ترجمة وتحرير: نون بوست
كان من المفترض أن يؤدي حوالي 88,000 طالب وطالبة من طلاب التعليم العالي في غزة امتحاناتهم الشهر الماضي، وكان الكثيرون يتطلعون إلى استكمال تقييماتهم النهائية والاحتفال بتخرجهم الذي حصلوا عليه بشق الأنفس.
ولكن، وبسبب حرب الإبادة الجماعية التي شنتها “إسرائيل”، لم يرتدِ أحد منهم قبعاتهم وعباءاتهم. وبدلاً من ذلك؛ يعاني الشباب من دمار لا مثيل له. فقد تم تدمير كل الجامعات في غزة، وأُحرقت المكتبات عن بكرة أبيها، وتطلعات الخريجين الفلسطينيين في حالة يرثى لها.
فبالإضافة إلى فقدان أحبائهم، بما في ذلك العائلة والأصدقاء والأساتذة، فقد سلب الصراع من هؤلاء الطلاب طموحاتهم وأحلامهم – من أجل مستقبل يتأرجح الآن على حافة المجهول. وتحدثت إلى بعض الطلاب في غزة لمعرفة المزيد حول ما يمرون به، وإليكم ما أخبروني به.
رزان
كانت رزان ونور في بداية السنة الخامسة من دراستهما لطب الأسنان في جامعة فلسطين في غزة، وكانتا من الطالبات المتفوقات في القسم، وكانت علاقتهما قوية جدًا.
وقالت لي رزان: “أحد التحديات التي نواجهها كطلاب في طب الأسنان هو إيجاد حالات لتشخيصها وعلاجها. كلما صادفت نور حالات إضافية، كانت تحيلها لي دائمًا. وكانت تطمئن عليّ باستمرار عندما أكون في العيادة، خاصةً أثناء اختباراتي العملية”.
وأضافت رزان: “كنا مجموعة من أربعة أصدقاء، لكن نور كانت أقربهم إليّ. كنت أقضي يومي كله تقريبًا معها، سواء في الفصول الدراسية أو أثناء الاستراحات أو خارج الكلية. لطالما تحدثت عنها مع والدتي. وكانت أمي تحبها كثيرًا”.
وقالت رزان إن نور كانت أيضًا قريبة من عائلتها، مضيفة: “كانت قريبة بشكل خاص من شقيقتها الكبرى إسراء. وكان والدها داعمًا جدًا لها، ووعدها بالمساعدة في فتح عيادة خاصة بها بعد التخرج”.
أُطلقت مبادرات مختلفة بعد بدء الحرب لتسهيل التعليم عبر الإنترنت لطلاب جامعات غزة لكنها لم تناسب ظروف الجميع
وكان من المفترض أن تتخرج نور ورزان معًا؛ حيث تتذكر رزان قائلة: “في الصيف الماضي؛ ذهبنا في جولة في مدينة غزة كمكافأة على عملنا الشاق خلال السنة الأخيرة من دراستنا التي كانت مليئة بالتحديات، وتحدثنا عن قرب تخرجنا وقرب احتفالنا بتحقيق هذا الهدف. ولم أكن أعلم أنها ستكون رحلتنا الأخيرة معًا والمرة الأخيرة التي سأرى فيها غزة كما عرفتها من قبل”.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023؛ قتلت غارة جوية إسرائيلية نور وعائلتها، ولم يبقَ على قيد الحياة سوى شقيقتها الصغيرة.
وانقضت عدة أشهر، لكن حزن رزان لا يزال قائمًا، وقالت: “ما زلت متمسكة باعتقاد أنني سأرى نور مرة أخرى عندما ينتهي هذا الكابوس. ولم يكن هناك ولن يكون هناك شخص مثل نور في حياتي”.
فقدت رزان أيضًا العديد من الأساتذة والزملاء والمعلمين المحبوبين في المدرسة، وقالت: “كانت حياتي الأكاديمية تعج بالنشاط في يوم من الأيام”، مضيفة: “الآن، أدرك كم كنت محظوظة حقًا لتجربة مثل هذا النعيم. وأتوق إلى كل ذلك”.
