“لو فرضنا أننا تركنا سكنَنا الحالي، فلن نجد مسكنًا آخر بسهولة، لعدم رغبة أصحاب المنازل في التأجير للسوريين، خاصة بعد ما حصل في قيصري مؤخرًا”.. بهذه الكلمات نقل أبو عمر (50 عامًا) وأب لطفلين، معاناته لـ”نون بوست”، في البحث عن منزل جديد بمنطقة سنجقلو في مدينة قيصري، بعد أن طالبه صاحب المنزل بالخروج منه.
وأضاف أن تغيير المنزل ليس أمرًا سهلًا، كما أن إيجارات المنازل لم تعد كما كانت سابقًا، فهي في ارتفاع مستمر، والخيارات محدودة جدًا بسبب حظر معظم المناطق أمام السوريين، والأمر الأكثر سوءًا هو عدم رغبة أصحاب المنازل في تأجير السوريين.
لم تؤثر الأحداث التي عاشها السوريون في قيصري خلال الأسابيع الماضية على ممتلكات بعضهم فحسب، بل أثرت أيضًا على حياتهم التي انقلبت رأسًا على عقب دون سابق إنذار، فمنذ ذلك “اليوم المشؤوم”، لم تعد حياتهم كما كانت.
وشهدت ولاية قيصري، في 30 يونيو/حزيران، أعمال شغب استهدفت ممتلكات السوريين، إذ أقدم مواطنون أتراك على حرق محال السوريين وتكسير سياراتهم، كما تهجموا على منازلهم بالحجارة، إثر انتشار شائعات عن اعتداء سوري على طفلة تركية تبلغ من العمر خمسة أعوام، قبل أن تؤكد ولاية قيصري في بيان لها عبر “إكس“، أن الطفلة سورية وهي قريبة الشاب الذي يعاني من مشكلات عقلية.
وعلى خلفية هذه الأحداث، يطالب بعض أصحاب المنازل في المدينة، السوريين بإخلاء منازلهم، دون إعطائهم مهلة للبحث عن منزل.
التركي صار يخاف على منزله
“لم تكن معاملة أصحاب المنزل جيدة منذ البداية، لكنها ازدادت سوءًا بعد الأحداث التي حصلت في قيصري، فبعد عدة أيام من وقوع المشكلة، اتصل بنا صاحب المنزل وطالب بإخلاء منزله سريعًا دون ذكر الأسباب”، قال أبو عمر.
وأضاف “هناك مالكو منازل بعد حادثة دانشمند، طالبوا بخروج المستأجرين، البعض منهم لعدم رغبته بوجود سوريين في منزله بعد الآن، والبعض الآخر خوفًا على منزله من الحرق أو التكسير في حال تعرضه للهجوم بسبب وجود السوريين، وبهذا يكون الضرر الأكبر على مالك المنزل، إذ سيقع على عاتقه إصلاحه”.
يدفع أبو عمر 1500 ليرة تركية شهريًا كأجرة للمنزل الذي مكث فيه ما يقارب السنتين، وبحسب ما قاله لـ”نون بوست”، لا يوجد منزل بأقل من 5 آلاف ليرة تركية في منطقته، وهو عاجز عن دفع مثل هذا المبلغ، إذ يعمل في أحد المصانع التركية ويتقاضى شهريًا 17000 ليرة تركية، أي الحد الأدنى للرواتب في تركيا، وما يعادل 516 دولارًا أمريكيًا.
ولا تختلف قصة أبو عمر عن قصة أبو أحمد كثيرًا، والذي قال لـ”نون بوست” إنه في اليوم الثاني من الحادثة طلب مالك المنزل منه إخلاء المبنى بالكامل، الذي يتألف من ثلاثة طوابق يعيش فيها سوريون، بسبب تهديد بعض الشباب بحرق المبنى في حال لم يخرجوا منه.
أبو أحمد الذي هرب من سوريا بعد تعرض عائلته لإصابات حرب خلال الثورة هو أب لثلاثة أطفال، فقدت زوجته قدميها وفقد ابنه طرفًا من قدمه، ما دفعه للجوء إلى تركيا للعلاج أولًا وبحثًا عن الأمان، لم يكن يعلم أن الأحداث ستؤثر على مجرى حياته، فرحلة البحث عن منزل في ولاية قيصري صعبة جدًا، بحسب قوله.
وقال لـ”نون بوست”، إن أسباب طلب أصحاب المنازل خروج السوريين من منازلهم تختلف من شخص لآخر، فالبعض يخاف على منزله من الحرق أو التكسير، والبعض الآخر فقط لأنه لم بعد يرغب بوجود السوريين في منزله بعد الآن.
سوري “يوك”
يعد إيجاد منزل مناسب للسوريين المقيمين في تركيا من أبرز الهموم في السنوات الأخيرة، بسبب رفض العديد من أصحاب المنازل إعطاء منزلهم لغير المواطنين الأتراك.
أما في قيصري، فتفاقمت هذه المشكلة مع أعمال الشغب والتكسير التي حدثت في نهاية يونيو/حزيران الماضي.
أبو أحمد الذي يقيم في منزله منذ قدومه من سوريا قبل نحو خمس سنوات ويدفع 4000 ليرة تركية شهرًيا، وجد صعوبة كبيرة في تأمين سكن بديل للمنزل الذي يقطنه في أسكي شهير.
“بس يعرف صاحب البيت أنك سوري بيرفض فورًا”، يقول أبو أحمد، مضيفًا أن مرحلة البحث لا تكمن فقط في إيجاد منزل، فحتى إن وُجد المنزل المناسب أو القريب من مدارس الأولاد، يقابله مالك المنزل بكلمة “سوري يوك”، ما يعني الرفض لأنه سوري.
