شهد العراق خلال العقدين الماضيين تصاعدًا ملحوظًا في تجارة المخدرات وتهريبها، وهو ما يُعزى إلى مجموعة من العوامل المعقدة من بينها الانفلات الأمني، والفساد الإداري، والضغوط الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
لم تقتصر تداعيات هذه الظاهرة الخطيرة على تهديد الأمن والاستقرار الداخلي للعراق، بل امتدّت آثارها لتشمل الجوانب الاجتماعية والصحية، بالإضافة إلى تأثيرها السلبي على الدول المجاورة، حيث يعكس تصاعد تجارة المخدرات في العراق تحديات كبيرة تحتاج إلى جهود مكثفة لمعالجتها من الحكومة العراقية وشركائها الإقليميين والدوليين.
خريطة تهريب المخدرات
تستخدم شبكات التهريب الدولية، العراق كنقطة عبور رئيسية لنقل المخدرات من مناطق الإنتاج في أفغانستان وإيران إلى الأسواق في دول الخليج وأوروبا، وبات العراق اليوم أحد محاور التهريب الإقليمية في تجارة المخدرات، نتيجة موقعه الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا.
يقول الناشط العراقي، أحمد شاكر، إن انتشار المخدرات وبيعها في البلدان القريبة والمجاورة، أدى بشكل مباشر إلى تحول العراق من معبر للمواد المخدرة إلى سوق تجاري رائج لهذه المواد.
ويبيّن في حديثه لـ”نون بوست” أن ظاهرة انتشار المخدرات ليست بجديدة في العراق، بل موجودة منذ الغزو الأمريكي عام 2003، لكنّها نشطت بكثرة الآن، وأصبح الشباب العاطلون عن العمل مدمنين لهذه الممنوعات بنسبة كبيرة.
في تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في 22 يوليو/تموز الجاري، أكّد فيه أن العراق شهد طفرة هائلة في تجارة المخدرات واستهلاكها خلال السنوات الخمسة الماضية، لا سيما حبوب الكبتاغون والميثامفيتامين.
وأشار التقرير إلى قيام السلطات العراقية بمصادرة كميات قياسية من المخدرات في عام 2023، بلغت أكثر من 24 مليون قرص كبتاغون، يفوق وزنهم 4.1 طن، وتقدّر قيمتهم بما بين 84 مليون دولار و144 مليونًا، بحسب سعر الجملة.
ونوّه التقرير إلى تضاعف مضبوطات الكبتاغون في العراق 3 مرات عن عام 2022 و34 مرة عن مضبوطات عام 2019، وحذر من تحول العراق إلى “محور متزايد الأهمية بالنسبة لمنظومة تهريب المخدرات عبر الشرق الأوسط والأدنى، حيث يقع العراق في نقطة تقاطع عالمية معقدة لتهريب المخدرات”.
وأوضح التقرير أن قرب العراق من طريقين دوليين رئيسيين هما: طريق البلقان والطريق الجنوبي، لتهريب المخدرات، أنعش هذه التجارة من خلاله، حيث يتم نقل المواد الأفيونية الأفغانية إلى أوروبا عبر باكستان وإيران والعراق وتركيا.
وعن مسارات تجارة المخدرات داخل العراق، ذكر التقرير 3 ممرات محلية رئيسية: أحدهما عبر إقليم كردستان المتاخم لإيران وتركيا وسوريا، والثاني عبر منفذ القائم الحدودي غرب محافظة الأنبار المتاخمة لسوريا والأردن والسعودية، والثالث الطريق الجنوبي الذي يربط إقليم خوزستان الإيراني بالبصرة وبغداد وشبه الجزيرة العربية.
مؤتمر إقليمي ببغداد
يتزامن تقرير الأمم المتحدة، مع انطلاق أعمال مؤتمر بغداد الدولي الثاني لمكافحة المخدرات، بمشاركة إقليمية واسعة. وقال السوداني خلال افتتاح المؤتمر في 22 يوليو/تموز 2024: “أمامنا مسؤولية كبيرة تقع على عاتقنا، ورؤيتنا للمخدرات لا تقتصر على الضرر الذي يستهدف شبابنا وإنما نراها عاملًا أساسيًا في عدم استقرار المنطقة”.
