العام الحاليّ 2018 كان شاهدًا على نكسات عديدة للدبلوماسية الإماراتية في منطقة القرن الإفريقي التي تعد ذات أهمية إستراتيجية لقربها من مضيق “باب المندب”، الشريان الحيوي لنقل الطاقة إلى السوق الأوروبية والعالمية، وتحكمه في جزءٍ واسع من حركة الاستيراد والتصدير من وإلى دول المنطقة، فضلًا عن كون “باب المندب” ممرًا أمنيًا مهمًا لعبور القطع العسكرية بين القارات الثلاثة (إفريقيا وآسيا وأوروبا) والأمريكتين من جانب آخر.
جيبوتي.. بداية النكسة بإلغاء امتياز موانئ دبي
بدأت النكسة الإماراتية في أواخر فبراير/شباط الماضي عندما ألغت حكومة جيبوتي عقد الامتياز الممنوح إلى مجموعة “موانئ دبي العالمية”، لتشغيل محطة الحاويات في ميناء “دوراليه” لخمسين عامًا بصورة مفاجئة، إذ أعلن حينها، المفتش العام في جيبوتي حسن عيسى، أن إنهاء بلاده امتياز شركة “موانئ دبي العالمية” قرار نهائي لا رجعة عنه، وقال: “إنهاء الاتفاق جاء لاسترداد حقوقنا التي أخذت بالتحايل من خلال اتفاقيات غير قانونية”.
فيما رأى خبراء أن انتفاض حكومة جيبوتي ضد موانئ دبي جاءت بسبب شكوك في وجود أنشطة أمنية واستخباراتية تقوم بها الإمارات على أرض الدولة، وهو ما لمّح إليه مكتب الرئيس إسماعيل قيلي عندما اعتبر أن عقد امتياز تشغيل محطة حاويات دوراليه يتضمن عناصر تنتهك مصالح جيبوتي وسيادتها.
الصفعة الثانية من الصومال ومقديشو تعزز علاقتها بتركيا وقطر
لم يمضِ سوى أيامٍ قليلة على نكسة الإمارات في جيبوتي حتى فوجئت بصفعةٍ أخرى جاءت في المرة الثانية من الصومال التي أعلنت رفضها لاتفاقيةٍ وقعتها شركة موانئ دبي ذاتها مع جمهورية أرض الصومال “غير معترف بها عالميًا”، حيث أرسلت حكومة مقديشو مذكرة رسمية إلى جامعة الدول العربية اعتبرت فيها اتفاقية “ميناء بربرة” غير شرعية كونها مبرمة مع دولة لا وجود لها ولا سند قانوني لتنفيذها.
التوتر الصومالي ـ الإماراتي تصاعد بوتيرةٍ عالية، خاصة أن أبوظبي لم تكن راضية عن موقف الصومال من الأزمة الخليجية
جدير بالذكر أن الإمارات أشركت إثيوبيا في الاتفاقية المعنية وأعطتها نسبة 19% من حصة ميناء بربرة، وهو ما أثار غضبًا صوماليًا مكتومًا لم يصرح به الرئيس محمد عبد الله فرماجو ربما لمتانة العلاقات التي تجمعه مع أديس أبابا.
التوتر الصومالي ـ الإماراتي تصاعد بوتيرةٍ عالية، خاصة أن أبوظبي لم تكن راضية عن موقف الصومال من الأزمة الخليجية واختيارها الحياد وعدم الانضمام إليهم في معسكر حصار قطر، بل على العكس عملت حكومة فرماجو على التقرب من الدوحة وتركيا، فسمحت للخطوط الجوية القطرية باستخدام مجالها الجوي على نطاقٍ واسع في وقتٍ أغلقت فيه دول الخليج الثلاثة (السعودية، الإمارات، البحرين) الباب أمام الشركة القطرية العملاقة.
