تشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ إعلان جيش الاحتلال سيطرته العسكرية الكاملة على محور فيلادلفيا الحدودي بين قطاع غزة وسيناء المصرية في 29 مايو/أيار الماضي، سجالًا متبادلًا من التوتير والاتهامات المتبادلة، وسط حديث عن تأثير تلك الخطوة على مستقبل العلاقات بين البلدين والتي تحيا في العشرية الأخيرة واحدة من أوج ازدهارها في ظل التقارب الكبير بين حكومة بنيامين نتنياهو ونظام عبد الفتاح السيسي.
ويعد هذا المحور الذي يمتد على الشريط الحدودي بين غزة ومصر بطول 14 كيلومترًا وبعرض 100 متر، منطقة عازلة خاضعة لاتفاقية السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل”، لا يجوز فيها إلا نشر قوات محدودة العدد والعتاد، الأمر الذي يجعل احتلال “إسرائيل” له خرقًا مباشرًا لتلك الاتفاقية وملاحقها الأمنية.
ورغم التحذير المصري بين الحين والآخر من خطورة السيطرة الإسرائيلية على المحور والتحرش بمعبر رفح الحدودي، والمطالبة بسحب قوات الاحتلال المتمركزة في تلك المنطقة تجنبًا لأي تداعيات محتملة على مستقبل العلاقات بين البلدين، فإن الجانب الإسرائيلي لم يلق بالًا بمثل تلك التهديدات، وهو ما تبرهنه التصريحات الرسمية وغير الرسمية الصادرة عن حكومة نتنياهو والتي تشير إلى الإصرار على بقاء جيش الاحتلال في محوري فيلادلفيا ونتساريم الحدوديين، الموقف الذي أكده رئيس وزراء الاحتلال بنفسه خلال مقابلة أجراها مع القناة 14 العبرية، الاثنين 15 يوليو/تموز الحالي، حين أكد أن “إسرائيل” ستبقى في المحور، ولن تنسحب منه.
وفي تلك الأثناء كشفت وسائل إعلام إسرائيلية نقلًا عن صحيفة “وول ستريت جورنال” أن مصر تلوح بتخفيض العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال الإسرائيلي، وسحب سفيرها من تل أبيب جراء إصرار جيش الاحتلال على ممارسة عملياته العسكرية في المحور الحدودي واستفزاز الجانب المصري بالأنشطة العملياتية الاستعراضية في تلك المنطقة.
وكان الجانب المصري قد تعرض لانتقادات لاذعة منذ بداية الحرب بسبب تخاذله عن اتخاذ أي إجراء حاسم مع الاحتلال، وتقاعسه عن استخدام أي من أوراق الضغط التي بحوزته، ردًا على حرب الإبادة التي يشنها بحق فلسطينيي غزة على مدار عشرة أشهر كاملة، سقط فيها عشرات آلاف الشهداء والمصابين، معظمهم من الأطفال والنساء.
اليوم وبعدما بات الخطر على بعد أمتار قليلة من الحدود المصرية، بل تجاوز الأمر إلى استهداف الداخل المصري وإيقاع بعض الشهداء من الجنود، لم يعد الأمر متعلقًا بالوضع في غزة فقط، إذ أصبح الأمن القومي المصري والسيادة الوطنية المصرية في مأزق حقيقي.. فهل آن الأوان لأن تلجأ القاهرة لإجراء كسحب سفيرها لدى الاحتلال ردًا على تلك التجاوزات؟ أم أن جعبة النظام لا تزال لديها الفسحة لاستيعاب المزيد من الانتهاكات والتحرشات الإسرائيلية؟
القاهرة تحذر.. فيلادلفيا خط أحمر
هددت القاهرة في بيان صادر عن رئيس هيئة الاستعلامات المصرية الرسمية، آنذاك، ضياء رشوان، 22 يناير/كانون الثاني، بأن أي تحرك عسكري إسرائيلي باتجاه احتلال محور فيلادلفيا “محور صلاح الدين” سيؤدي إلى توتير خطير وجدي للعلاقات المصرية الإسرائيلية.
وجاء رد الهيئة استنادًا إلى التصريحات التي شهدتها الفترة الأخيرة، ما قبل 22 يناير/كانون الثاني 2024، والصادرة عن عدد من المسؤولين الإسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء نتنياهو، بشأن احتلال المعبر لوقف عمليات تهريب الأسلحة والمتفجرات إلى قطاع غزة من داخل الأراضي المصرية عبر الأنفاق، وهي التصريحات التي وصفها رشوان بأنها “تحمل مزاعم وادعاءات باطلة”.
