مارست “إسرائيل” أعنف حرب نفسية على الفلسطينيين خلال عدوانها الهمجي المستمر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولم تكن حربًا فحسب، بل إبادة جماعية لأكثر من مليوني غزي، شاهدها العالم في بث حي ومباشر، إذ قتلت ونكلت بلا رحمة بالغزيين، وأرغمتهم مرارًا على النزوح خلال عملياتها العسكرية المفاجئة تحت النار، وحاصرتهم بأعتى البلدوزرات الإسرائيلية وأطلقت عليهم الحمم البركانية بشكل متعمد وبلا هوداة وهم عزل آمنون في بيوتهم.
يدبّ الرعب في قلوب الغزيين من أصوات الغارات القريبة، ومن الإضاءة التي تطلقها الغارة قبل أن تنفجر، فيختارون أأمن مكان في البيت – على حسب ظنهم – للتمسك بأمل لاحتمالية النجاة، فماذا عن تلك اللحظات التي يرتجف القلب فيها؟ وما هي المشاعر التي تجتاح المرء وهو محاصر بين الدبابات والرصاص يتطاير فوقه و”الكواد كابتر” تحلق متربصة لكل تحركاته؟ ماذا عن الرعب اللامتناهي في حضرة الموت المحقق؟ وعن الأمل الأخير والوادع الأبدي!
صوت الموت
تخبرنا عن ذلك علا حليلو التي تقطن بحي الرمال في مدينة غزة، واصفة ما مرت به بالتجربة الأصعب على الإطلاق بحياتها، فقد نظرت في عيني الموت مباشرة عندما حاصرتها الدبابات الإسرائيلية رفقة زوجها وعائلته، لمدة 5 أيام، وفي اليوم الأول للمحاصرة هاتفت والدتها التي نزحت إلى جنوب القطاع لتودعها فربما تكون تلك لحظاتها الأخيرة. “يا إمي بحبكم كلكم كان نفسي أشوفكم قبل ما أموت”.
بكت بكاء المقهور قليل الحيلة، وهي منبطحة على الأرض تخاف أن ترفع رأسها فتصيبها رصاصة طائشة، فطمأنتها والدتها: “ربنا ما رح يحرمني شوفتك قبل ما أموت والله، أنا متأكدة”.
أي يقين وقلب ذلك الذي تملكه الأمهات الغزيات، يتمسكن بأملهن حتى الرمق الأخير، حدث ما قالت والدة علا ونجت ابنتها المدللة، لكن بعد محرقة استمرت حولها لليلة كاملة، يتطاير الرصاص على البيت، وأصوات الانفجارات المرعبة تزلزل المكان.
ماذا عن مكنونات النفس في أثناء انتظار الموت؟ تجيب: “لا رفاهية للتفكير إلا بكيف سننجو، نظل نتساءل هل سيموت أحد منا؟ ماذا إن أصبنا ونحن محاصرون هل سننزف حتى الموت؟ تدور الأسئلة في نفس الدائرة، ويوم كنت أحتضن البلاط رأيت وجه أمي الذي اشتاقه فقلت هل من لقاء أخير”.
ليلة ثقيلة
“تخيل علا تمشي بين الركام والجثث وما تبكي”، أخوة علا يعرفونها بالرقيقة سريعة التأثر، بعد حادثة حصارها لأكثر من مرة ونزوحها أيضًا وهي تحمل روحها على كفها، حادثها شقيقها يسألها عن الحال، فكانت منها بضع كلمات أثارت اندهاشه، مشت بين الجثث وكانت رائحة الدم تفوح منها ولم تبك، فظلت تسأل نفسها: “أي تحول هذا؟ أي جنون؟ ما الذي حدث؟”. في العادة لو قلت إن علا ستشاهد الجثث وتعبر عنها دون أي مشاعر، بلا بكاء، كان سيندهش من يعرفها، لكن الحرب أفقدتها طاقتها حتى على البكاء.
في إحدى ليالي الحصار قبل أن تركض علا لنجاة غير مؤكدة، لم يغمض لها جفن، وهي تتخيل اقتحام الجيش الإسرائيلي للبيت، تجلس في الغرفة التي اعتقدت أنها آمنة رفقة البقية، وطوال الليل تنظر إلى ساعتها تنتظر بزوغ الفجر، فإن ليل الحرب ثقيل وقاس، تحكي لنون بوست: “كنا نستنى دورنا باقتحام البيت زي ما بصير مع الجيران، خايفة ومش مستوعبة يدخلوا يعتقلوا منا أو يطخونا كلنا”.
