قبل عامين، تناقلت وسائل الإعلام أخبارًا عن إيقاف ثماني مذيعات مصريات عن العمل بسبب وزنهن الزائد، لحين التزامهن بحمية غذائية لإنقاص وزنهم؛ مما لاقى استنكارًا واسعًا بسبب التمييز العنصري ضد النساء البدينات والاعتقاد بأنه كان من الأجدر بإدارة القناة أن تطور المحتوى الإعلامي بدلًا من الإساءة للمذيعات وتعنيفهم نفسيًا بشكل علني، ومن جانب آخر، وجد البعض أن تطبيق هذا القرار يجب أن يشمل الرجال والنساء معًا من أجل عرض أفضل صورة للمشاهد العربي، وآخرون أيدوا القرار على اعتبار أنه من غير اللائق أن تكون المذيعة بدينة.
رغم معارضة هذا القرار للقانون المصري ومخالفته أيضًا للاتفاقيات الدولية، فإنه أصبح موقفًا اجتماعيًا شائعًا في أغلبية دول العالم، فعلى سبيل المثال، قضت أعلى محكمة في أوروبا عام 2004 بحظر التمييز في أماكن العمل على أساس الوزن الزائد، وذلك بعد فقدان أحد الأشخاص البالغ وزنهم نحو 160 كيلوغرامًا لوظيفته بسبب سمنته.
العلم يثبت عنصرية أصحاب العمل ضد البدناء
أجرى موقع “فيري جودبوس” دراسة استقصائية تضم 500 شخص من المسؤولين عن التوظيف في أماكن عملهم، وعرضت عليهم صورة لامرأة بدينة وتم سؤالهم عما إذا كانوا يفكرون في توظيفها، ليوافق 15.6% فقط على تعيينها، ويصف واحد من كل خمسة منهم المرأة بأنها كسولة، و21% وصفها بأنها غير مهنية، وهي صفات ارتبطت بذهن الناس بشأن الشخص البدين، وغيرها مثل ضعف الإرادة وقلة الذكاء.
وعلى إثر هذه النتائج المثيرة للقلق على حد قول الخبراء، أشارت نائبة مدير جامعة كونيتيكت، ريبيكا يوهل، بأن “هناك العديد من الأدلة والأبحاث التي تثبت التحيز على أساس الوزن في بيئة العمل، وهو أمر منتشر جدًا ومقبول اجتماعيًا، كما أن هذا التحيز الضمني للوزن يمارس ضغوطه على المرأة بصورة مضاعفة مقارنة مع الرجل”.
الرجال البدناء يحصلون على نفس مستوى الدخل الذي يحصل عليه زملاؤه النحيفين وهذا ما لا ينطبق على النساء السمينات
المثير للدهشة أكثر هي الدراسات الأخرى التي أشارت إلى انخفاض الدخل الفردي للشخص البدين مقارنة مع أقرانه النحفاء، حيث وجدت أن النساء البدينات جدًا يتلقين دخل أقل من قريناتهن صاحبات الوزن المتوسط، وعلى خالفهن النساء النحيفات جدًا واللاتي يحصلن على مبالغ أكبر، وهذه إشارة إلى الدور الذي يلعبه الشكل الخارجي في التأثير على القبول المجتمعي، إضافة إلى أهميته في اقتناص أو فقدان الفرص المهنية، خاصة للنساء.
ففي عام 2014، وجد باحثون في جامعة فاندربيلت في ناشفيل أن الرجال البدناء يحصلون على نفس مستوى الدخل الذي يحصل عليه زملاؤه النحيفين وهذا ما لا ينطبق على النساء السمينات، وفسر الخبراء هذا الاختلاف، بالنظرة الاجتماعية والتاريخية التي طالما بالغت من قيمة الشكل الخارجي لدى المرأة وسجنتها في دائرة ضيقة من المعايير الجمالية المعقدة، على العكس من الرجل الذي نُظِر إلى وزنه الكبير على أنه رمز للقوة والصلابة.