وشدد البيان على وجوب “التأكيد الصارم على أن أي تحرك إسرائيلي بهذا الاتجاه سيؤدي إلى تهديد خطير وجدي للعلاقات المصرية الإسرائيلية، فمصر فضلًا عن أنها دولة تحترم التزاماتها الدولية، فهي قادرة على الدفاع عن مصالحها والسيادة على أرضها وحدودها”، منوهًا إلى أن مصر لم ترهن حدودها “في أيدي مجموعة من القادة الإسرائيليين المتطرفين ممن يسعون لجر المنطقة إلى حالة من الصراع وعدم الاستقرار”، وأن هذا الأمر لا يخدم معاهدة السلام التي وقعها البلدان عام 1979، وتابع “وينضم هذا الخط المصري الأحمر (عدم المساس بممر فيلادلفيا) إلى سابقه والذي أعلنته مصر مرارًا، وهو الرفض القاطع لتهجير أشقائنا الفلسطينيين قسرًا أو طوعًا إلى سيناء، وهو ما لن نسمح لإسرائيل بتخطيه”.
ولاقى هذا البيان الذي اعتبره البعض “شديد اللهجة” استحسان أنصار نظام السيسي وعدد من البرلمانيين، من بينهم البرلماني المقرب من السلطة، مصطفى بكري، الذي حذر وقتها من مغبة التصريحات الإسرائيلية المستفزة بشأن احتلال المعبر الحدودي، قائلًا: “حدود مصر تشكل خطًا أحمر”، وأي محاولة إسرائيلية لفرض سياسة الأمر الواقع على مصر غير مقبولة.
مصير العلاقات المصرية الإسرائيلية
في 14 مايو/أيار الماضي، وفي ظل التهديدات المصرية المستمرة إزاء تطورات المشهد عبر الحدود مع غزة، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية تقريرًا تحت عنوان “هجوم رفح الإسرائيلي يعرقل 45 عامًا من السلام مع مصر“، أشارت فيه إلى أن العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح والتلويح باحتلال محوري فيلادلفيا ونتساريم ومعبر رفح الحدودي من شأنها أن توتر العلاقات بين القاهرة وتل أبيب.
ونقل التقرير الذي كتبه عدد من مراسلي الصحيفة في الشرق الأوسط عن مسؤولين مصريين قولهم إن القاهرة تدرس خفض العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، عبر سحب سفيرها لدى تل أبيب، وأن عملية رفح ستزيد من توتر الأجواء بين البلدين، وهو ما يمثل تحديًا للإدارة الأمريكية التي تنظر لمصر كوسيط رئيسي في المباحثات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وكانت الصحيفة قد استطلعت آراء بعض المحللين المصريين والإسرائيليين بشأن تداعيات هذا التوتير على مستقبل اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، فذهب البعض إلى أن المصالح القوية المشتركة بين الدولتين كفيلة بأن تجبر كل طرف على إعادة النظر في اتخاذ خطوة كتلك، وأن ما تلوح به مصر ليس إلا وسيلة للضغط على “إسرائيل” والولايات المتحدة لعدم احتلال المعبر وإحراج النظام المصري أمام الرأي العام.
كما نقلت “وول ستريت جورنال” عن الخبير في العلاقات الإسرائيلية المصرية بمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، عوفير وينتر، قوله “إن لم يكن هناك تفاهم جيد بين البلدين بشأن هذا الأمر ومسار الحرب بصفة عامة فإن العلاقات ستستمر في التدهور، فيما خلصت الصحيفة إلى أن “إسرائيل بحاجة إلى مصر كوسيط في صفقة تبادل الرهائن، وستحتاج إليها لتحقيق الاستقرار في غزة خلال أي سيناريو مستقبلي بعد الحرب”.
الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا
أمام إصرار الاحتلال على استهداف رفح بالقاذفات والصواريخ العشوائية التي أودت بحياة مئات النازحين الفلسطينيين جنوب القطاع، دون أي مراعاة لمقاربات واعتبارات الحليف المصري، أعلنت القاهرة في 12 مايو/أيار الماضي اعتزامها التدخل رسميًا، لدعم الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل”، أمام محكمة العدل الدولية، واتهمتها فيها بارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة.
الإعلام العبري والمحللون الإسرائيليون اعتبروا أن تلك الخطوة المصرية تعكس المستوى المتدني الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين، وأن الأمور تسير نحو منحدر خطر ستكون له عواقبه الوخيمة على مصالح الدولتين في المنطقة ومستقبل التناسق والتفاهم بينهما.
