في عام 1989 سُجل من كان يُعرف بـ “روبن هود” مدينة “ميديلين” في كولومبيا كأغنى سابع رجل في العالم، ولم لا فقد كان المسؤول عن نسبة 80٪ من الكوكايين المتواجد حول العالم كله، مُصدرًا ما يقرب 15 طنًا منه إلى الولايات المتحدة يوميًا فقط، حتى أنه لو كان تصدير الكوكايين وتصنيعه قانونيًا لكان “روبن هود” كولومبيا زعيمًا للعالم أجمع.
كان من وصفه بـ “روبن هود” مدينة “ميديلين” الكولومبية هو تاجر المخدرات الأشهر تاريخ المخدرات في العالم “بابلو إسكوبار”، ربما سمعت عنه حديثًا من مسلسل “نيتفليكس” الشهير “ناركوس” أو إذا كنت من جيل الثمانينات فربما تردد هذا الإسم كثيرًا على محطات الأخبار المختلفة، ربما سمعت عنه الأساطير، فقد كان بالفعل أسطورة الكوكايين، حيث أسموه إمبراطور الكوكايين في العالم، كانت له إمبراطورية تبلغ قيمتها ميزانية دول مجتمعة، وكان له جيش من المستأجرين على استعداد على قتل الآلاف من الناس في إشارة من رأسه، إلا أن هذا لم يعجب الكثيرين، من بينهم الولايات المتحدة الأمريكية.
على الرغم من جهود الشرطة والحكومة الكولومبية في مواجهته، إلا أنه كان أذكى وأقوى من الجميع، وكان لديه من المال ما يمكنه من فعل كل شيء وأي شيء
عاش “إسكوبار” في فقر مدقع لعائلة فقيرة، إلا أنه كان يقول لوالده بأنه سيكون من أغنى أغنياء العالم، لم يكن لـ “إسكوبار” أن يفعل ذلك إلا بطريقته الخاص، وكانت تلك الطريقة هي الإجرام، بدأ بالسرقة وتزوير البطاقات ومن ثم بدأ يدخل في عالم المخدرات شيئًا فشيئًا، وكان يدخل بنفسه إلى الولايات المتحدة لتهريبه بيديه، لقد كان الأخير مسؤولًا عن انتشار الكوكايين في العالم كله وبدايته كانت في ولاية “ميامي” في أمريكا، ليصل في ذروة إمبراطوريته أن يُصدر 15 طنًا من الكوكايين داخل الولايات المتحدة بمختلف شتى طرق التهريب الممكن للمرء تخيلها، والتي كانت تخيل دومًا على أعين ضباط مكافحة المخدرات.
لم يكن هناك شيئًا لم يستطع “بابلو إسكوبار” فعله، إن لم يعجبه شيئًا سيمحيه من على وجه الأرض، وإن حاول أحدهم عرقلة أعماله لن يجعله يعيش يومًا آخر ليفعل ذلك، لقد قتل “إسكوبار” الآلاف، من بينهم تجار المخدرات المنافسين وضباط الشرطة والجيش الكولومبي، وأفراد من الحكومة ودبلوماسيين وأبرياء مدنيين، لقد كان مبدأه في الحياة “الفضة أو الرصاص” “plata o plomo”، ويعني إقبل المال أو واجه الرصاص، وكل من لم يقبل المال أو التعاون واجه الرصاص بالفعل.
