على الرغم من من أنّ الكثيرين لا يفكرون كثيرًا في كيفية تأثير الأماكن الجغرافية التي يعيشون فيها على ثقافتهم بكافة أشكالها، إلا أنّ العديد من العلماء يختصون فقط في دراسة هذه الظاهرة، والتي تعرف باسم الجغرافيا الثقافية، أي دراسة المكونات الثقافية للشعوب بما تحتويه من جوانب أخرى مثل اللغة والدين والمطبخ والتكنولوجيا والفن والموسيقى واللباس والتعليم والاقتصاد وغيرها الكثير، الثقافية وكيفية ارتباطها بجغرافية الأماكن التي يعيش فيها الأفراد والمجموعات.
لذلك، فلا يمكن دراسة الموسيقى والأصوات في المجتمعات المختلفة دون النظر إلى أثر الجغرافيا والمكان في ذلك، ومن هنا ظهر ما يُعرف في علم الموسيقى بمصطلح “جغرافيا الموسيقى”، وهو الفرع الذي يركّز في دراساته وأبحاثه على انعكاس المناظر الطبيعية والمساحات الجغرافية المحيطة بالأفراد على تطوّر موسيقاهم وأصواتهم وأغانيهم وترانيهم.
تتطور الموسيقى باستمرار عبر تطوّر المكان والزمن، وتعمل بدورها على تحفيز واستيعاب التغييرات الحاصلة في البيئة، ما يجعلها عرضةً لللتغير كافة الأوقات، ولذلك لا عجب بأنّ البيئة المحيطة سواء كانت جغرافية أو اجتماعية، تلعب دورًا هامًا وكبيرًا في تكوين وتشكيل موسيقانا وأدواتنا، بل ويمتد ذلك الأثر إلى أصواتنا وقدراتها.
هنا، قد يفيدنا العودة إلى الوراء كثيرًا والإجابة على سؤال كيف بدأت الموسيقى، لنفهم أكثر كيف أثرت الجغرافيا ومحتوياتها على نشوئها وتطورها. فالكثير من الأبحاث تشير إلى أنّ الإنسان العاقل الحديث صنع قبل أكثر من 15 ألف سنة مزاميرَ متنوعة من عظام الدببة والغزلان، تحتوي على ثقوبٍ متنوعة للتحكم الأصابع من خلالها بدخول الهواء وخروجه من المزمار، وتنتج الأصوات الجميلة المختلفة.
ظهرت دراسة الموسيقى ضمن سياق الدراسة الجغرافية خلال تسعينات القرن الماضي وساعد في تطورها دراسات الثقافات السمعية والتفضيلات الصوتية في العلوم الاجتماعية والإنسانية
قد يكون هذا دليلًا واضحًا وبدائيًا على كيفية تأثير الجغرافيا على الموسيقى، فلو لم يعش ذلك الإنسان العاقل في بيئة جغرافية تحتوي على بقايا عظام الحيوانات، لربما ما اهتدى إلى صناعة المزامير والاستفادة منها. وبالتالي، فإنّ دراسة أثر الجغرافيا على الموسيقى وتطورها ينطوي على مجموعة واسعة من الموضوعات الفرعية؛ منها الآثار المنعكسة للأماكن والمناظر الطبيعية واختلاف التضاريس على الأداء والأصوات والعواطف والفروقات الجنسية وما إلى ذلك.
وقد ظهرت دراسة الموسيقى ضمن سياق الدراسة الجغرافية خلال تسعينات القرن الماضي، ما يعدّ أنها حديثة جدًا، وقد ساعد في تطورها أيضًا ظهور دراسات الثقافات السمعية والتفضيلات الصوتية في العلوم الاجتماعية والإنسانية منذ بدايات القرن الحادي والعشرين فصاعدًا.
يمكن اعتبار الموقع الجغرافيّ بمثابة كيانات معقدة، ومجموعات من الأشياء المادية والأشخاص وأنظمة العلاقات الاجتماعية التي تجسد ثقافات متميزة ومعانٍ وهويات وممارسات وسلوكيات متعددة. وعلى هذا النحو؛ تتأثر الموسيقى بكونها جزءًا من الثقافة، بالموقع الجغرافيّ الذي تنشأ فيه. وبكلماتٍ أخرى، يمكن للموسيقى من منطقة معينة نقل صور للمكان وجغرافيته.
خذ على سبيل المثال الفرق بين الأغاني الشعبية في كلٍ من القرى والمدن في منطقةٍ ما، فستجد أنّ أغاني القرى أو الفلّاحين ترتكز فعليًا على الأنشطة التي تمليها عليهم جغرافيتهم، مثل الزراعة والحصاد، الفعاليات التي تغيب عن وعي المدينة، وبالتالي عن موسيقاها وأغانيها وأهازيجها. كما تختلف الأصوات التي نشأت وترعرعت في الجبال عن غيرها مما نشأت في المدن أو السواحل على سبيل المثال.
يمكن دراسة أثر الجغرافيا على الموسيقى من خلال عدة موضوعات مثل الإدراك والوعي المرتبطين بالمكان والتفاعل المكانيّ كالهجرة والاختلاط والحواجز الجغرافية
وتمامًا فينطبق الأمر على الأصوات، لذلك تارّة ما نسمع وصفًا لصوت أحدهم بأنه “جبليّ” كنايةً عن قساوته وغلاظته وشدّته، كطبيعة الحياة هناك وانعكاساتها على سكانها وأهلها، الأمر الذي يعدّ نتاجًا للجغرافيا قبل كلّ شيء. وفيه يركّز المغني أو المؤدّي على إخراج الحروف من المناطق العليا للحلق، ما يضطره للاستغناء عن بعض الحروف الخارجة من الحنجرة أو أسفل الحلق.
يمكن دراسة أثر الجغرافيا على الموسيقى من خلال عدة موضوعات منها؛ الإدراك الذي يشمل على صورة المكان وحسه والوعي الناتج عنه، والانتشار الثقافي وعوامله وحواجزه الناتجة عن الجغرافية، والتفاعل المكانيّ مثل الهجرة والاختلاط بالجماعات المجاورة وطرق التواصل بينها، والعلاقات البشرية في المكان الجغرافيّ وتطوّر البيئة التكنولوجية فيها.
خذ أيضًا على سبيل المثال الموسيقى والرقصات التي تنتشر في مدن ودول البحر الأسود، والتي تتسم بالحركات ذات الوتيرة السريعة جدًا للكتف والجزء العلوي للجسم، مع جلسة القرفصاء المفاجئة، والتي يُقال أنها استُمدت جميعها من اهتزاز أسماك الخمسي الصغيرة التي توجد بوفرة في مياه البحر الأسود وتشكل جزءًا أصيلًا ملازمًا للثقافة هناك بالمدن والقرى المختلفة، فكما يتحرك الخمسي سريعًا مهتزًا في المياه هربًا من شباك الصيادين، يتحرك مؤدّو هذه الرقصة وعازفوها سريعًا أيضًا، فهم مثل الخمسي يكافحون بحياتهم ويسعون للنجاة في الظروف الصعبة.
أو خذ استمع لهذه الموسيقى الإفريقية التقليدية، ولاحظ كيف أنها توحي لسامعها بالاتساع والمساحات والفراغ، تمامًا كجغرافية المنطقة قديمًا، حيث عكف السكّان على العيش في المساحات الواسعة والفارغة.