وأعقب هذا التحرك إلغاء بعض الاجتماعات التنسيقية التي كان من المقرر انعقادها بين مسؤولين سياسيين وعسكريين لدى البلدين، تزامن ذلك مع اتخاذ الولايات المتحدة خطوة استثنائية ضاغطة على حكومة نتنياهو بتعليق بعض شحنات الأسلحة لـ”إسرائيل”، وهي الخطوة التي قال محللون إسرائيليون إنها شجعت الجانب المصري على التصعيد مع دولة الاحتلال.
في تلك الأثناء تصاعدت حدة الخطاب الإسرائيلي بشأن ضرورة احتلال محور فيلادلفيا، واتهام الجانب المصري بتهريب الأسلحة للمقاومة من خلال الأنفاق الحدودية، رغم النفي المصري الصارم، وهي السردية التي حاول الاحتلال تمريرها لتبرير عمليته العسكرية في رفح، ومن ثم فرض السيطرة الكاملة على المعبر والمحور، كإحدى استراتيجيات إطالة أمد الحرب التي تبناها نتنياهو لتأجيل قرار حسم مستقبله السياسي الذي بات مربوطًا بنهاية تلك الحرب.
احتلال المحور واستفزاز المصريين
لم تلق حكومة نتنياهو لتهديدات النظام المصري بالًا، بل زادت من إحراجه شعبيًا وعربيًا من خلال اتهامه، عبر وفدها القانوني في محكمة العدل الدولية، بغلق معبر رفح والتسبب في تفاقم أزمة تجويع الفلسطينيين المحاصرين في غزة، وهو الاتهام الذي أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن في تصريح لاحق حين أشار إلى أنه أقنع السيسي بفتح المعبر وإدخال المساعدات للقطاع بعدما كان رافضًا لذلك.
وفي خضم اللهجة المصرية التحذيرية، نفذ جيش الاحتلال عمليته العسكرية البرية في رفح واحتل المعبر وسيطر محور فيلادلفيا بشكل شبه كامل، بل تجاوز الأمر ذلك إلى تنفيذ بعض الإجراءات والعمليات الاستفزازية للجانب المصري، مثل التجول بالدبابات على الشريط الحدودي وهي رافعة العلم الإسرائيلي، ثم هدم بوابة المعبر من الناحية الفلسطينية، وصولًا إلى زيارة بنيامين نتنياهو للمحور قبل أيام والتقاطه الصور بين جنوده في مشهد كان صادمًا ومخزيًا في آن واحد.
ورغم تلك الانتهاكات الحدودية المتتالية التي تهدد الأمن القومي المصري والسيادة الوطنية، وتعرض اتفاقية السلام للخطر، فإن البعض ومنهم جنرالات سابقين في الجيش المصري حاولوا التخفيف من وطأة وتأثير ما حدث، بزعم أنه تم داخل الحدود الفلسطينية ولم يجرؤ الاحتلال على التحرش بشكل رسمي بالجانب المصري، حتى وقع ما وقع صباح الإثنين 27 مايو/أيار.
في ذلك اليوم حدث اشتباك عنيف بين عناصر من جيش الاحتلال وجنود مصريين ضمن وحدات التأمين الحدودية في رفح، أسفر عن استشهاد عسكريين مصريين، وهي الواقعة التي توقع معها الكثيرون أن يكون لها صداها الكبير على رد الفعل المصري من حيث المسار والقوة، حيث علت نبرة الحديث عن ضرورة الانتقام، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها مصر لتحرشات عسكرية إسرائيلية من هذا النوع منذ بداية حرب غزة، إذ سبقها سقوط أكثر من صاروخ إسرائيلي داخل الأراضي المصرية، قال جيش الاحتلال وقتها إنه سقط عن طريق الخطأ رغم تكراره أكثر من مرة.
لكن المفاجأة كانت من الخطاب السياسي الداخلي في مصر، حيث بدأ العزف على وتر التقليل من تلك الحادثة، كما جاء على لسان اللواء متقاعد، سمير فرج، مدير جهاز الشؤون المعنوية السابق بالجيش المصري، وأحد المقربين من الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي وصف حادثة رفح بأنها حدث حدودي طبيعي وغير مقلق بالمرة، ولن يؤثر بطبيعة الحال على العلاقات المصرية الإسرائيلية ولا على اتفاقية السلام الموقعة بينهما، كما أنه لن يؤثر على جهود الوساطة التي تقوم بها مصر لوقف إطلاق النار في غزة، مضيفًا أن العملية سيتم احتواؤها إما باعتذار إسرائيلي وإما تقديم “الدية” لأهل المجند الشهيد، وهي السردية ذاتها التي تبنتها وسائل الإعلام الإسرائيلية.
