتهم، إذ بالقائمين عليه سواء من الأهالي أم الحكومات يشوهون صورته بطريقة أفقدت هذا المورد قيمته وأجهضت أهدافه النبيلة التي كان يقوم لأجلها، وهو ما ذكره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه “محاضرات في الوقف“.
الكتاب رصد كيف أن بعض الذين وقفوا اتخذوه ذريعة لمحاربة الميراث وحرموا البنات، أو جعلوه قسمة ظالمة بين الذكور والإناث، ويؤكد أن تلك المآثم كثرت حتى شوّهت الأوقاف وأخفت في كثير من الأحيان خيراتها، موضحًا أن كثيرًا من حجج الأوقاف الأهلية تنص صراحة على حرمان البنات أو أبنائهم من إيرادات الوقف وأنه قصر فقط على الأبناء وذريتهم من الذكور، فيما يسمى بأحقية “أولاد الظهور وحرمان أولاد البطون”.
كما أن الإقبال على الوقف في مصر خلال القرن الـ19 والربع الأول من القرن الـ20، خاصة الأوقاف الأهلية التي وصلت مساحة الأراضي الموقوفة بها إلى 770 ألف فدان، بما يعادل سبع مساحة الأراضي الزراعية في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، ما جعلها مطمعًا للكثيرين.
أبو زهرة في كتابة ذكر أن هذا الإقبال الكبير على الوقف صحبه عنف استغلال الأراضي ونهب غلاتها من قبل المتولين أمرها، فنهبت الأرض وخربت العمائر الموقوفة، فضلًا عن تقييد التصرف في هذا الحجم الهائل من الأراضي والعقارات، وعدم رعاية الأعيان الموقوفة كما ترعى الأملاك الحرة.
غير أنه كشف عن بعض السلبيات التي رافقت توسعة رقعة الوقف لا سيما الأهلي، منها ارتفاع معدلات البطالة، فكثير من المستحقين في الأوقاف يطمئنون إلى أرزاقهم التي تأتيهم كل عام فينقطعون عن الحياة الجادة العاملة وينصرفون إلى الحياة اللاهية الخاملة.
في عهد الدولة العثمانية كان هناك ما يسمى “وقف الإبريق” ويعرف أيضًا بوقف الفاخورة أو الكاسرة، وهو وقف خيري كانت مهمته إعطاء الصبي والفتاة والفقير والغلام وعاء فخار سليم مقابل الوعاء الذي انكسر معه في أثناء قيامه بعمله
وبعيدًا عن التجاوزات التي ربما تصاحب الوقف ولا تقاس بحجم الأهداف النبيلة التي يقدمها للمجتمع، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تكون مطمعًا للولاة، إذ أبيح وقف الأراضي الزراعية استباحة عمياء، وتم التغول عليها من الحكام بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر، ما أدى بعد ذلك إلى تعدد دواوين الوقف في مختلف القطاعات في محاولة لتقسيمه وتفتيت تماسكه الذي كان سببًا في الصمود أمام جشع السلطة لسنوات طويلة.
وقد تعددت صور الاستيلاء على الأوقاف، وذلك عن طريق استبدالها بمساعدة قضاة وشهود يتم استئجارهم لتنفيذ مثل هذه العمليات، لا سيما عن طريق المماليك والأمراء ممن كانوا يضعون أيديهم على تلك الأوقاف بذريعة حماية أموالهم، وهو ما أدى رويدًا رويدًا إلى تقليص مساحات الوقف خلال مرحلة ما بعد القرنين الـ7 والـ8.
وقد كللت محاولات السيطرة على الوقف بلجوء بعض الحكومات منها مصر وسوريا إلى إجراء الكثير من التعديلات على قوانين الوقف وألغت الوقف الأهلي أو الذري، لتتحول كل هذه الثروة ما بين غمضة عين وانتباهتها إلى تكية تحت إمرة الحكام والأنظمة.
وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة
وصلت مساحة الأراضي الموقوفة في مصر قرابة 770 ألف فدان، بما يعادل سبع مساحة الأراضي الزراعية في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، ما جعلها مطمعًا للكثيرين
أرض خصبة للفساد
تحولت الهيئة المخولة بإدارة الأوقاف المصرية إلى أرض خصبة للفساد لا سيما منذ قدوم الوزير الحاليّ محمد مختار جمعة، وهو ما تكشفه الأرقام والإحصائيات والتقارير الرقابية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه البيانات الأولية الصادرة عن هيئة الأوقاف عن ملياري جنيه أموالًا سائلة و500 مليون جنيه إيرادات سنوية وحصر أراضٍ بقيمة 450 مليون جنيه لعام 2017، توجد مئات المساجد في أنحاء الجمهورية مغلقة لحاجتها إلى إحلال وتجديد، وهنا يتبادر السؤال أين يذهب ما تكتنزه وزارة الأوقاف من مليارات الجنيهات؟
الوزارة خلال السنوات الأخيرة شهدت عشرات من قضايا الفساد تنوعت بين اختلاسات ورشاوى وتسهيل الاستيلاء على المال العام واستغلال النفوذ، كان آخرها اتهام الوزير بالتورط في قضايا رشوة المتهم فيها صلاح هلال وزير الزراعة الأسبق المحكوم عليه بالسجن 10 سنوات، هذا بخلاف اتهامه شخصيًا باستغلال نفوذه في تحقيق مكاسب خاصة كتعيين ابنته في إحدى الوظائف المرموقة رغم حصولها على مؤهل لا علاقة له بمتطلبات الوظيفة، إضافة إلى حصوله على بعض الوحدات السكنية الخاصة بالوزارة وتشطيبها على حساب الهيئة، وهي القضية التي أثارت ضجة حينها وتوقع الكثيرون أن تكون القشة التي تطيح به من فوق الكرسي، لكن الجميع فوجئ بتجديد الثقة له مرة أخرى.
ومن ثم، وبعد أن كان للفقراء نوافذ دائمة للخير والعمل التكافلي تقيهم سوء الحاجة والعوز وتحفظ لهم كرامتهم، باتوا اليوم – في ظل تفشي الفساد في الجهات القائمة على إدارة الأوقاف، فضلًا عن وضع الحكومة قبضتها الكاملة على أراضي وممتلكات الوقف بشتى أنواعها – عراة في دروب الحرمان دون ظهير لهم، مما ساهم بشكل أو بآخر في تصاعد منحنى الفقر في مصر، ليتجاوز عدد الفقراء في الدولة التي كانت تعد تكية لإطعام وإيواء أهل الشرق والغرب على حد سواء في السابق إلى 30 مليون مصري، والعدد مرشح للزيادة جراء السياسات الأخرى المتبعة.