وشددت رزان التي شعرت بالإحباط بسبب تعطيل تعليمها وتخرجها، على حقها في التعلم، وقالت: “هذا حقي كأي طالب آخر في العالم”. وفي خضم البقايا المحطمة لأحلامها في الحصول على مهنة ناجحة، فإن شوق رزان الأساسي الآن هو ببساطة “الشعور بالأمان”.
وتواجه رزان المقيمة في محافظة دير البلح، وسط الاعتداءات المستمرة، عقبات شاقة في سعيها لمتابعة تعليمها عبر الإنترنت، فالاقتحامات القاتلة المتكررة والحرمان القسري وانقطاع الإنترنت ليست العوائق الوحيدة التي تصارعها. فقد اعترفت رزان قائلة: “أنا منهكة ذهنيًا [جدًا] لدرجة أنني لا أستطيع التعامل مع الأمر”.
محمد
كان محمد، وهو باحث متخصص في هندسة البرمجيات، في السنة الخامسة من دراسته في جامعة فلسطين في غزة عندما اندلعت الحرب. ومنذ ذلك الحين؛ عانى هو وعائلته من النزوح والاضطرابات المستمرة، وقال محمد: “لقد نزحنا منذ اليوم الأول للعدوان. في البداية؛ لجأنا إلى مخيم الشاطئ، ثم إلى مستشفى الشفاء، ثم إلى مخيم النصيرات، واستقر بنا المطاف في محافظة دير البلح”. وقد تحول منزلهم في بيت حانون الواقع في شمال غزة إلى ركام، ويعيش جميع أفراد الأسرة العشرة الآن في خيمة رباعية الدفع.
وأضاف محمد: “قبل العدوان، كنت أعمل مع أصدقائي على مشروع تخرجنا، كنت أحلم بأن أصبح مهندس برمجيات بارزًا وفي نهاية المطاف”. والآن، يدير محمد كشكًا متواضعًا لتخفيف الأعباء المالية التي تثقل كاهل أسرته.
مرت “إسرائيل” تسع عشرة مؤسسة تعليم عالٍ في غزة إما تدميرًا كليًا أو جزئيًا. وفي عمل صارخ من أعمال الإبادة المدرسية، قتلت “إسرائيل” ما لا يقل عن 555 طالبًا و100 أكاديمي خلال الإبادة الجماعية
ويتذكر اللحظة المحورية التي سبقت اندلاع الاعتداء، متأسفًا: “كنت على وشك تحقيق خطوات واسعة في مسيرتي المهنية، حيث حصلت على مقابلة عمل مع شركة رائدة قبل بدء الاعتداء مباشرة”.
لقد أُطلقت مبادرات مختلفة بعد بدء الحرب لتسهيل التعليم عبر الإنترنت لطلاب جامعات غزة، وحاول محمد الالتحاق بها، لكنه وجد أنها لا تتناسب مع ظروفه.
وقال محمد: “كانت غالبية الدورات المتاحة مصممة للطلاب المستجدين وطلاب السنة الثانية. أما الجامعات الأخرى فكانت تقبل فقط الطلاب المقيمين خارج غزة”. وشكلت المعاناة اليومية لتأمين اتصال إنترنت موثوق وإمدادات طاقة ثابتة تحديات إضافية لمحمد.
وفي مواجهة هذه العقبات، فكر محمد في متابعة تعليمه في الخارج، وأوضح: “لقد استنفدت كل ما أملك من موارد للحصول على وثائق مهمة مثل جواز السفر وبدائل عن تلك التي فقدتها، لكن محاولتي الأخيرة تعثرت عندما تم إغلاق معبر رفح الحدودي فجأة”. وبعجزه عن رسم طريق للمضي قدمًا، تحطم آخر أمل لمحمد، تاركًا إياه حائرًا بشأن خطوته التالية.
ديما
كانت ديما، طالبة اللغة الإنجليزية والترجمة في الجامعة الإسلامية في غزة، مصممة على اغتنام كل لحظة من سنتها الدراسية الأخيرة، وقالت: “حتى أنني كنت أحضر قبل موعد الدراسة بوقت طويل لأستمتع بكل دقيقة من حياتي الجامعية قبل التخرج”.