على الرغم من جهود الشرطة والحكومة الكولومبية في مواجهته، إلا أنه كان أذكى وأقوى من الجميع، وكان لديه من المال ما يمكنه من فعل كل شيء وأي شيء، لقد كان يكسب “إسكوبار” يوميًا من تهريب الكوكايين 60 مليون دولارًا، وكان المبلغ الذي يصرفه على الرباطات المطاطية من أجل ربط النقود حوالي 4000 دولار شهريًا، ولأنه كان يملك كمية كبيرة من الأموال بدأ في وضعها في البراميل ودفنها تحت الأرض لنفاذ المخازن من المساحة الكافية لتخزين البراميل، حتي قيل أنه يخسر 10٪ من ثروته بسبب تآكل الأموال من العفن أو الفئران، لم يكن هذا ليعجب كثير من المسؤولين، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
على صعيد ما بنى المدارس والكنائس والمستشفيات لفقراء كولومبيا، وكان رجاله يوزعون الأموال في الشوارع على الفقراء والمساكين، حتى وصفه فقراء كولومبيا بــ “روبن هود”
أول صورة لبابلو إيسكوبار في السجل الإجرامي تظهر سخريته بالشرطة الكولومبية
على الرغم من أن “إسكوبار” لم يكن وحيدًا، إلا أنه كان الأيقونة التي سعت خلفها الولايات المتحدة بشراسة لإسقاطها، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة تدخلها لإسقاطه وطلب تسليم تجار المخدرات من كولومبيا للسجن في الولايات المتحدة، كان “بابلو”يخاف تسليمه للولايات المتحدة أكثر من الموت، وحارب ذلك بكل الطرق الممكنة، الطيبة منها والخبيثة.
حرق “إسكوبار” 2 مليون دولار من أجل تدفئة ابنته الصغيرة التي كانت تشعر بالبرد
فعلى صعيد ما بنى المدارس والكنائس والمستشفيات لفقراء كولومبيا، وكان رجاله يوزعون الأموال في الشوارع على الفقراء والمساكين، حتى وصفه فقراء كولومبيا بــ “روبن هود” ليكون له دعمًا شعبيًا كبيرًا أمام مواجهة الحكومة له، لم تتخلى عنه مدينته “ميديلين” فصار الكثيرون من الأوفياء له يتآمرون على الشرطة ويساعدونه في سبيل مساعدته لهم، كما عرض على الحكومة تسديد الديون والقروض ووضع الأموال في ميزانية الدولة، وعلى صعيد آخر تآمر “إسكوبار” مع الميليشيات لتدمير الكثير، كان من بينها طائرة مدنية وقصر العدل في كولومبيا وتدمير كل الأدلة الموجودة فيه لإدانته بأي تهمة.
بابلو إيسكوبار بعد انتخابه في البرلمان عام 1982
كان شغله الشاغل هو عدم الوقوع في يد الأمريكان، وأراد أن يُحاكم على أرض بلاده وليس على أرض الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الحكومة الكولومبية ألغت قرار تسليم تجار المخدرات، أراد الأمريكان “إسكوبار” وبشراسة على الرغم من تطور الأحداث وظهور عصابات فاقت “إسكوبار” شراسة بعدما ضاق الخناق على الأخير من المطاردات وتدمير إمبراطوريته شيئًا فشيئًا، ظهرت مجموعات دموية مثل مجموعة “لوس بيبيس” التي لم تكن أقل عنفًا ودموية من “إسكوبار” إلا أن الأمريكان قبلوا التعاون معهم من أجل الوصول لـ “إسكوبار”، لقد أرادوه هو وفقط.
بنى “إيسكوبار” سجنه الخاص الذي كان من أفخم قصور العالم بعد عقد صفقة مع الحكومة الكولومبية لم تدم طويلًا
كان الأخير حديث كثير من الرؤساء الأمريكان، ليكون للمخابرات الأمريكية وضباط مكافحة المخدرات الأمريكان وجودًا على أرض الواقع في كولومبيا يتجسسون على كل بيت كولومبي ويفتشونه جنبًا إلى جنب مع القوات الكولومبية من أجل الوصول إلى إمبراطور الكوكايين الذي لم يكن ليفكر مرتين في قتل نفسه قبل أن يقبض عليه الأمريكان.
قبل أن يجده الأمريكان من خلال التجسس على اتصالاته مع زوجته، عرضت عليه الأخيرة أن يُسلّم نفسه للشرطة إلا أنه أوضح أنه لن يُسلم نفسه قط للأمريكان الذين يعتبرهم مجرمين أمثاله، كان ذلك قبل أن تقتحم الشرطة مقر اختبائه وتتبادل معه إطلاق النيران وذلك في يوم 2 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1993 لينتهي الأمر بصورة لمجموعة من الشرطة الكولومبية بجانبهم ضابط أمريكي من ضباط مكافحة المخدرات يمسك بذراع “إيسكوبار” بعد أن صار جثة هامدة وهو يبتسم للصورة منتصرًا لانتهاء كابوس إيسكوبار ونصر الأمريكان.