ونوّه السوداني إلى أن “المخدرات جريمة عابرة للحدود ولا يسلم منها أحد، وبغداد شرعت بإجراءات لتفتيت عصابات الترويج”، مؤكدًا جاهزية العراق “للتنسيق المشترك مع دول الجوار لمكافحتها”.
من جانبه قال وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري، خلال المؤتمر، إن “خطر المخدرات يتزايد بقوة، لذلك نحتاج إلى وثيقة دولية لتطويق آفة المخدرات”. ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن الشمري، تأكيده على “ضرورة التعاون والتنسيق للوقوف بوجه خطر المخدرات”، مبينًا أن “من دون تعاون مثمر فإن تهديد المخدرات سيستمر”.
وتضمّن البيان الختامي للمؤتمر تأكيد المشاركين على ضرورة توحيد الجهود الإقليمية والدولية المشتركة لتعزيز الأمن الإقليمي والعالمي لمواجهة تحدي انتشار المخدرات والمؤثرات العقلية وتهريبها، لحماية المجتمعات من خطر هذ الآفة.
واتفق المشاركون على تعزيز آليات العمل المشترك واعتماد مبدأ التكامل في العمل الأمني من أجل قطع طرق تهريب المخدرات ومنع زراعتها وتصنيعها بمختلف أشكالها ومتابعة العصابات التي تنشط في هذا المجال وتفكيكها والقضاء عليها.
مسار تفاقم المخدرات
لم تكن المخدرات مشكلة كبيرة في العراق قبل عام 2003 بسبب الوضع الأمني المستقر نسبيًا والإجراءات الصارمة للرقابة على الحدود آنذاك، ما حدّ من تدفق المخدرات إلى داخل البلاد وخارجها. لكن الغزو الأمريكي عام 2003، أدى إلى تفكك الأجهزة الأمنية وتدهور الاستقرار، ما أسهم في زيادة نشاط شبكات التهريب، وتحول العراق إلى مستهلك وممر رئيسي لتجارة المخدرات في المنطقة، وانعكس هذا التحول الجذري على الوضع الأمني والاقتصادي بتأثير سلبي عميق على المجتمع العراقي.
ودخل ملف المخدرات في العراق عام 2016 مرحلة خطيرة بإعلان تحول البلاد إلى مصنع لإنتاج المواد المخدرة، بعدما كانت ممرًا لها إلى الدول المجاورة، إذ كشف قضاة عراقيون مختصون في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عن وجود معامل لإنتاج المخدرات، أسسها تجار طوروا تجارة مادة الكريستال المخدِرة إلى صناعة محلية لها، مستغلين ضعف الإجراءات الرقابية في بعض المنافذ الحدودية.
وتزامن بيان القضاة، مع إعلان جهاز الأمن الوطني، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عن وجود معامل لتصنيع المواد المخدرة، كالأمفيتامين والكريستال، في محافظتي البصرة وميسان، بواسطة مواد كيميائية مهربة من خارج البلاد، وتخلط مع المواد الأخرى الداخلة في عملية التصنيع، مؤكدًا أن العصابات حولت العراق من بلد عبور إلى بلد منتج.
شهد عام 2023 اعتقال 9 آلاف تاجر وحائز مخدرات وضبط 12 طنًا من المخدرات والمؤثرات العقلية، فضلًا عن توقيف 16 ألف تاجر وحائز مخدرات وضبط 12 طنًا من المخدرات والمؤثرات العقلية منذ مطلع العام الجاري.
ويعزو مراقبون سبب تفاقم هذه الظاهرة إلى وجود حماية لشبكات المخدرات من بعض الأحزاب السياسية والميليشيات المسلحة المسيطرة على المنافذ الحدودية والتي تسهل عمليات المهربين، حيث تحولت بعض المعابر الحدودية إلى مراكز عبور رئيسية لهذه المواد المحظورة.
