يناير/كانون الثاني 2011، خرج التونسيون إلى الشوارع منادين بإسقاط نظام بن علي، نظام جمع في يده كل السلطات في البلاد، ففي ظل حكمه لا أحد له أن يحكم أو يقرر بمفرده حتى المؤسسات المنبثقة عنه، مكرسًا سياسة المركزية دون النظر إلى عواقبها.
جاء دستور الـ26 من يناير 2014، وتلاه مجلة الجماعات المحلية، ووضعا حدًا لكل ذلك تشريعيًا بإقرارهما مبدأ اللامركزية الذي ينتظر أن يطبق فعليًا بانتخاب أعضاء المجالس المحلية غدًا الأحد، فهل ستفرط السلطة المركزية في صلاحياتها بسهولة؟
قانون 1975.. مجالس دون صلاحيات
أعطت المصادقة على مجلة الجماعات المحلية (قانون تنظيم البلديات) التي من المنتظر أن تنظم عمل البلديات في الـ26 من أبريل/نيسان الماضي رونقًا جديدًا، حيث قطع هذا القانون الجديد مع القانون عدد 33 لسنة 1975 الذي حدّ من صلاحيات المجالس البلدية طيلة فترة حكم نظامي بورقيبة وبن علي.
ترتكز اللامركزية والحوكمة المحلية على الصعيد المالي أساسًا على استقلالية الجماعات المحليّة على مستوى تعبئة الموارد
وربط القانون الأساسي للبلديات المؤرخ في 14 من مايو/أيار 1975 سلطة رئيس البلدية في اتخاذ القرارات والمهام الموكولة إليه بالرقابة السابقة للسلطة التنفيذية، وانحصرت صلاحياته في اتجاه ذاتي، حيث تضمن الباب الثاني من هذا القانون 6 فصول تباعًا ركزت مهامه في المسؤولية على مصالح البلدية ودعوة المجلس البلدي للانعقاد وضبط جدول أعمال الجلسات وإعداد الميزانية التي يصادق عليها محافظ الجهة والسهر على تركيز اللجان وتنفيذ مقررات المجلس وتمثيل البلدية في جميع الأعمال المدنية.
ولا يمنح القانون القديم أي صلاحيات مهمة لرئيس البلدية أو مجلسه، ذلك أنه يجرّد الاثنين من كل شيء لفائدة السلطة التنفيذية؛ مما أفقد الانتخابات المحلية في الأنظمة السابقة الأهمية، وهو ما يفسّر ضعف العمل البلدي حينها.
استقلالية مالية
يتضمن قانون “مجلة الجماعات المحلية” الذي سيلغي قانون 1975، بنودًا تعطي صلاحيات جديدة للمجالس البلدية المنتخبة على المستوى المالي والإداري والتنظيمي وفق رؤية تشاركية تؤسس للامركزية القرار وللحكم المحلي، عملاً بالدستور الذي ينصّ في بابه السابع على قيام السلطة المحلية على أساس اللامركزية.
ومن شأن هذا القانون الجديد الذي يحتوي على 392 بندًا، أن يفتح فرصًا أكبر أمام الجماعات المحلية المنتخبة لدفع التنمية المحلية في مناطقهم، ويحرر الاستثمار والاقتصاد المحلي من قيود البيروقراطية والسلطة المركزية التي كانت تقيدهم في السابق.
ويمنح هذا القانون صلاحيات كبيرة للسلطات المحلية، حيث من المنتظر أن تتولى الإشراف على إدارتها للأصول ووضع الموازنات، وتُحدّد علاقاتها مع كيانات أخرى، منها منظمات المجتمع الأهلي وطبقات الحكومة الأعلى والهيئات الدولية.
مسؤوليات كبؤى تنتظر المجالس المحلية
وترتكز اللامركزية والحوكمة المحلية على الصعيد المالي أساسًا على استقلالية الجماعات المحلية على مستوى تعبئة الموارد وإعادة توزيعها وفق الاحتياجات المطروحة في كل دائرة بلدية، ويُتوقع أن يساعد القانون الجديد السلطات المحلية على تحقيق استقلالية مالية أكبر، عبر تنويع مصادر تمويل البلديات وتزويدها بالإرشادات عن كيفية تخصيص هذه الأموال، ويضمن هذا القانون للبلديات القدرة على إعداد مشاريع إنمائية وتطبيقها، بما يساهم في استحداث الوظائف وتحفيز النمو.
