ترجمة وتحرير: نون بوست
يعد الزعفران المكون الذي لا يغيب أبدا عن العديد من الأطباق، سواء طبق البايلا الإسباني، أو حساء بولابيس الفرنسي أو طبق ريزوتو الإيطالي. ولطالما عرف الزعفران بتاريخه العريق واستخداماته المتعددة في المجال الطبي، حيث كان يستخدم على اعتباره علاجا فعالا لعدة أمراض، الأمر الذي أكده المجتمع العلمي. واليوم، عاد الزعفران من جديد ليبرز على اعتباره مكونا أساسيا ضمن حساء السمك والمأكولات البحرية التي يحتاج إعدادها إلى قدر وافر من التوابل والزيت، والتي عادة ما تقدم رفقة شرائح من الخبز.
عموما، تعد عبارة “أرض دون مياه”، الوصف الأكثر انتشارا الذي يحيل لغويا إلى منطقة قشتالة لا مانتشا. وقد أطلق العرب هذا الاسم على هذه المنطقة التي تضم جزءا كبيرا من المقاطعات الحالية على غرار البسيط، وثيوداد ريال، وكوينكا وطليطلة. ويتميز هذا الإقليم بكثرة الأماكن المنخفضة والمناخ الطبيعي القاحل الذي تزداد قسوته مع قدوم فصل الخريف. لحسن الحظ، يمنح قدوم شهر أيلول/سبتمبر سكان هذا الجزء من إسبانيا فرصة التمتع بالمناظر الطبيعية التي يطغى عليها اللون الأرجواني، التي غالبا ما يكون بطلها الرئيسي الحقول المليئة بزهور الزعفران الممتدة على مجال واسع. وبالإضافة إلى منظرها الجذاب والملفت للأنظار، تنبثق من هذه الأراضي رائحة فواحة شبيهة برائحة العسل.
في العصور الوسطى كان الزعفران يستخدم على اعتباره علاجا ضد الاكتئاب أو منشطا لتسهيل القيام ببعض الأنشطة مثل الغناء
كل من يستنشق رائحة زهرة الزعفران تتولد لديه رغبة في الإدمان عليها. ومن المحتمل أيضا أن لا تستطيع المقاومة أو الابتعاد ولو لمدة قليلة، وهو ما يدركه تماما الأشخاص الذين يقومون بقطف ومعالجة وتعبئة أحزمة الزعفران السوسني. وعلى الرغم من وجوده في كميات كبيرة، إلا أن تكلفة الزعفران تعتبر عالية للغاية، وذلك نظرا لأنه يعد مادة منشطة. وبالتالي، في السنوات الأخيرة، ازداد اهتمام المجتمع العلمي بهذه المادة وسلط الضوء على مدى تأثيرها على الحالة المزاجية للأشخاص، وهو أمر تم تداوله منذ العصور الوسطى.
منذ أكثر من 20 سنة اكتشف عالم الموسيقى المتخصص في دراسات العصور الوسطى في جامعة ولاية أريزونا، فولكر شير، مجموعة من الرسائل التي تعود لكاتارينا ليميل ولم يتم نشرها
ماض مختلف
تؤكد الخبيرة بات ويلارد، مؤلفة كتاب “أسرار الزعفران”، أن هذا النوع من التوابل له تاريخ طويل من حيث استخدامه في شكل دواء في أوروبا. وفي هذا السياق، كان الزعفران يُستخدم بكثرة لعلاج حالات الكآبة والحزن، وذلك من خلال استهلاك نوع من الحبوب الصغيرة التي تعد بمثابة مزيج من مياسم الزعفران ودبس السكر. ويولد هذا الخليط اليوم تأثيرا معادلا لجرعة من دواء بروزاك المضاد للاكتئاب.
من جهة أخرى، منذ أكثر من 20 سنة اكتشف عالم الموسيقى المتخصص في دراسات العصور الوسطى في جامعة ولاية أريزونا، فولكر شير، مجموعة من الرسائل التي تعود لكاتارينا ليميل ولم يتم نشرها. وتعد ليميل واحدة من أبرز سيدات الأعمال في القرن الخامس عشر، حيث عُرفت أسرتها بتجارتها التي تختص في هذا النوع من التوابل. وفي مرحلة ما من حياتها، اختارت ليميل التخلي عن وظيفتها لتصبح راهبة، حيث انضمت إلى دير راهبات في منطقة بافاريا الألمانية.
كاتارينا ليميل
كانت الرسائل الخاصة بكاتارينا ليميل موجهة إلى ابن عمها هانز حتى يتوجه إلى عائلتها طلبا لكمية تعادل كيلوغراما من الزعفران في السنة، وهي كمية ضخمة بالنسبة لرعية تضم 50 شقيقا وشقيقة فقط. واستنادا لقيمته في السوق الحالية، يمكن أن يصل ثمن الكيلوغرام الواحد من هذا النوع من التوابل إلى حوالي 10 آلاف يورو. ولكن ما الذي يخفيه هذا الطلب؟ في هذا الصدد، فسر فولكر شير أنه في ذلك الوقت، لم تكن الراهبات تغني أو تصلي من أجل خلاصهن، أو بدافع المتعة في القيام بهذا النشاط فقط، بل كان ذلك يشكل جزءا أساسيا من مهنتهن في إطار تعاملهن مع المتبرعين والمرضى والمجتمع.