قبل أن تبدأ الشمس في إشراقتها، انخفض صوت الغارات والرصاص وتراجعت الآليات العسكرية من على باب المنزل قليلًا، كان الأمر مغامرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إما محاولة الهرب في أول فرصة وإما انتظار الدور في طابور المجهول، تكمل لنون بوست: “نظرت لزوجي القابع على الأرض مثلي وقلت له ابقى بجانبي ليكون مصيرنا واحدًا، إن متنا معًا وإن عشنا أيضًا معًا”.
استغرق أمر الهروب وقتًا وجيزًا، فكانت صلاة الاستخارة المخرج من الحيرة، فصلى كل من بالمنزل واتفقوا بعدها على النجاة ولو كانت معدومة، يكفي أن لا يداهمهم الجنود بعتادهم.
تقول علا: “لا يفكر المرء وقت اقترابه من الموت المحتوم إلا باللحظة الحالية وما تحمله من رعب وقلق، يراقب الغارات واتجاه الرصاص، ويرى وجوه الأحبة حوله ويدعو الله بلقاء، مع أنه يعلم أنه ربما الموت بعد ثانية واحدة”.
“ليش بصير هيك فينا؟”
أما محمد أبو كميل الذي حوصر مع زوجته وأطفاله 4 مرات في المنطقة المحيطة بمجمع الشفاء الطبي، كانت تساؤلات النفس لديه تتمثل في “ليش بصير هيك.. أنا شو ذنبي؟”.
في ليلة من ليالي مارس الباردة وبعد منتصف الليل وفور سماعة لصوت إطلاق نار قوي واقتراب الدبابات الإسرائيلية، احتمى بالغرفة الداخلية في منزله التي لا تطل على الشارع الرئيسي، انبطح وزوجته وصغاره على الأرض واضعين اليد على الرأس، والرصاص يدخل لجدارن المنزل بالكامل ويخرقها، ولم يهدأ صوت الرصاص حتى الثامنة صباحًا.
ظل محمد وعائلته خائفين أن تطالهم رصاصة من وابل الرصاص الكثيف الذي يتناثر في المنزل حتى دق باب البيت، فيقول: “لقد زحفت على الأرض وفتحت الباب، وإذ برجل لا أعرفه مقيد اليدين مجرد من ملابسه يخبرني أن الجيش يخبرننا أن نخلع ملابسنا أنا وكل رجال العمارة وننزل للأسفل”.
اعتقال مذل
لم يستوعب ما الذي يجري ولم يفكر بأي شيء سوى أنه خائف على زوجته وأطفاله، ثم على نفسه وبدأت الأفكار تتوارد لذهنه: “حيفحصونا زي ما باسمع ببصمة الوجه فيعرفوا إني مليش بأي شيء ويطلعوني؟ ولا راح يحققوا معنا كلنا بالقوة، ويتأذى جسمي اللي عمره ما تعرض لأي قسوة ولا حتى جلوس على أرض أو حصى لساعات طويلة، ولا حتى عمره سمع أي عنف لفظي حتى، ولا ممكن يصفونا كلنا مع بعض”.
كان الجو شديد البرودة وهو عار حافي القدمين، مقيد اليدين، معصوب العينين، تاركًا قلبه مع زوجته وأطفاله الذي تركهم وحيدين مقهورين خائفين، يضيف لنون بوست: “10 ساعات وأنا بجانب الدبابات في البرد وبدأت نوبة من البرودة تسري بجسدي بعد ساعتين من الاعتقال، ارتجف بشكل غير طبيعي ولون جلدي بدأ يأخذ اللون الأزرق، ربما من البرد أو من الربو الذي كنت مصابًا به في طفولتي، أو من الدخان المنبعث من الدبابات”.
ظل محمد يتمتم مع نفسه بصوت خافت، وعشرات الأسئلة طرحها على نفسه ولا إجابة تلوح في الأفق، عشر ساعات بالتمام والكمال والمطر يتساقط عليه وهو ما زال يمارس دور المحقق بأسئلته الذاتية، وأكثر سؤال ظل يردده: “ليش بصير هيك؟”.
“صعبت عليَّ إنسانيتي”
على الرغم من أن الاعتقال أمر ليس بالشيء اليسير، فمصيرك مجهول وسط عصابة بشرية ليس لها أي رادع إلا أن الله بث في قلبه سكينة عجيبة وقت اعتقاله بشكل مذل، يقول: “أنا ما كنت خايف إطلاقًا من مصيري، ربنا بث سكينة عجيبة في قلبي، لكن كانت كتير صعبانة عليّا نفسي، كانت صعبانة عليّا إنسانيتي”.
