ترجمة وتحرير: نون بوست
تعلمت أن أحب الأفلام في بلد كانت دور السينما فيه غير قانونية. كان منفذي الوحيد، باعتباري فتاة سعودية، للوصول إلى الأفلام هو متجر محلي مزري لبيع أشرطة الفيديو في ضواحي الرياض حيث نشأت، وحيث كان يُمنع على النساء دخول مثل هذه المتاجر. وحتى عندما كان عمري مناسبا لأذهب إلى هناك لوحدي، كنت أنتظر خارج المتجر لكي يقوم أحد العاملين الذكور بإحضار فهرس الأفلام كي أتصفحه، وأختار العناوين التي ستنقلني إلى أماكن تبدو بعيدة عني ملايين الأميال.
عموما، بفضل جاكي شان وبوليوود وديزني، اكتشفت عالماً خارج حدودنا. وكانت تلك الفيديوهات أساسًا لحلم مجنون في يوم ما، دفعني كي أصنع الأفلام الخاصة بي. ومن المؤلم أن تتوق الفتيات الصغيرات في السابق إلى دخول متجر الفيديو الموجود في ضواحي الرياض في أوائل التسعينيات. ولكن الوضع قد تغير الآن، حيث بات يسمح لهن بدخول دور السينما في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية لمشاهدة أحدث الأفلام، مثل ما يحدث في الكثير من أنحاء العالم. وفي 18 نيسان/ أبريل الماضي، سمحت الحكومة السعودية بعرض فيلم “الفهد الأسود” في دور السينما لأول مرة منذ عقود، في إطار سلسلة من الإصلاحات الثقافية التي تجتاح بلدي.
لطالما كانت كلمة “عادي” راسخة في ذهني مؤخرًا. وعلى مدى عقود، ناضل السعوديون تحت وطأة قواعد تقييدية مستحيلة للقيام بالأشياء العادية، مثل دخول قاعات السينما وقيادة السيارات والذهاب إلى أي حدث رياضي أو الاستمتاع بالموسيقى في مكان عام. ومع ذلك، يبدو أن موطني الأصلي يقترب أخيراً من الوضع العادي. قد لا يبدو ذلك بارزا جدا للعالم الخارجي، ولكن بالنسبة لنا نحن السعوديين، خاصة الذين كرسوا حياتهم لإرساء نهج أكثر اعتدالا للفنون وتعزيز وضع أفضل للمرأة في المجتمع، فإن الوقت الراهن بمثابة زمن ثوريّ.
بصفتي امرأة سعودية ومخرجة أفلام، عشت لسنوات مع القيود التي فرضها بلدي على هذه الصناعة وعلى حياتي اليومية
في واقع الأمر، أنتجت العديد من الأفلام، من الأفلام الوثائقية والأفلام الروائية القصيرة، حول محنة النساء في العالم العربي. وكتبت وأخرجت خلال سنة 2012 فيلم “وجدة” الذي كان أول فيلم روائي طويل يتم تصويره داخل المملكة وأول طلب يقدمه بلدي لنيل جائزة أوسكار. كان لقصة الفتاة التي تحلم بامتلاك دراجة، ووالدتها الوحيدة، التي يتحكم في سير حياتها اليومي سائق وقح وزوج غير مهتم، صدى لدى الجماهير في جميع أنحاء العالم. كنت أرغب في إظهار بلد كان بصدد التغير، وأن أصف آمالي للنساء والشباب في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية.
في الأثناء، بصفتي امرأة سعودية ومخرجة أفلام، عشت لسنوات مع القيود التي فرضها بلدي على هذه الصناعة وعلى حياتي اليومية قبل أن أسافر حول العالم مع زوجي، الدبلوماسي الأميركي، لدراسة الأفلام وانتاجها. لقد عانيت في كثير من الأحيان من أجل القيام بالأشياء الأساسية التي يقوم بها أي صانع أفلام. اضطررت إلى إخراج المشاهد الخارجية في “وجدة” معزولة على متن سيارة، وبمراقب وجهاز اتصال لاسلكي، من أجل التقيد بقواعد الفصل الصارمة بين الجنسين.
في المقابل، لم أستطع أن أنشئ شركة من دون كفيل من الرجال من عائلتي، فاضطررت إلى استئجار مديري إنتاج ذكور. كم كان مثيرا للغيظ أن نعتمد على أشخاص أقل كفاءة تُدرج أسماءهم في العمل الذي كان بإمكاني القيام به لوحدي. بعد ست سنوات، ومع التغييرات التي أدخلت على قواعد الكفالة، أقوم بافتتاح أعمالي هذه السنة تحت اسمي الخاص: هيفاء المنصور للإنتاج.
من جانب آخر، يروي الفيلم الأول الذي سأنتجه وعنوانه “المرشح المثالي” قصة طبيبة شابة تعمل في مكتب البلدية بينما كان والدها في جولة في البلد مع الفرقة الوطنية السعودية التي أعيد تشكيلها، والتي كانت محظورة بموجب قوانين تمنع عروض الموسيقى في الأماكن العامة. إنها حكاية ترحب بطموحات المرأة في الساحة السياسية وتحتفل بالفنون المفقودة وعودة الموسيقى إلى مدننا الصغيرة. عندما كنت أجمع الأموال من أجل “وجدة”، كان الشركاء المحتملين متشككين من إمكانية التصوير هنا. أما الآن فالناس متحمسون. وهذا ما يجعل أفلامي استثمارًا أكثر أمانًا، ويجعل المملكة العربية السعودية تبدو وكأنها مكان طبيعي للغاية للتصوير.