بناء على ذلك، أكدت ليميل أن تناول القليل من الزعفران قد ساعدهن على الغناء لفترات أطول وبشكل أكثر قوة ووضوحا. وبالتالي، بات الزعفران أشبه بالملك ميداس، الذي يحول كل شيء تلمسه يداه إلى ذهب. في الواقع، مثل الزعفران علاجا لتعزيز وتقوية أصوات تلك الراهبات بمجرد استهلاكه.
الزعفران، علاج ضد الاكتئاب والحزن؟
لكن، ما الذي يوجد في الزعفران ليصبح قادرا على التأثير على المزاج بهذا الشكل؟ يكمن السر في احتوائه على ثلاثة مركبات، ألا وهي مركب الكروسين والكروستين، إلى جانب مركب السافرانال، وهي المكونات المسؤولة عن لون ونكهة الزعفران. وقد قام عالم النفس السريري والباحث في جامعة مردوخ في أستراليا، أدريان لوبريستي، بجمع مختلف المعلومات التي وقع نشرها مؤخرا ضمن 12 دراسة، وذلك بهدف تحليل خصائص الزعفران المضادة للاكتئاب.
أكد الخبير لوبريستي أنه، خلافا لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (الأدوية الأكثر استخداما لهذا الغرض)، لا أحد يعرف تحديدا كيفية تأثير الزعفران على دماغنا
وفقا للخبير، كان لجميع هذه المكونات تأثير إيجابي للغاية على الجسم. كما أكد أدريان لوبريستي في الآن نفسه على حقيقة في غاية الأهمية، ألا وهي الانعدام التام لأي آثار جانبية قد تنجر عن استهلاك الزعفران، وذلك شريطة ألا يتجاوز استهلاكه الجرعة القصوى، التي تقدر بحوالي خمسة غرامات في اليوم.
أكدت العديد من الدراسات على فوائد الزعفران وتأثيره على الذاكرة لدى الأشخاص المصابين بمرض الزهايمر
أكد الخبير لوبريستي أنه، خلافا لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (الأدوية الأكثر استخداما لهذا الغرض)، لا أحد يعرف تحديدا كيفية تأثير الزعفران على دماغنا. ومع ذلك، أورد هذا العالم أنه واثق بما فيه الكفاية ليوصي باستهلاك الزعفران على اعتباره مضادا للاكتئاب في منتهى الأمان بالنسبة للأشخاص الذين لا يرغبون في استهلاك الأدوية والذين غالبا ما تكون حالتهم معتدلة أو متوسطة”. وشدد لوبريستي على أن “هناك ما يكفي من الأدلة التي تبرهن مدى فاعلية الزعفران على اعتباره علاجا جيدا لهذا النوع من الحالات”.
الزعفران، علاج فعال ضد النسيان
من ناحية أخرى، خُصص الجزء الثاني من البحث لتحليل تأثيرات الزعفران على الجهاز العصبي، وذلك بهدف استغلاله لتحسين حالات المرضى المصابين بالزهايمر. وفي دراسة أجريت عن طريق توظيف التجربة مزدوجة التعمية، تم تقييم نتائج تناول حوالي 15 مليغرام من مستخلص مياسم الزعفران في صفوف مرضى الزهايمر. في الأثناء، لوحظ تحسن كبير في الوظائف الإدراكية لدى المرضى الذين تناولوا هذه الجرعة من مستخلص الزعفران، مقارنة بالأشخاص الذين قدم لهم دواء وهمي يفتقر إلى أي تأثير علاجي.
وفي دراسة ثانية، خضع المرضى المصابون بالزهايمر في مراحله الأولى لاستهلاك الكمية نفسها من الزعفران لمدة 22 يوم. إثر ذلك، خضعوا لفحص، حيث وقع مقارنتهم بالمرضى الآخرين الذين تناولوا جرعة تقدر بحوالي 10 مليغرام فقط من دواء دونيبيزيل، المخصص أيضا لعلاج مرضى الزهايمر، وذلك بشكل يومي. أثبتت النتائج أن درجات تقييم المجموعتين على مستوى تأثير الزعفران والدواء الطبي على علاج مرض الزهايمر كانت متشابهة بشكل مدهش.
صدر مؤخرا كتاب تحت عنوان “وصفات للذاكرة”، الذي يرمي إلى بلوغ أهداف طموحة فيما يتعلق بعلاج مرضى الزهايمر. ويرنو هذا الكتاب إلى إنقاذ ذاكرة هؤلاء المرضى من خلال المطبخ، وذلك عن طريق الاعتماد على الزعفران على اعتباره مكونا أساسيا للأطعمة. وقد تم إعداد هذا الكتاب بالتعاون مع الشيف الإسباني الحائز على نجمة ميشلان، يايو ديبورتا، الذي يمنحنا الدافع والحافز لإدراج هذا النوع من التوابل ضمن أطباقنا، وفرصة مذهلة للاستمتاع بأطباق شهية.
المصدر: الكونفدنسيال