بين عشية وضحاها تفجرت حالة من الدعم والتعاطف والجدل على وقع مشكلات بطلها اتحاد كرة القدم المصري واللاعب محمد صلاح، وتجاوزت الكلمات حجم القضية التي تلبست دعم شخص تربع على عرش أوروبا وحقق النجاح المشتهى لملايين الشباب في بلاد تقتل الآمال وتسجن الأحلام.
في بلد صلاح نظام عربي لا يعرف رعاية المواهب، حتى إذا نجحت لا يتركها وشأنها، فإن تمكن رياضي من اكتساح وجدان الجماهير وضعت الأنظمة عينها عليه بعد نجاحه في غير أحضانها، وتلك مسألة ذات جذر نفسي واجتماعي وسياسي ضارب في المجتمعات العربية وتعلقها الهوسي بكرة القدم، ولكم في محمد أبو تريكة عبرة.
صلاح.. رصدته أعين الغرب فتلقفته السلطة
محمد صلاح مالئ دنيا الكرة وشاغل أهلها وكثير من غير أهلها، نجم منتخب مصر وليفربول الإنجليزي ونجم النجوم حاليًا لملايين المصريين والعرب، شاب خرج من بيوت البسطاء وأبناء الطبقة الوسطى، لم يلق تشجيعًا ولا رعاية فحاول وحاول إلى أن رصدته عين غربية فاحترف في الأندية البعيدة، وحين سطع نجمه في سمائها تلقفته يد السلطة.
بعد سلسلة الإنجازات الكروية التي حققها صلاح على المستوى الدولي، لم يتوان نظام السيسي في استغلاله باعتباره أحد أيقونات القوة الناعمة التي تحظى بشعبية جماهيرية كبيرة وذات تأثير في صحافة البلدان التي يلعب بها.
كل هذا دفع الشركات التجارية المصرية التي يتحكم فيها نظام السيسي لاستغلال هذه الشخصية من أجل الحملات الدعائية، متجاوزين الحقوق التجارية الخاصة باللاعب التي وضعته في أزمة بين نادي ليفربول واتحاد الكرة على خلفية استغلال صلاح فى “حرب الرعاة”.
تحول صلاح الذي يحظى بتأييد شعبي كبير إلى مطمع لكبرى شركات الرعاية من أجل استغلال اسمه وصورته عبر منتجاتها للمساهمة فى زيادة القوة الشرائية
بدأت الجولة الأولى بوضع صورة النجم المصري دون إذنه على إعلان خاص بالشركة المصرية للاتصالات وظهور صورته على طائرة منتخب مصر الوطني وقيل إنها تابعة لجهات منفذة، بينما هو الوجه الإعلامي لشبكة أخرى، مما أدخله في انتهاك الحقوق المالية والأدبية.
هناك أيضًا حملة مكافحة المخدرات المصرية تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي وبرعاية شركة “بريزنتيشن” الراعية للاتحاد التي سجلت ارتفاعًا بأضعاف في عدد المقبلين عليها بفضل محمد صلاح، كما وضعت إحدى شركات الشوكولاتة صورة محمد صلاح دون علمه.
بكل أسف طريقة التعامل فيها إهانة كبيرة جدًا.. كنت أتمنى التعامل يكون أرقى من كدا…
— Mohamed Salah (@MoSalah) ٢٩ أبريل ٢٠١٨
بالتالي تحول هذا اللاعب الذي يحظى بتأييد شعبي كبير إلى مطمع لكبرى شركات الرعاية من أجل استغلال اسمه وصورته عبر منتجاتها للمساهمة فى زيادة القوة الشرائية، علمًا أن تلك الشركات يتحكم فيها النظام.
وحين يعجز الجميع تُختتم الجولات، ويأتي دور الرئيس في الوقت الحرج لإنقاذ الموقف، فيكتسب نقاطًا في شعبيته التي بدأت تترنح ذهابًا وإيابًا، إذ أكد رئيس لجنة الشباب والرياضة في مجلس النواب محمد فرج عامرأمس الإثنين أن السيسي أصدر على الفور توجيهات بحل أزمة نجم المنتخب المصري محمد صلاح في أسرع وقت.
صلاح.. أيقونة القوة الناعمة في يد السلطة
فيما حظي محمد صلاح باهتمام الشركات الإعلانية، استفاد السيسي من نجاح صلاح ونجوميته وشعبيته الجارفة التي مكنته من إضافة نوع من الإنجاز والنجاح لنظامه، ليظهر بصورة “راعي الرياضة والرياضيين”، الرئيس الذي صعد بمصر إلى كأس العالم كما قالها نصًّا أحمد موسى أحد أكبر الإعلاميين المؤيدين للسيسي.