إن محمد من المحظوظين الذين لم يستمر اعتقالهم طويلًا، تركهم الجيش وأمرهم بالتوجه نحو الجنوب، لكنه رفض الأمر وتحايل وسار في شوارع جانبية، عازمًا النية التوجه إلى بيت صديقه.
كان سعيدًا بالإفراج عنه ومصدومًا في الوقت ذاته، لم يطرق باب أي بيت ليطلب ملابس ليرتديها، ولم يفك الإسورة التي قيدها الجنود بها، حتى وصل إلى وجهته بسلام.
ظل عقل محمد وقلبه مشغولًا بالتجربة الأصعب في حياته، حتى إنه يود مسحها من ذاكرته، وما زال يهاب صوت الرصاص، ولا يود أن تعاد الكرة من جديد ليعيش المشاعر ذاتها ولا تساؤلات العقل التي تعب من التفكير فيها طوال فترة الحصار والاعتقال.
ليلة المباغتة
أما هدى العف حين سألها “نون بوست” عن مشاعر المرء بين زخات الرصاص، فقالت: “لا شيء يصف الخوف وقتها، رأيت الدنيا كأنها ثقب إبرة، أنت تركض للهروب من الموت فقط، ولا شيء يجول بخاطرك سوى فكرة النجاة، وتدعو بالشهادة لا بالإصابة”.
لم تسلم هدى وعائلتها من غطرسة جيش الاحتلال الذي تجول في أرقى أحياء غزة “حي الرمال”، فكان في ذات الشارع الذي نزحوا له بعد قصف منزلهم في منطقة السدرة، فسمعوا ليلًا صوت الآليات المتمركزة بالقرب منهم والجيبات التي تكتشف المكان.
تقول لنون بوست: “في اليوم الأول سمعنا صوت رصاص قوي والمدفعية تدك المكان المحيط بنا، لم نعلم في البداية ما الذي يحدث، تواصلت عبر الهاتف مع خطيبي المقيم بالضفة الغربية، فأخبرني أن الجيش اجتاح مجمع الشفاء الطبي، فعلمت وقتها أن الموت بات قاب قوسين أو أدنى”.
شرعت هدى وعائلتها بفرض فرضيات لسؤال: “ماذا سيحدث لنا؟” كل منهم أجاب بطريقته واتفقوا جميعًا أن البقاء في البيت سيكون انتحارًا بالفعل، والخروج منه مغامرة مجنونة، إذ يتمركز أكثر من قناص على المفترقات القريبة منهم.
نجاة من القناص
تضيف لنون بوست: “قررنا البقاء في المنزل في البداية، أغلقنا الهواتف حتى لا يعلم الجيش أن المنزل مسكون واكتفينا بإضاءة خفيفة نشعلها وقت الحاجة، وقمنا بتخزين مياه من بئر المياه المتواجد بجوار المنزل حتى نقلل من حركتنا، ثلاث ليالي كاملة ونحن على العتمة، لا نشعل النار للطبخ وإلا سيكون إشعالها إشارة للجيش بقتلنا”.
بقت هدى ترتعش في الليالي الثلاثة وهي تسمع تحرك الآليات العسكرية ليلًا، تحدث نفسها: “سيأتي الجنود الآن سيعدموننا دون رحمة، أو ربما يقصفون المنزل فوقنا وتسقط الـ13 طابقًا علينا كوننا بالطابق الأول، أو سيعتقلون شقيقي حتمًا وينكلون به”.
سيل من التساؤلات عصف برأسها القلق، وقلبها المكلوم من هول الأسئلة والسيناريوهات التي تبنيها في عقلها، لم يطل حديث النفس لديها كثيرًا، وبدأت بمشاركة هواجسها مع والدتها التي شاركتها ذات الأسئلة.
تردف لنون بوست: “قررنا في اليوم الرابع أن نغادر المنزل، فلا أحد في منطقة مفترق فلسطين غيرنا نحن والجيش، حملنا قليلًا من الأمتعة وتركنا الطعام الذي كان كنزًا في ذلك الوقت، فقد كانت المجاعة بلغت ذروتها ومن لديه طعام يالحظه آنذاك، عبرنا الشارع الأول ونحن نرتجف، وإذ بقذيفة سقطت في المبنى الذي أمامنا، ظننتها لوهلة علينا حتمًا كوننا الوحيدين في الشارع، لم تحملني قدمي للمسير، تحاملت على نفسي وهربنا لنحتمي بأحد المباني”.