وتنص مجلة الجماعات المحلية على نقل بعض مهام تحصيل الضرائب من الحكومة المركزية إلى السلطات المحلية، مع أنه ستكون هناك حاجة إلى مزيد من التشريعات لتنظيم التفاصيل، كما يُحدد القانون إجراءات ملموسة لضمان الديمقراطية التشاركية والحكم المفتوح على المستوى المحلي، وتمهيد الطريق أمام لامركزية أوسع نطاقًا بين فروع الحكومة وطبقاتها المختلفة.
وينصّ هذا القانون على آليات لدعم الموارد الذاتية للبلديات ليكون لها النصيب الأوفر ضمن موارد الميزانية، فموارد البلديات كان النصيب الأوفر منها موارد محالة من الدولة تشمل مناب المال المشترك، موارد الاستثمار والدعم الموظف مقابل موارد ذاتية ضعيفة لضعف الموارد الجبائية نظرًا لضعف نسبة الاستخلاص التي لا تتجاوز 11%، والموارد غير الجبائية نظرًا لضعف الرصيد العقاري في عدد مهم من البلديات.
سيكرس قانون الجماعات المحلية خيار الاقتصاد التضامني الاجتماعي
ويكفل الإطار القانوني الجديد للبلدية تعزيز مواردها المحالة من جهة ومواردها الذاتية من جهة أخرى من خلال دعم الاستخلاص ووضع هامش من التصرف في المعاليم ودعم الرصيد العقاري كما فرض على الدولة تحويل نسبة من الضرائب محددًا ما هذه الضرائب بالتحديد.
إعادة توزيع السلطات
هذا القانون من شأنه اعتماد اللامركزية كآلية لإعادة توزيع السلطات وتعديل أدوار السلطة المركزية والجماعات المحلية في مختلف جهات البلاد، ذلك أنه يتيح للمجالس البلدية نقل صلاحيات من السلطة المركزية، وإشراك السكان بصنع القرارات.
ويمنح قانون الانتخابات الجديد المجالس البلدية “صلاحيات واسعة” تمكنها من تنفيذ قراراتها بإشراك المواطنين ودون انتظار موافقة الحكومة، وبفضل القانون الجديد أصبحت للبلديات القدرة على إدارة شؤونها المحلية دون أن تخضع لموافقة المحافظ أو أوامره كما كان بالسابق، وأصبح الأخير يراقب من بعيد ما يجري بالبلديات والتظلم للقضاء عند وجود تجاوزات.
ومن بين مزايا القانون الجديد أيضًا أنه يرسخ مبدأ الديمقراطية التشاركية الذي يفرض على المجالس البلدية الاستماع لآراء السكان واتخاذ القرار بصفة تشاركية لإنجاز المخططات والمشاريع، والمساهمة في تنمية جهتهم وفق الرؤية التي يريدون دون رقابة من أحد كما كان سابقًا.
يتنافس المرشحون في 350 دائرة انتخابية
وتحدد المجلة الصلاحيات الذاتية والمشتركة والمنقولة لمختلف أنواع الجماعات المحلية وفق معايير النجاعة ومبدأ التدبير الحر، على أن يتولى القضاء المالي والإداري مهمة الرقابة اللاحقة لتعويض الرقابة المسبقة التي كانت تمارسها السلطة التنفيذية بمختلف مراحلها.
وسيكرس قانون الجماعات المحلية خيار الاقتصاد التضامني الاجتماعي، كما سيعمل على الحد من التفاوت بين المناطق، وضمان مشاركة أوسع للمواطن، وسبق أن قال رئيس الحكومة يوسف الشاهد في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية في موقع فيسبوك إن مصادقة مجلس النواب على قانون الجماعات المحلية يعد خطوة إضافية جديدة في إطار تكريس الديمقراطية المحلية وتفويض صلاحيات مهمة للجهات لإدارة الشأن المحلي.
صعوبة التفريط في السلطة
بعد إعلان نتائج الانتخابات، من المنتظر أن تواجه الجماعات المحلية المنتخبة صعوبات كبرى لتطبيق الفصول التي تضمنها الدستور ومجلة الجماعات المحلية ذلك أنه ليس من السهل أن تفرط السلطة المركزية في صلاحياتها.
ويبرر دعاة المركزية موقفهم هذا بخوفهم على وحدة البلاد، فالقوانين الجديدة ستغير النظام فيما يخص الجهات والأقاليم في علاقتها بالدولة، غير أن العديد من رجال القانون يؤكدون أن مبدأ اللامركزية لا يتنافى مع مبدأ وحدة الدولة، مؤكدين أن مفهوم السلطة المحلية ومواصفاتها لا يتعارضان مع هذا المبدأ، ولا يمكن أن يكونا عامل تفتيت للروابط المكونة للكيان الوطني.