من الصعب أن نقتنع بملابسنا ونستمر في ارتداءها لفترة طويلة عندما نتجول في الأسواق التجارية ونرى الأزياء المغرية معروضة بألوان جذابة وتصاميم مختلفة، فالتغيرات التي حدثت بقطاع صناعة الملابس في السنوات الأخيرة أثرت بشكل جوهري على ميولنا وقراراتنا الاستهلاكية، ففي عام 2014 زادت نسبة الاستهلاك للملابس بنسبة 60% مقارنة مع عام 2000.
في أواخر التسعينيات، بدأت ظاهرة “الأزياء السريعة” في اجتياح المحلات التجارية، وهي الظاهرة التي انخفضت فيها مدة التصنيع إلى النصف، وزاد فيها عرض نماذج جديدة من الملابس في فترة قصيرة، إذ يتم إنتاج من 50 إلى 100 تصميم أسبوعيًا، مثل سلسلة “زارا” الإسبانية التي تملك أكثر من ألفين و200 متجر في 93 دولة، يتم تسليم عناصر جديدة مرتين في الأسبوع وتنتج تصاميم جديدة كل أسبوعين وتعرض حوالي 11 ألف قطعة في متاجرها بالسنة الواحدة، مقارنة مع الشركات الأخرى المنافسة والتي تعرض من ألفين إلى أربعة آلاف قطعة في السنة.
والمحرك الأساسي لهذه الصناعة هو التسويق الذي خلق الرغبة المستمرة في استهلاك تصاميم جديدة وتعزيز هذا الميول، وذلك عكس النموذج الذي اعتادت على اتباعه في السنوات الماضية وهو اتباع الدورة السنوية للمواسم لصناعة الملابس.
ساهمت هذه الشركات في تقليص عمر استخدام الملابس وتخفيض أسعارها، فنجحت في جذب المستهلك إلى هذا النظام الذي يخلق لديه رغبات متجددة بطريقة تلائم ذوقه سريع التغير
هذه العملية ساهمت في تقليص عمر استخدام الملابس وتخفيض أسعارها، فنجحت في جذب المستهلك إلى هذا النظام الذي يخلق لديه رغبات متجددة بطريقة تلائم ذوقه سريع التغير، ولتحقيق ذلك دون خسائر أو تكاليف عالية، لجأت الشركات الكبرى في الثمانينات لمصانع النسيج في البلدان ذات العمالة المنخفضة.
على إثر هذه الظاهرة، نشأت حركة الأزياء البطيئة لمواجهة هذه الموضة السريعة وتسليط الضوء على الحقائق البشعة خلف هذه الصناعة التي تتعامل بوحشية مع العاملين بمصانعها في دول العالم الثالث، وتغض نظرها عن ظروف عملهم الخطرة ونتائجها المدمرة للبيئة والإنسان.
انهيار مبنى سافارا على العاملين في أحد المصانع ببنغلادش
تعتبر هذه الحادثة المروعة الأسوأ في تاريخ تصنيع النسيج، حدثت عام 2013 عندما انهار مبنى مكون من ثمانية طوابق على العاملين فيه وتسبب في موت ألف و129 شخصًا وألفين و515 جريحًا، وذلك بعد تحذيرات بخصوص التصدعات التي كانت ملاحظة في المبنى لكن تم تجاهلها وأمر عمال الخياطة للعودة في اليوم التالي والعمل.
لم تكن هذه الواقعة الوحيدة، فقبل ثمانية أعوام من نفس العام، انهار مصنع آخر، وبصفة عامة تعاني صناعة الملابس في بنغلادش منذ سنوات بسبب الحرائق وحوادث أخرى، ففي عام 2012، قتل مئة و12 عاملًا بحريق في مصنع في منطقة داكا، رغم المحاولات المستمرة لتحسين ظروف العمل ومعايير السلامة إلا أن هناك ضحايا بشكل متكرر.
شراء الناس لهذا الكم من الملابس لن يزيد سوى الضغط على هؤلاء العاملين وسيرتفع معها مستوى الحياة وبالتالي تزيد القيمة المادية للأشياء بين الناس على حساب الإنسان
بشاعة هذا القطاع لا تقف عند هذا الحد، ففي هذه الصناعة السريعة يعمل حوالي 75 مليون شخص، 80% منهم نساء تتراوح أعمارهن بين 18 و24 عامًا، إذ تعمل الأغلبية لساعاتٍ طويلة مقابل 3 دولارات فقط يوميًا، بالرغم من مساعيهن لتحسين أوضاعهن، إلا أن متطلباتهن لم يستجاب إليها سوى بالإهانة والضرب بالعصي والمقصات، وذلك بحسب رواية واحدة من العاملين في هذه المصانع، بالفيلم الوثائقي “التكلفة الحقيقية”.