ظنت هدى خلال هربها من القناص وطائرة الكواد كابتر وقذائف المدفعية، أن الإنسان تكون لديه القوة في هكذا موقف للركض السريع، لأن حياته على المحك، لكن هذا كله عبث ومحض هراء، والحقيقة أن الإنسان الهارب من الموت المحقق يصبح ثقيلًا حتى قدميه لا تحملانه، وقلبه يهوى بين يديه.
تكمل لنون بوست: “في أثناء هروبنا واجهنا رجل أخبرنا أنه يوجد قناصون في اليمين واليسار، فقلت حتمًا سنموت الآن لا محال، إنها نهاية الطريق، لكن شقيقي شجعني وقال سنجري كل على حدة، ركض سريعًا ولم يقنصه القناص أو نالت منه الكواد كابتر، فلحقت به أمي ثم أنا والأخير كان شقيقي الآخر”.
سيناريوهات محتملة
لم تكن هدى وقت ركضها يخطر على بالها أي شيء في الدنيا إلا سؤال: “ماذا لو نالت الرصاصة من أحد منا، هل سنتركه أم سنركض عنده كلنا لنموت سويًا”. كان سؤالها قاسيًا على النفس وكأنه جلد للذات على شيء ليس ذنبها، وظل صوت والدتها يتردد وهي تصرخ: “ولادي يا الله ولادي”.
نجت هدى من القناص والكواد كابتر والدبابة والجنود الذي كانت تتخيلهم في ليالي الحصار يركلون المنزل بأرجلهم ويوجهون البنادق نحوهم ويعدمونهم واحدًا تلو الآخر، ومن يصاب سيتركونه ينزف حتى الموت، أو سيتحقق السيناريو الثاني الذي رسمته بأنهم سيعتقلون شقيقيها الاثنين.
#خطير_جداً
طائرات كواد كابتر المسيّرة التابعة للجيش الإسرائيلي تطلق أصوات لأطفال يبكون من أجل استدراج المواطنين لاستهدافهم في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة! pic.twitter.com/GhkgYScCdw
— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) April 15, 2024
تقول لنون بوست: “لم يكن الاعتقال أو القنص همي الوحيد، بل تخيلت أيضًا لو أجبرونا على النزوح لجنوب غزة ونحن الذين صمدنا في وجه التهجير، حدثت نفسي كثيرًا بأنه لو حدث سنتحايل عليهم ونهرب من طرق ملتوية لنعود للشمال”.
ارتعبت وأصابتها نوبة مرضية بعد نجاتها، وظلت تسأل من حولها: “إحنا كيف عايشين، طيب إحنا عشنا هالتجربة عنجد، إحنا مش بنحلم صح”، وفور أن استعادت وعيها هاتفت خطيبها التي ودعته في الليلة الأولى للحصار، لتخبره أنها ما زالت على قيد الحياة، وظلت تردد: “أنا مش عارفة كيف عشنا جد كل يوم بسأل حالي”.
خافت هدى أن تشبه تجربتها خالتها التي أعدم الجيش الإسرائيلي جيرانها رميًا بالرصاص، سمعت الحادثة بالتفصيل وشهدت على قتلهم، وحين سألوا السيدة في المنزل المداهم من بالبيت الآخر فأجابت: “لا أحد”. كانت تكتم أنفاسها بيديها هي وكل من معها حتى عندما تم تجريف جدار المطبخ بقوا صامتين حتى لا يعلم الجنود بوجودهم فيعدمونهم واحدًا تلو الآخر.
أثرت تلك القصة المروعة بكل تفاصيلها عليها للغاية، فكان خوفها مضاعفًا، فهي تعي جيدًا ماذا يعني أن تصلك قوات الجيش.
من الجدير ذكره أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل سياسة التهجير ويجبر الغزيين على النزوح للمناطق التي صنفها بأنها آمنة، وما زال يمارس إجرامه بالتنكيل واعتقال من يريده، وتدمير البنية التحتية، وإحراق المنازل بمن فيها، وقنص كل ما هو متحرك في المنطقة التي يتواجدون بها.
ويشار إلى أن عدد الشهداء وصل منذ بدء معركة طوفان الأقصى إلى 39 ألفًا و175 شهيدًا و90 ألفًا و403 إصابات، وما زالت الأرقام في ازدياد إثر استمرار العدوان الإسرائيلي.