وأقر السفير الإيراني السابق إيريج مسجدي في سبتمبر/أيلول 2019، أن هناك تهريبًا للمخدرات من بلاده إلى العراق مصدرها أفغانستان وباكستان، وفي المقابل هناك تهريب للخمور والأسلحة من العراق إلى الأراضي الإيرانية.
وذكرت إحصائيات مجلس القضاء الأعلى في العراق لعام 2021 أن “نسبة الإدمان على المخدرات قد تصل إلى 50% من فئة الشباب، وسط ارتفاع ملحوظ في نسبة الجرائم بالبلاد”.
وجاء العراق في المرتبة 32 عالميًا بتجارة المخدرات من أصل 192 دولة، فيما ارتفع مستواه من 7.05 في 2021 الى 7.13 درجة من أصل 10 نقاط في 2023، وفقًا لمؤشر الجريمة المنظمة.
جهود عراقية
تزامنًا مع تزايد انتشار شبكات ترويج المخدرات المحلية والدولية، تسارع الجهات الحكومية المختصة في العراق خطاها للسيطرة على الأوضاع ومكافحة كل أشكال المتاجرة والتعاطي والتصنيع للمواد المخدرة.
وعن ذلك يقول الناشط شاكر إن وزارة الداخلية العراقية تبذل جهودًا كبيرة لتحجيم هذا الانتشار، وفقد بعض ضباط ومنتسبي الداخلية أرواحهم وهم يكافحون انتشار المخدرات، من خلال تنفيذ المداهمات والاشتباك مع تلك العصابات.
ويشير الناشط إلى عدة عوامل أسهمت في انتشار تجارة المخدرات في العراق، منها تفشي البطالة والفقر، ما يدفع الشباب للإدمان، وكذلك الضعف في مسك الحدود العراقية بسبب الرشاوى أو تورط بعض المستفيدين من دخول هذه المخدرات من بعض دول الجوار.
وعن هذه الجهود أشار رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، في 22 يوليو/تموز الجاري، إلى أن العراق حقق المرتبة الأولى عربيًا في مجال مكافحة المخدرات خلال الثلاث سنوات الأخيرة.
وبحسب الغراوي، فإن المديرية العامة لشؤون المخدرات التابعة لوزارة الداخلية العراقية، والتي جرى تأسيسها عام 2004، ألقت القبض على 42 ألف تاجر وحائز مخدرات خلال ثلاث سنوات الماضية. وأضاف الغراوي بأن “نحو 17 ألف تاجر وحائز مخدرات بينهم 123 أجنبيًا، جرى القبض عليهم عام 2022، وبلغت كمية المواد المضبوطة نصف طن من المخدرات بكل أنواعها 18 مليون حبة”.
كما شهد عام 2023 اعتقال 9 آلاف تاجر وحائز مخدرات وضبط 12 طنًا من المخدرات والمؤثرات العقلية، فضلًا عن توقيف 16 ألف تاجر وحائز مخدرات وضبط 12 طنًا من المخدرات والمؤثرات العقلية منذ مطلع العام الجاري.
ويقدّر الخبير نسبة التعاطي في “المناطق الفقيرة بنحو 17%، وأعلى نسب لأعمار المتعاطين تراوحت بين 15-30 سنة، وكانت مادة الكرستال من أكثر المواد المخدرة تعاطيًا، بنسبة بلغت 37.3%، والكبتاغون بنسبة 34.35%، والأنواع الأخرى بنسبة 28.35%”.
ودعا الغراوي إلى إطلاق حملة وطنية للوقاية من خطر المخدرات، وتعزيز التعاون الدولي في مكافحتها وتعديل قانون المخدرات بما يضمن تشديد الأحكام ضد التجار وإنشاء مصحات لتأهيل المدمنين عن طريق الاستثمار.