وأشعلت دراستها للشعر الإنجليزي مع الدكتور رفعت العرعير، الكاتب والمدرس الأسطوري الذي قُتل في غارة جوية إسرائيلية في كانون الأول/ ديسمبر، شغفها بتخصصها في وقت مبكر من سنتها الجامعية الأولى. ومن التأثيرات المهمة الأخرى مشاركتها في معرض “النساء في الحكايات الشعبية” الذي نظمه العرعير. كما انضمت أيضًا إلى منظمة “نحن لسنا أرقامًا”، وهي منظمة شارك في تأسيسها العرعير، حيث صقلت مهاراتها في الكتابة الإعلامية ونشرت مقالاتها.
وتقول ديما: “أنا مدينة للدكتور رفعت بالكثير لمهاراتي في الكتابة. لقد شاركنا بسخاء معرفته معنا، ووفر لنا مساحة للتعبير عن أنفسنا، وشجعنا على الكتابة بلا خوف. وكان مكتبه مفتوحًا دائمًا لنا. لقد كان رحيله خسارة فادحة. ولا أستطيع تخيل قسم اللغة الإنجليزية بدونه”.
تتجاوز الخسائر الناجمة عن الدمار مجرد تدمير البنية التحتية، فهي تسلب العديد من أطباء الأسنان والمهندسين والكتاب والمعلمين والأطباء والفنانين والعمال والممرضين والمحامين والصحفيين والصيادلة مهنهم وتطلعاتهم
وحلمت ديما ذات يوم بأن تصبح صحفية، وأن تتابع دراستها في الخارج، وأن تحاضر في نهاية المطاف في جامعات غزة. ومع ذلك؛ فإن حلمها الأكبر الآن هو ببساطة إنهاء شهادة البكالوريوس والعودة إلى منزلها في غزة.
وأضافت ديما: “لقد فقدت عمي خلال الإبادة الجماعية. وكان داعمًا كبيرًا لتعليمي. لقد أراد أن يهنئني بتسجيلي في مدرسة لتعليم قيادة السيارات، كما تمنيت”.
وكانت خسائر ديما عميقة وبعيدة المدى: عمها، ومنزلها، وأستاذها المحترم، ومؤسستها الأكاديمية، وكتبها العزيزة، وفرصة التخرج؛ كل ذلك جرفته اضطرابات الإبادة الجماعية.
كما يؤكد أحد خبراء الأمم المتحدة: “عندما تدمر المدارس، تدمر الآمال والأحلام أيضًا”، وتتجاوز الخسائر الناجمة عن الدمار مجرد تدمير البنية التحتية، فهي تسلب العديد من أطباء الأسنان والمهندسين والكتاب والمعلمين والأطباء والفنانين والعمال والممرضين والمحامين والصحفيين والصيادلة مهنهم وتطلعاتهم.
لقد دمرت “إسرائيل” تسع عشرة مؤسسة تعليم عالٍ في غزة إما تدميرًا كليًا أو جزئيًا. وفي عمل صارخ من أعمال الإبادة المدرسية، قتلت “إسرائيل” ما لا يقل عن 555 طالبًا و100 أكاديمي خلال الإبادة الجماعية، وفقًا لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي الفلسطينية.
ومنذ بداية العدوان؛ استُهدفت الجامعة الإسلامية في غزة، الجامعة الإسلامية الرائدة في غزة، بلا هوادة تحت شعار أنها “مركز عملياتي وسياسي وعسكري”. وفي كانون الثاني/يناير، تم نسف المباني الرئيسية لجامعة الإسراء وتحويلها إلى ركام بعد أن استولت عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي كقاعدة عسكرية. بالإضافة إلى ذلك؛ قام الجنود الإسرائيليون بتحميل شريط فيديو يظهر إحراق مكتبة جامعة الأقصى. وتستهدف الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة باستمرار النظام التعليمي؛ مما يضمن تدميره بالكامل ومنع ترميمه لسنوات عديدة قادمة.
ولن يتسنى للطلاب الفلسطينيين استعادة فرصة التعلم إلا بانتهاء هذا الاعتداء، والشروع في رحلة شفاء تمتد لأجيال، والجرأة على تصور مستقبل تساهم فيه مواهب شباب الأمة في فلسطين المحررة.
المصدر: ذا نيشين