حلم “إيسكوبار” دومًا بأن يكون رئيسًا لدولة كولومبيا، لقد تم انتخابه في البرلمان بالفعل قبل أن يُطرد بعدها ببضعة أيام قليلة بعد حصوله على المقعد، إلا أن نهايته كانت جثة هامدة بين يدي ضابط أمريكي و ضياع إمبراطوريته وأمواله الطائلة للأبد، كانت هناك أساطير حول قتل “إيسكوبار” يتبنى الأمريكان شرف محاولة قتله، ويقال أن الحقيقة أنه مات إثر طلق ناري من الأذن ليقال أنه انتحر قبل وصول الأمريكان له.
حصل “مانديلا” على جائزة نوبل للسلام في نفس العام الذي قُتل في “إسكوبار” مناصفة مع الرئيس ” فريدريك ويليام ديكليرك” رئيس نظام التمييز العنصري
كان هناك شخصًا آخر يبعد عن عن “إيسكوبار” عشرات الآلاف من الكيلومترات، إلا أنه شارك “إيسكوبار” الحلم نفسه، بل كان مثالًا وقدوة له في أيامه الأخيرة، على الرغم من اختلاف حياتهما كليًا عن بعضهما البعض، الأول كان قاتلًا مجرمًا والثاني كان مناضل في سبيل حرية الأفارقة السود في جنوب إفريقيا، إلا أنه وبعد سجال طويل من المطاردة والمحاكمة في محاكم البيض حقق حلمه وصار رئيسًا لجنوب إفريقيا.
كان ذلك هو “نيلسون مانديلا”، الإفريقي المعارض للتمييز العنصري المكوّن لحملة التحدي الذي اعتبره النظام العنصري في جنوب إفريقيا محرضًا على مقاومة قوانين التمييز العنصري ليصدر حكم ضده بالسجن ويمنع من مغادرة البلاد لعدة شهور استغلها لتكوين حركات المقاومة السرية ضد التمييز العنصري.
كلاهما كان له حلمًا، وأساليب تحقيقه كانت مختلفة تمامًا، وكانت دومًا وأبدًا المصالح الخارجية تعرقله، رأت المصالح الخارجية “إسكوبار” قاتلًا وجب القضاء عليه، ورأت في “مانديلا” محرضًا وجب القضاء عليه أيضًا
وصف حالته في المحاكمة بالقول “أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزي لأُبْرِزَ المعنى الرمزي لكوني رجلاً إفريقيا يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهوري بذلك الزي سُيخيف السلطة من ثقافة إفريقيا وحضارتها”.
حصل “مانديلا” على جائزة نوبل للسلام في نفس العام الذي قُتل في “إسكوبار” مناصفة مع الرئيس ” فريدريك ويليام ديكليرك” رئيس نظام التمييز العنصري، ليحل “مانديلا” محله رئيسًا للبلاد في العام الذي يليه، وينهي مسيرته المناضلة الطويلة التي قضى فيها ربع قرن وراء القضبان رئيسًا للبلاد محققًا حلمه لتنجح مقاومته ونضاله محققًا حلمه.
لم يكن هناك الكثير من الصفات المشتركة بين الشخصيتين، لقد وصف البعض “إسكوبار” بالمجرم المقاوم والمساعد للفقراء، وكان “مانديلا” مقاومًا لحقوق قومه من الأفارقة السود في جنوب إفريقيا، صدر الأول السم الأبيض “الكوكايين” للعالم كله، وصدر الثاني مبادئ المقاومة والنضال الذي لا يعرقله السجن، إلا أن كلاهما كان له حلمًا، وأساليب تحقيقه كانت مختلفة تمامًا، وكانت دومًا وأبدًا المصالح الخارجية تعرقله، رأت المصالح الخارجية “إسكوبار” قاتلًا وجب القضاء عليه، ورأت في “مانديلا” محرضًا وجب القضاء عليه أيضًا، ظلت ذكرى الاثنين عبرة للتاريخ، ولم تنتهي تجارة الكوكايين ولا التمييز العنصري بعد.