ورغم تجنب صلاح إظهار موقف سياسي في أي من الأحداث التي جرت في مصر خلال الأعوام الأخيرة، وما تلاها من تغيرات في مسار الحكم، بدت رغبة النجم المصري في خدمة بلاده متناغمة مع رؤية الدولة في استغلال شعبيته وشخصيته القيادية لتسويق نجاح النظام في مجالات رياضية واجتماعية.
لكنه لم يسلم من “الجباية” التي يفرضها النظام المصري على رجال الأعمال في شكل تبرعات لصندوق تحيا مصر، فكان له نصيب بتبرعه بمبلغ 5 ملايين جنيه للصندوق الذي يرعاه السيسي بنفسه لاستثمارها في مشروعات خيرية داخل مصر.
وخلال فترة تألقه مع نادي روما الإيطالي في رحلته الثانية بالكاليتشو، دأبت وزارة السياحة المصرية على استغلاله لتنشيط القطاع المريض منذ ثورة يناير في 2011، فكانت احتفالاته مع زميله ستيفان شعراوي بتجسيد صورة الأهرامات، كما سخر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي لفترة لنشر صور الأماكن السياحية بالقاهرة والجيزة.
وكاد صلاح أن يتورط في الأزمة الدبلوماسية بين مصر وإيطاليا على خلفية مقتل ريجيني الذي عُثر عليه مقتولاً في الطريق الصحراوي في فبراير قبل الماضي، وأشارت تقارير إلى تلويح صلاح بفسخ تعاقده مع فريق الذئاب حال الإساءة لبلاده، لكنه التزم الصمت إعلاميًا حتى انتهت الأزمة بغلق ملف التحقيقات بالتنسيق بين النائب العام في البلدين.
وكانت لوزارة التضامن الاجتماعي حصتها في استغلال اسم أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي حاليًّا، فخلال العام الحاليّ سعت الوزيرة غادة والي لتوظيف صلاح في محاربة تعاطي الشباب للمخدرات باعتباره نموذجًا مشرفًا يحتذى به، تحت عنوان “أنت أقوى من المخدرات”.
كتبتها سابقًا وأعيدها مرة ثانية يكفيك حب الناس.. pic.twitter.com/mV7zccUDUh
— Mohamed Salah (@MoSalah) January 18, 2017
صلاح الملك.. “لا نريد تريكة جديدًا”
رغم التكالب على استغلال صلاح، يمكن القول إن صلاح استفاد هو الآخر من ظهوره مع السيسي والتبرع لصندوق تحيا مصر، وذلك عبر الدعم الإعلامي المستمر له وصعوبة أي تصعيد إعلامي ضده أو الترصد له أو تشويهه كما حدث مع أبو تريكة.
كذلك اتقى صلاح الغضب المحتمل من النظام المصري الذي لا يحب المعارضين ويقلق من الصامتين الذين لا يُظهرون الدعم له، إذ لا يكفي أن تكون لاعبًا ذا شعبية جارفة ومتميزًا جدًا كي تأمن لدغات النظام المصري.
تحول صلاح إلى حالة تسبغ عليها السلطة مهمات رسولية، فيحتفل به البعض وجهًا للديانة أو سفيرًا لقومية أو صانع أحلام أمة
وفي حالة أبو تريكة باتت سيرة اللاعب ثقيلة على النظام المصري بعدما رفض مصافحة المشير حسين طنطاوي، معتبرًا إياه مسؤولًا عن “مذبحة بورسعيد”، كذلك دعمه السابق للرئيس المعزول محمد مرسي في انتخابات 2012، مما تسبب في زيادة الشحن ضد تريكة، وبين ليلة وضحاها تحول الأسطورة إلى “إرهابي”.
في المقابل حاول النظام أن يجعل من صلاح بديلًا جماهيريًا لتريكة “اللي صلاح جه فرمه” على حد تعبير لميس الحديدي، ثم تحول صلاح إلى حالة تسبغ عليها السلطة مهمات رسولية، فيحتفل به البعض وجهًا للديانة أو سفيرًا لقومية أو صانع أحلام أمة مما قد يحمل اللاعب الكبير أكثر مما يحتمل في متاهات الفراغ العربي الأكبر.
وعلى الرغم من الحملة الإعلامية والرسمية المضادة لتريكة، تجمع بين صلاح وتريكة علاقة صداقة قوية منذ سنوات، وأكدت تصريحات وتهنئات كثيرة متبادلة بينهما قوة العلاقة، منها على سبيل المثال لا الحصر ذهاب تريكة إلى لندن لتهنئة صلاح بفوزه بجائزة أفضل لاعب في إفريقيا 2017.