قد يعتقد البعض أن اختيار الشركات الكبرى لدول النامية فيه نوع من المساعدة بسبب توفيرها لهم فرص عمل في مكان لا توجد فيه بدائل أخرى لهم، ولكن الحقيقة أن شراء الناس لهذا الكم من الملابس لن يزيد سوى الضغط على هؤلاء العاملين وسيرتفع معها مستوى الحياة وبالتالي تزيد القيمة المادية للأشياء بين الناس على حساب الإنسان.
كيف تدمر ملابسنا البيئة؟
تعد صباغة المنسوجات ثاني أكبر ملوث للمياه على مستوى العالم، لذلك قامت منظمة “السلام الأخضر” بشن حملة على الشركات التجارية لوقف استخدام المواد الكيميائية السامة في منتجاتها، حيث منع بعضها في عدة دول بعد إثبات خطورتها ودورها في بناء بيئة مثالية للخلايا السرطانية.
وخاصة عند استخدام البوليستر الأكثر استخدامًا في عالم الأزياء، فعندما يتم غسل الملابس في الماكينات فإن خيوطها الدقيقة تمر بسهولة عبر محطات معالجة مياه الصرف الصحي ولأنها لا تتحلل بيولوجيًا فهي تمثل تهديدًا كبيرًا للمياه التي تشق طريقها إلى البحار والأسماك، بالجانب إلى إطلاق الأقمشة المحتوية على البوليستر نحو 106 مليار كيلو غرام من الغازات الدفيئة في الهواء. كما تظهر خطورتها بشكل أوضح، في الاستخدام الكيميائي المدمر لزراعة القطن، وما تسبب من عيوب خلقية، وهذا ما أثبت لاحقًا في أطفال مزارعي القطن في الهند.
حيث أن معظم أنواع القطن المزروعة في جميع أنحاء العالم معدلة وراثيًا لتكون مقاومة للآفات وبالتالي تحسن الإنتاجية وتقلل من استخدام المبيدات الحشرية، وبالطبع تؤدي هذه الآلية إلى حدوث المزيد من المشكلات مثل ظهور الأعشاب فائقة المقاومة لهذه المبيدات، وفي هذه الحالة تستخدم علاجات أكثر قوة وسمية تضر بالتربة والإنسان والحيوان.
ملايين أطنان الملابس التي ترسل إلى المكبات تحتاج إلى 200 عام على الأقل للتحلل، وخلال هذه السنوات تترك آثارًا مضرة بالتربة والمياه.
عدا عن نفايات الملابس التي يتخلص منها الناس بعد أن تقنعهم الدعايات بإن ملابسهم لم تعد عصرية، وفرض نمط حياة بمستوى عالٍ لا يسمح لهم بإعادة استصلاح أغراضهم، لذلك يلجأ الناس إلى تبديل ملابسهم بشكل مستمر ليس حاجة وإنما رغبة في اللحاق بهذه التغييرات من حاجياتهم بعد استخدامها بفترة قصيرة، دون العلم بأن ملايين أطنان الملابس التي ترسل إلى المكبات تحتاج إلى 200 عام على الأقل للتحلل، وخلال هذه السنوات تترك آثارًا مضرة بالتربة والمياه.
بالإضافة إلى زيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون إلى نسبة 60% لعام 2030، وبشأن الماء، فإن تصنيع الملابس يحتاج إلى أطنان من القطن الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه، وهي مشكلة تواجهها كل من الصين والهند، فمن المرجح أن يزداد استهلاك المياه لديها إلى 50% في عام 2030؛ ما سيؤدي إلى نقص ثروتها المائية بشكل كبير، خاصة أن صباغة الأقمشة تستهلك 5 تريليون لتر من المياه سنويًا.
يكشف لنا الخبراء خفايا هذه الصناعة التي تضع الإنسان في حرب بين رغباته وإنسانيته ومسؤولياته في الحفاظ على البيئة التي يعيش فيها ويتأثر بالتغيرات التي تجري عليها، ويزيد الأمر جدية عند معرفة أن العالم سيحتاج إلى 3 أضعاف الموارد الطبيعية في عام 2050