تتجاوز التغييرات البسيطة التي أشهدها في المملكة العربية السعودية الأفلام. كما تدفع هذه التغييرات الزخم الجديد للبلاد إلى الأمام بشكل جزئي
في الواقع، باعتبارها مؤثرا رئيسيا في العالم الإسلامي، تحدد المملكة العربية السعودية أسلوب تعامل ملايين من الناس في جميع أنحاء العالم مع المعايير الاجتماعية والحياة الدينية. ومع تخفيف موقفنا من الفنون والقيود الاجتماعية بشكل عام، تبدو الرسالة إلى المتطرفين والمحافظين في كل مكان أكثر وضوحًا: “لم تعودوا جزءا من التيار الرئيسي”.
بشكل عام، أنا سعيدة لأن “الفهد الأسود” كان أول فيلم يعرض رسميا في المملكة، في وقت سابق من هذا الشهر. إنه يمثل كل ما أحبه في السينما، ويزود الجمهور بحوارات حول الهوية والسياسة والتنوع، من خلال فيلم حركة مثير. إن تجربة ظاهرة كهذه مع الجمهور، مع الأصدقاء والعائلة، أن تضحك وأن تنكمش خوفا مع الغرباء، أمر مميّز. إنه يذكرني بما قام به والدي عندما حوّل فناء منزلنا إلى موقع بدائي لعرض أفلام السينما منذ سنوات. وعلى الرغم من أنه ربما كان يحاول فقط إشغالي أنا وأخوتي السبعة عشر بعيدا عنه، إلا أنه كان وقتًا سحريًا، يملؤه الضحك وتناول الفشار تحت سماء مليئة بالنجوم.
في حقيقة الأمر، تتجاوز التغييرات البسيطة التي أشهدها في المملكة العربية السعودية الأفلام. كما تدفع هذه التغييرات الزخم الجديد للبلاد إلى الأمام بشكل جزئي. فعلى سبيل المثال، كان رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة حلما تخليت عن الإيمان به منذ سنوات خلت. ولطالما كان حرمان المرأة السعودية من القيادة وعدم تواجد قاعات سينما في البلاد أحد الرموز التي عرفت بها السعودية، سواء كأشخاص أو كدولة.
في واقع الأمر، ألهمني هذا الحظر لكي أصنع فيلم “وجدة”، حيث أنني اطلعت على محنة النساء من خلال مقاربة الفتاة التي تريد الحصول على دراجة. وجل ما أرادته شخصية الفتاة في الفيلم هو التحكم في حركتها الخاصة، والسير ضمن سرعة موازية لسرعة زملاؤها من الذكور.
كما هو الحال مع جميع التغييرات الكبيرة بعد الحياة الطبيعية، يمكن لهذه الإجراءات أن تغدو مثل أبسط الحقوق في العالم
وتجدر الإشارة إلى أن والدة الفتاة في الفيلم كانت تمتلك صلاحيات محدودة ولا يمكنها القيادة بسبب وجود السائق الخاص، وهو ما كان يندرج ضمن لائحة أكثر الجوانب المحبطة في الحياة اليومية للنساء السعوديات. ولحسن الحظ، ستصبح شخصية السائق الغاضب من الماضي بحلول شهر حزيران/ يونيو القادم، حيث ستمنح النساء السعوديات حق القيادة لأول مرة منذ سنة 1957.
مؤخرا، دعاني عواد بن صالح العواد، وزير الثقافة والإعلام السعودي، رفقة 13 رجل وامرأتين، إلى الانضمام إلى مجلس الإدارة الجديد للهيئة العامة للثقافة بالمملكة. وعندما وصلت إلى الرياض قادمة من منزلي في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية بهدف حضور أول اجتماع رسمي خلال شهر نيسان /أبريل الماضي، شعرت فعلا بأن هناك شيئا مختلفا في البلاد. ومن مظاهر هذا الاختلاف أن النساء أصبحن ظاهرات للعلن على نحو مفاجئ، حيث أصبحن يعملن في المتاجر ويرتدين ملابس ملونة. عموما، تمتلك النساء هوايات خاصة بهن، وهن لا يشعرن بالخوف إزاء رؤية الآخرين لهن.
إقرارا للحق، روادتني بعض الخواطر حول تلك الفتاة التي كانت تنتظر خارج متجر الأفلام، وهاهي الآن تمثل جزءا مهما من مجهودات الحكومة الرامية لجلب الفنون إلى مجتمع متعطش للثقافة. يبدو هذا الأمر مثل حلم، فضلا عن كونه في غاية العظمة. لكن، كما هو الحال مع جميع التغييرات الكبيرة بعد الحياة الطبيعية، يمكن لهذه الإجراءات أن تغدو مثل أبسط الحقوق في العالم. وسيكون ذلك الوقت إشارة لموعد مباشرة العمل الحقيقي، عندما ندفع أنفسنا إلى ما هو أبعد من الطبيعي لخلق شيء غير عادي.
المصدر: نيويورك تايمز