رحلة السمنة من الجمال والثراء إلى المرض والعنصرية
لا يمكن فهم التغيرات الاجتماعية دون الالتفات إلى الحالة الاقتصادية في تلك الفترة، إذ تختلف أفكار المجتمعات واعتقاداتها باختلاف الوضع المادي الذي يمرون به، لذلك تعتبر السمنة ظاهرة اقتصادية – إلى حد ما – أكثر من كونها ظاهرة صحية، فعلى مدى قرون عديدة، تعاملت الحضارات مع السمنة والجسم الممتلئ على أنه رمز للجمال والرخاء والثراء، فما علاقة الاقتصاد بالهوس المجتمعي الحاليّ بمقياس الجسم؟
قديمًا، دفعت الأزمات الاقتصادية مثل نقص المواد الغذائية والمجاعات بالتسبب بارتفاع معدلات المرض والوفاة، لذلك لصقت صور الجسد النحيف بالفقر والمرض وبالتالي تشكل موقف اجتماعي معادٍ تجاه هؤلاء الأشخاص الذين اعتبروا لفترة طويلة بأنهم ضعفاء غير قادرين على العمل أو الإنتاج.
فوجد النحفاء مساحة ضيقة لهم في هذا الوسط، ولاقوا صعوبة في العمل والزواج أيضًا، وعلى إثر هذه المشكلة، ظهرت “أكواخ التسمين” في إفريقيا، حيث تقضي فيه الفتاة عامين، حتى يسمح لها كبار القرية بالخروج عندما تصبح سمينة كفاية وجاهزة للزواج.
بات الطعام متاحًا للجميع على مدار السنة، فلم يعد يبذل الإنسان مجهودًا كبيرًا كالسابق وأصبح ينظر للبدانة على أنها واحدة من أشكال المرض
وبالمقابل، احترمت هذه الشعوب الشخص البدين، فلقد أظهرت بعض القطع الأثرية في إفريقيا واللوحات الفنية في أوروبا بأن التاريخ صور الرجل القوي على أنه شخص ضخم البنية، أما المرأة السمينة فكانت الأكثر حظًا في الجمال والخصوبة والصحة، لذلك كانت صفة البدانة مرغوبة جدًا في الأزمنة القديمة.
لكن مع بدء الثورة الصناعية وانتشار الماكينات والسيارات وتوفر الثروات الغذائية، النباتية والحيوانية، بات الطعام متاحًا للجميع على مدار السنة، فلم يعد يبذل الإنسان مجهودًا كبيرًا كالسابق وأصبح ينظر للبدانة على أنها واحدة من أشكال المرض لا سيما عندما أعلن الأطباء ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض القلب عند الأشخاص الذي يعانون من زيادة في الوزن.
ومن هنا ولد هوس مجتمعي جديد بخسارة الوزن ليتجنبوا الاتهامات القائلة بأنهم غير أصحاء أو كسالى وفقراء، وفي الجهة الأخرى، ساعدت العلامات التجارية في صناعة الملابس على تعزيز هذا التوجه، فالدعايات التي تركز على الجسد النحيل والنوادي الرياضية والأنظمة الغذائية وعلامات الأطعمة الصحية جميعها تصرخ في أذن الفرد بضرورة خسارة الوزن لمطابقة المعايير الاجتماعية الجديدة التي يفرضها الاقتصاد بغض النظر عن الفروقات الفردية والأهواء الشخصية.
عند التفكير في ثقل قطاع الأنظمة الغذائية الذي يكلف نحو 70 مليار دولار أو ال 6 إلى 11 مليون شخص من الذين يعانون من اضطرابات الطعام نجد أن هذه المنظومة بأكملها، عززت من الموقف الحاليّ تجاه السمنة بجعلها وصمة عار ومادة سهلة للسخرية والتهكم وإصدار الأحكام، لترفع من مستوى الجسد الرفيع وتصوره على أنه رمزًا للجمال والحيوية والجاذبية.