مشاعر طيبة أشكركم عليها ولكن الواقعية أفضل ونحن لا نسرق مجهود الآخرين فهؤلاء الرجال يستحقون الوجود وحدهم في هذا الحدث #تريكه_في_كاس_العالم
— محمد أبو تريكة (@trikaofficial) October 10, 2017
وتتكاثر المحاولات الإعلامية لتعكير صفو العلاقة بينهما وجر الاسمين في “دوائر الاستقطاب السياسي” التي تعيش فيها مصر، إذ قال الإعلامي أحمد موسى: “اوعى تقارن حد بمحمد صلاح، هو النجم الوحيد لمصر.. صلاح هو اللاعب اللي وقف جنب بلده مش زي حد تاني، هو اللي تبرع لصندوق تحيا مصر بـ5 ملايين جنيه”.
وتجدر الإشارة إلى أن مستقبل صلاح سبق أن تهدد بالفعل، عندما كان يلعب في نادي تشيلسي عام 2014، وقتما أُلغي طلب التحاقه بمعهد يُمكنه من تأجيل أداء الخدمة الإلزامية للجيش مما هدد آنذاك مشواره الرياضي، حتى سمحت له وزارة التعليم العالي حينها بالاستمرار في المعهد، الأمر الذي فتح المجال له لمواصلة مشواره الاحترافي.
نظام السيسي.. القطة التي تأكل أبناءها
لم يكن أبو تريكة اللاعب الوحيد الذي تحطم مستقبله الكروي بسبب معارضته للنظام، وفيما اُضطر أمثاله من الرياضيين المعارضين للنظام إلى الرحيل إلى بلدان أخرى ليواجهوا الغربة خارج الوطن، توفي آخرون في السجون المصرية.
زميل أبو تريكة أحمد عبد الظاهر الذي ساعد النادي الأهلي في الحصول على دوري أبطال أفريقيا 2013 بهدف سجله في النهائي، تم بيعه وحرمانه من مكافآت الفوز بدوري أبطال إفريقيا، بالإضافة إلى حرمانه من تمثيل الفريق في مونديال العالم للأندية، بعدما رفع شارة رابعة “ترحمًا على شهداء رابعة من مواطنين أو جنود” بحسب قول اللاعب.
مارس النظام أشد أنواع الاضطهاد والتنكيل لكل من رفع إشارة رابعة، على غرار لاعب منتخب مصر للكونغ فو هشام عبد الحميد
وتضم تلك القائمة أيضًا أحمد الميرغني اللاعب السابق في نادي وادي دجلة الذي انتقد السيسي ووصفه بـ”الفاشل المسؤول عن كل نقطة دم في البلد”، في منشور على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ولم تكد تمر ساعات قليلة بعد انتقاده للسيسي حتى صرح الميرغني بأن إدارة النادي قررت فسخ التعاقد معه.
وبعيدًا عن المستطيل الأخضر، مارس النظام أشد أنواع الاضطهاد والتنكيل لكل من رفع إشارة رابعة، على غرار لاعب منتخب مصر للكونغ فو هشام عبد الحميد الذي جرَّمه النظام لرفعه تلك الإشارة خلال مشاركته في بطولة العالم بماليزيا سنة 2013، وهو ما اضطره الى مغادرة البلاد قبل أن يموت خارج وطنه.
ولم يمنع حصول لاعب الكونج فو المصري محمد يوسف على ذهبية بطولة العالم في روسيا 2013، السلطات المصرية من سحب الميدالية منه وحرمانه من المشاركة في بطولة العالم التالية، بل امتد الأمر إلى اعتقاله لنحو عام ونصف، بعدما رفع إشارة رابعة في أثناء حصوله على الميدالية الذهبية في روسيا.
أيضًا أشرف عبد الفتاح السعدني الذي كان مدربًا للمنتخب الوطني في رياضة التايكوندو، وحصد مع فريقه العديد من الميداليات، ليكافأ على ذلك بأن تلفق له قضية انتماء لـ”جماعة محضورة” فيقبع لمدة 3 سنوات في الزنزانة، وتُرك يتألم من المرض والإهمال الى أن لقي ربه بين جنبات السجن.
وفي أحدث واقعة في 20 من ستبمبر/أيلول 2017، قُبض على لاعب نادي أسوان حمادة السيد الذي وجهت له الأجهزة الأمنية تهمة الانتماء لتنظيم الدولة “داعش”، فيما أنكر أهله وأصدقاؤه ذلك مؤكدين بأنها مجرد وشاية لأن اللاعب عارض نظام السيسي.
ليكون إظهار صلاح للحد الأدنى من الدعم المطلوب للسيسي حصانة تجنبه مصير الرياضيين سالفي الذكر، وتجنبه أيضًا أن يُهدد بورقة التجنيد الإجباري التي لعب بها مرتضى منصور ضد لاعب الزمالك أحمد توفيق، وتحكم في مصيره بالانتظام في الجيش من عدمه على حسب علاقته بتوفيق.