البحث في شخصية الفرد ما يزال يزدهر يومًا بعد يوم، نظرًا لتعقيداتها وتعدد جوانبها والعوامل التي تؤثر عليها وتتأثر فيها. لذلك فتنقسم دراسة الشخصية أساسًا إلى عدة أقسام منها ما يدرس أثر الجينات ومنها ما يدرس أثر البيئة ومنها ما يركّز على التجارب والمغامرات الحياتية التي يخضوها الإنسان.
ومن أجل فهم أثر التجارب على تكوين الشخصية بشكلٍ أدقّ، علينا أولًا الحديث عن بعض الخصائص الرئيسية للشخصية الفردية وطريقة تكوّنها. أوّلها أنّ شخصية الفرد هي جزء منظّم ومتناغم من ذاته، ونحن نميل إلى التعبير عن جوانب معينة من شخصيتنا في حالات مختلفة، واستجاباتنا تكون مستقرة عمومًا، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّها لا تتأثر بالبيئة أو العوامل الخارجية المحيطة بها.
فعلى سبيل المثال قد تتصف شخصيتك بأنّك خجولٌ في المواقف الاجتماعية، إلّا أنّ حالة طوارئٍ ما قد تقودك إلى الانحياز لنهجٍ أكثر انفعالًا وصراحةً، ما يعني هنا أنّ الموقف أو التجربة هما اللذان حدّدا ملامح شخصيتك العامة. لكنّ العكس قد يحدث أيضًا، بمعنى أنّ تؤدي شخصيتك للتجربة وتحفّز سلوك خوضها لأن يحدث، فأنتَ تتفاعل مع الأشخاص من حولك بحسب جوانب شخصيتك، وتختار مهنتك في الحياة بناءً على تفضيلات شخصيّتك، وتستمع للأغاني أو الموسيقى التي تفضّلها بناءً على ما تتميّز به شخصيتك، إذن فكلّ تجربة من تجارب حياتك اليومية، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا، تتأثر بشخصيتك.
يعدّ “الانفتاح على التجارب الجديدة” عاملًا أساسيًا من العوامل الخمسة الكبرى التي تُستخدم لدراسة وقياس الفروقات الفردية في الشخصية
ولكي نفهم كيفية تأثير التجارب على الشخصية هنا، علينا النظر إلى ما يُعرف بمصطلح “العوامل الخمسة الكبرى للشخصية؛ والتي تضمَ “الانفتاح على التجارب الجديدة”، عوضًا عن أربعة عوامل أخرى هي الاختلاط والتوافق والضمير والاضطراب أو القلق، جميعها تعمل على تكوين شخصية الفرد على المستوى البديهيّ.
يعدّ “الانفتاح على التجارب الجديدة” عاملًا أساسيًا من العوامل الخمسة الكبرى التي تُستخدم لدراسة وقياس الفروقات الفردية في الشخصية. فالشخص الذي يتمتع بمستوىً عالٍ من هذه السمة، يُظهر استعدادًا أعلى لخوض التجارب والمغامرات خارج نطاق ما يُعرف في علم النفس بمنطقة الراحة أو ” comfort zone“، إذ يكون محبًّا للبحث عن تجارب جديدة غير تقليدية وغير مألوفة لم يجربوها من قبل.
كما يتمتّع هذا النوع من الشخصيات أيضًا بمستوياتٍ أعلى من الانفتاح على الأفكار ووجهات النظر الجديدة أو غير التقليدية والمخالفة، والاحتكاك بالثقافات المختلفة والمتنوعة. وعلى النقيض من ذلك تمامًا؛ فإنّ الأشخاص الذين يتمتّعون بمستوياتٍ منخفضة من هذه السمة يبحثون غالبًا عن المألوف والآمن، ويخافون التجربة خوفًا من مجهوليتها ومجهولية نتائجها وتبعيّاتها.
بعض الدراسات تشير أنّ الانفتاح على التجارب يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالوراثة والجينات، ويؤكد غيرها أيضًا أنّ البيئة والتعلم والتدريب هي ما تؤثر على هذه السمة
ومن المرجّح أن تفوتهم الفرص لخوض التجارب الجديدة، أيًّا كان نوعها، مثل السفر أو إجراء تغيير وظيفي جذري أو تغيير البيت أو التعرّف على شخصٍ جديد. وبدلًا من ذلك، فهؤلاء الأشخاص يكتسبون راحتهم من التنبؤ بالبيئة التي اعتادوا عليها، عن طريق التمسك بروتين معيّن وسيرورة محدّدة لحياتهم اليومية، كما يفضلون كلّ ما هو مُجرَّب ومُختَبر من قبل على أنْ يدخلوا تجربة جديدة ويميلون لعدم إشراك خيالهم في تفاصيل الحياة اليومية بشكلٍ منتظم.
وفي حين تشير بعض الدراسات أنّ سمة الانفتاح على التجارب ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالوراثة والجينات، فتؤكد غيرها أيضًا أنّ البيئة والتعلم والتدريب، يمكن لها جميعها أنْ تلعب دورًا واضحًا وجليًّا في زيادة مستوى الانفتاح عند الشخص، فأنْ تدرّب نفسك شيئًا فشيئًا على بعض التجارب الجديدة وغير المألوفة، يمكن أن يساعدك في أن تصبح أكثر انفتاحًا على التجارب بشكلٍ عام.
وهنا لا بدّ أن يدخل النقاش الكلاسيكيّ المعروف في علوم الدماغ والنفس بمصطلح “الطبيعة مقابل التنشئة” أو “الطبيعة ضدّ التنشئة”، فمن جهةٍ يعتقد الكثيرون أنّ الشخصية تتكون بالبيئة والتجارب الفردية والاجتماعية التي يتعرّض لها الفرد، يرى آخرون أنّ جيناته الوراثية هي المسؤولة عن بناء شخصيته، بما في ذلك درجة انفتاحه على التجارب التي يخوضها.
يلعب مستوى الدوبامين في الدماغ دورًا في درجة انفتاح الفرد على التجارب في الحياة
وفي محاولة جادة لحسم هذا النقاش، يبدو أنّ الرأي الذي يميل إلى أنّ الشخصية هي نتاج خليطٌ لكلٍّ من التجارب من جهة والجينات من جهة أخرى، هو الأكثر قبولًا ومنطقيةً. فمما لا شكّ فيه أنّ التجارب تشكّلنا وتشكل شخصياتنا وهوياتنا الفردية، وفي الوقت نفسه فلا بدّ أنّ ثمة عوامل وراثية وبيولوجية تتحكم بالطريقة التي ننظر فيها إلى تلك التجارب ونتعامل معها سواء بخوضها أو رفضها، وإلى أي درجة يتم ذلك، عوضًا عن انعكاس أثرها ونتائجها علينا.
فما الذي يحدث في الدماغ ليمكن اعتباره عاملًا بيولوجيًّا يتدخل في تجارب حياتنا؟ بشكلٍ عامٍ يمكننا القول أنّ الدوبامين يلعب دورًا كبيرًا في ذلك، وهي المادة الكيميائية في الدماغ التي تلعب دورًا في نقل القيمة المحفّزة للمعلومات التي تصل الدماغ، العملية التي قد تفسّر لماذا يرتفع مستوى الدوبامين عند الأشخاص الأكثر حساسية لاكتشاف وتجربة الجديد وانخفاض مستواه عند أولئك الذين يفتقرون لتلك الرغبة والحساسية.