كما أن أسعار المنازل ضمن المنطقة التي يسكن بها ارتفعت كثيرًا خلال الفترة الأخيرة، ووصل إيجار بعض المنازل إلى 9000 ليرة تركية تقريبًا، بالإضافة إلى وجود عمولة وتأمين لمالك المنزل نفسه، “كنا نعلم بوجود الكمسيون لمن يبحث عن منزل عن طريق مكتب، لكن الآن حتى مالك المنزل يطلب الكمسيون له”.
وأضاف أنه في حال قبول مالك المنزل تأجير منزله للسوريين، يرافق ذلك عدة شروط، مثل أن تكون العائلة صغيرة مكونة من طفلين أو ثلاثة فقط، وعدم إصدار أي ضجة، أو استقبال الضيوف أو الأقارب، وفي حال حصول أي شكوى أو إزعاج سيطلب منهم إخلاء المنزل.
حصل أبو أحمد على منزل في نفس المنطقة التي يسكن فيها، من عائلة سورية كانت تستعد للسفر لخارج تركيا، حيث استأجر منزلهم بشرط شراء الأثاث أيضًا، وبالنسبة له كان خيارًا جيدًا للخروج من دوامة البحث، وتم الأمر بموافقة مالك المنزل بعد التحدث إليه بشكل مطوَّل.
أما أبو عمر فقال لـ”نون بوست”: “لم أترك حيًّا إلا وبحثت فيه عن منزل، إما يكون في منطقة محظورة أي لا يمكن تثبيت النفوس فيها، أو يرددون على مسمعي عبارة “سوري يوك”.
وأوضح أن النقل من منطقة لأخرى داخل ولاية قيصري شبه مستحيل بسبب إغلاق معظم الأحياء أمام السوريين، “فما بالك بالنقل إلى ولاية أخرى”.
“في حال لم أجد منزلًا سوف أبيع أثاث منزلي وأعود إلى إدلب رغم سوء الأوضاع هناك، لكن لا توجد خيارات ثانية أمامي، خلصت مياتنا بهالبلد”.
الحوادث الأخيرة في المدينة وضعت السوريين بين “فكي كماشة”، فأصبحت الخيارات أمامهم للخروج من هذه المعاناة شبه معدومة، فالعودة إلى سوريا التي خرجوا منها بحثًا عن الأمان أو بسبب إصابات حرب ليست خيارًا ممكنًا لكل الأسباب المعروفة، أما الهجرة إلى أوروبا بطرق غير شرعية فهو مخاطرة مميتة وتحتاج إلى مبالغ باهظة.
ولا تعد الاعتداءات على السوريين في قيصري جديدة، فقد تعرضوا لاعتداءات متكررة خلال السنوات الماضية، لكن الأخيرة هي الأعنف، جعلتهم يبحثون عن بر أمان، يجنبهم حالة عدم الاستقرار والاستفزازات العنصرية التي تتصاعد من فترة إلى أخرى.
ما العمل؟
عن الحلول القانونية التي من الممكن أن يلجأ إليها المستأجر في حال طلب منه مالك المنزل إخلاءه، أوضح المحامي، غزوان القرنفل، لـ”نون بوست” أن يطلب من المؤجر الالتزام بمضمون العقد وأنه لن يخلي العقار دون وجود مسوغ قانوني لذلك، وأن يرسل هذا الكلام له بخطاب مسجل بالنوتر.
وأضاف قرنفل أن المستأجر السوري لا يحتاج إلى رفع دعوى في حال طلب منه المالك إخلاء المنزل، يكفي أن يبلغ المؤجر أنه لن يخلي العقار دون سبب قانوني وحكم قضائي بذلك، وأن يلتزم بتحويل بدل الإيجار والزيادات القانونية المستحقة لحساب المؤجر.
كما أن المستأجر ليس مضطرًا لرفع دعوى تتعلق بإشغاله للمأجور لأن العقد هو الذي يوفر له المركز القانوني لإشغال العقار بصفة مستأجر، لكنه قد يضطر إلى تقديم شكوى للنائب العام في حال تعرض للتهديد من المؤجر، وهو أمر متوقع، وهذه لا كلفة مالية عالية لها وليس مضطرًا فيها لتوكيل محام.
أما منسق مشروع “حماية”، سنان بيانوني، فقال بدوره لـ”نون بوست”، إنه في ظل الأجواء المتوتر بمدينة قيصري، في الوقت الحالي يجب التوصية دائمًا بحل الخلافات بين المستأجر ومالك المنزل فيما بينهم بالتفاهم، “هناك حاجة إضافية للتأكيد على هذا الأمر في الوضع الراهن”، ووضع خيار اللجوء للقانون كخيار أخير.
وأوضح أنه بسبب الأوضاع الحالية المتأزمة في قيصري فإن أي مشكلة قد تحدث يمكن أن يكون السوري عرضة للاحتجاز الإداري، لذلك الأولوية في الوضع الراهن أن يكون الحل في التفاهم مع أصحاب المنازل، إما في استمرار الإيجار بسعر يناسب المالك وإما البحث عن خيارات متاحة.
وبيّن أن اللجوء إلى القانون هو حق أي فرد، حيث يمنع القانون مالك المنزل من إخراج المستأجر منه دون وجود أسباب قانونية، وفي حال وجودها يعطى المستأجر مهلة لإخلاء المنزل.
على أن حالة التوتر الحالية قد تسفر عن لجوء أصحاب البيوت إلى العنف والاعتداء على المستأجرين أو تهديدهم، وهو مالا يريده أحد.