متى تسحب مصر سفيرها لدى تل أبيب؟
بعيدًا عن ملف غزة والمسؤولية الأخلاقية والسياسية والتاريخية لمصر إزاء الفلسطينيين، وبعيدًا كذلك عن الاتهامات التي يواجهها النظام المصري بشأن تواطئه في حصار أكثر من مليوني فلسطيني وعرقلة دخول المساعدات عبر المعبر المغلق والمشاركة – بقصد أو دون قصد – في حرب التجويع القذرة التي يشنها الاحتلال، فإن الأمر اليوم أصبح مسألة مصرية خالصة، تهديد مباشر للأمن القومي، وتشكيك في السيادة الوطنية على الحدود، ونسف مرتكزات اتفاق السلام مع الكيان المحتل، وضرب كل المقاربات والحسابات المصرية عرض الحائط، وتعمد إحراج النظام سياسيًا وأخلاقيًا على المستوى الشعبي، مصريًا وعربيًا، ومحاولة واضحة لتقزيم دور مصر وإخراجها بشكل أو بآخر خارج الملعب المؤثر إقليميًا ودوليًا، وهنا يبقى السؤال: ماذا ينتظر النظام في مصر ليتحرك في مواجهة كل تلك الانتهاكات؟
يذكر أنه في تلك الأجواء الملتهبة خرجت بعض التسريبات كما نشرتها وسائل إعلام أجنبية من بينها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، بشأن محاولة تخفيف حدة التوتر بين البلدين من خلال الحديث عن احتمالية انسحاب “إسرائيل” من المحور والمعبر، لكن بشرط أن توافق مصر على إجراءات من شأنها منع تهريب الأسلحة على طول الحدود، من بينها تركيب مجسات إلكترونية يمكنها كشف المحاولات المستقبلية لحفر الأنفاق، بجانب بناء حواجز تحت الأرض لمنع بناء الأنفاق، إلا أن تلك التسريبات قوبلت بنفي إسرائيلي رسمي وإصرار على البقاء في المحور وعدم الانسحاب منه.
ثمة حسابات واعتبارات تكبل أيدي الدولة المصرية – من وجهة نظر النظام – في استخدام ما لديها من أوراق ضغط ضد “إسرائيل”، على رأسها المصالح الاقتصادية المشتركة، والقلق من توتير الأجواء مع الحليف الأمريكي ومن ثم الحلفاء الأوروبيين، كذلك الإبقاء على باب العلاقات مع الكيان المحتل “مواربًا” لإمكانية لعب دور الوسيط بين المقاومة والحكومة الإسرائيلية.
غير أن تلك الحسابات هي ذاتها ما لدى “إسرائيل”، ومع ذلك لا تقيم لها وزنًا في مقابل إصرارها على تحقيق أهدافها ومصالحها، الأمر الذي يتطلب من الجانب المصري، المغامرة، إن جاز تسميتها كذلك، من أجل الحفاظ على السيادة والاستقلالية وحماية الأمن القومي الذي بات على المحك، بعدما سيطر جيش الاحتلال على محور فيلادلفيا وتجرأ على الجنود المصريين على الحدود، وضرب بكل مقاربات الدولة المصرية عرض الحائط.
وفي الأخير.. يراهن الإسرائيلي على عدم قدرة الجانب المصري على ترجمة أي من التهديدات الصادرة، في ضوء المقاربات سالفة الذكر، وأن تلك التحذيرات العنترية فقط للاستهلاك المحلي لامتصاص غضب الشارع ولحفظ ماء الوجه، ولو كان لدى نتنياهو وجيشه ذرة شك واحدة في احتمالية تنفيذ أي من تلك التهديدات لما تمادى في انتهاكاته، ولما بقي في المعبر ساعة واحدة، وبعيدًا عن نغمة انجرار مصر وتوريطها في حرب ضروس مع الاحتلال، يمكن أن تقود المنطقة كلها إلى مستقبل مجهول، فإن هناك أوراق ضغط عدة غير الحرب يمكن توظيفها – إذا ما توافرت الإرادة – لقلب المعادلة وتغيير الدفة برمتها.. فمتى يتحرك المصريون إن لم يتحركوا اليوم؟