وفي نوفمبر من العام الفائت قدمت قطر 200 مليون دولار دعمًا لخطط التنمية في مقديشو، بالإضافة إلى معدات عسكرية وسيارات في وقتٍ لاحق، وبالتزامن مع ذلك، افتتحت تركيا أكبر قاعدة عسكرية خارج البلاد في الصومال بهدف تعزيز وجودها في المنطقة الإستراتيجية بالإضافة إلى مساعدة الجيش الصومالي وتأهيل الجنود ورفع قدراتهم لمواجهة الجماعات الإرهابية مثل حركة الشباب الصومالي وغيرهم.
وبالطبع لم يلقَ الوجود التركي القوي في الصومال ترحيبًا من دولة الإمارات التي تسعى لتعزيز وجودها في القرن الإفريقي هي الأخرى، إذ تتحدث تقارير عديدة عن شروع أبوظبي في تدشين قاعدة عسكرية بميناء عصب الإريتري على ساحل البحر الأحمر مع العلم أنها تستخدم الميناء ذاته حاليًا مركز انطلاق لمساعدة قواتها الموجودة ضمن التحالف العربي الذي يخوض معارك ضد الحوثيين في اليمن منذ العام 2015.
لعلّ الإمارات التي انزعجت من الوجود التركي الطاغي في الصومال
هذا إلى جانب توسيع وجودها المتعدد الجوانب (ميناء وقاعدة عسكرية) في جمهورية أرض الصومال المعلنة من جانب واحد، وخطوة القاعدة العسكرية التي وقعتها أبوظبي العام الماضي مع هرجيسيا، أشعلت بداية التوتر في العلاقات الإماراتية الصومالية، حيث رفضت حكومة مقديشو الاتفاق الإماراتي مع أرض الصومال.
ولعلّ الإمارات التي انزعجت من الوجود التركي الطاغي في الصومال، نسيت أو تناست أن تركيا كانت الدولة الوحيدة التي وقفت مع مقديِشو في محنتها وأن الرئيس التركي كان الزعيم الوحيد الذي زار الصومال ليس مرة واحدة بل مرتين.
فعندما كانت المجاعة تفتك بالصومال عام 2011، تجاهلتها دول المنطقة الثرية القريبة جغرافيًا ولغويًا وثقافيًا، ولم يلتفت إليها غير رجب طيب أردوغان الذي كان يشغل منصب رئيس للوزراء في تلك الأيام، ومهّدت زيارة أردوغان وما أعقبها من مشاريع إنسانية وتنموية نفذتها الهيئات التركية “الهلال الأحمر ووكالة تيكا”، لوجود تركي قوي في الصومال، تطور إلى افتتاح القاعدة العسكرية المشار إليها أعلاه، التي يؤكد مراقبون أنها تجيء في إطار سعي تركيا إلى تعزيز نفوذها العسكري في القارة السمراء عبر بوابة الصومال.
بداية التوتر العلني.. احتجاز الأموال الإماراتية في مطار مقديشو
شكل إعلان وسائل إعلام صومالية في أبريل/نيسان الماضي أن السلطات الأمنية في مطار مقديشو ضبطت طائرة إماراتية كانت تقل أموالاً مشبوهة تبلغ 9.6 مليون دولار، نقطة تحول في توتر العلاقات بين الإمارات والصومال، فقد أدانت الإمارات مصادرة أموالها، وقالت عبر وكالتها الرسمية، إن هذه الأموال كانت مرسلة للجيش الصومالي لدعم عملياته ضد تنظيم “داعش” الإرهابي.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فبعد أسبوع واحد احتجزت سلطات أمن مطار بوصاصو بإقليم “بونتلاند” شمال شرق الصومال، مسؤولين إماراتيين بصحبتهم أمتعة وصناديق في المطار، وكشفت مصادر من داخل المطار لإذاعة “شبيلى” الصومالية، أن السلطات منعت فريقًا إماراتيًا من تحميل معدات عسكرية على الطائرة بعد رفضهم فحص أمتعتهم من السلطات الأمنية، مؤكدة أن هذه الخطوة أثارت مواجهة عنيفة بين القوات الأمنية والمسؤولين الإماراتيين.
ومع بداية التدهور في علاقات أبوظبي ومقديشو، شرعت وسائل الإعلام الإماراتية ـ وهي معرفة بأنها موجهة ـ في الانتقام من حكومة فرماجو بحملةٍ إعلامية واسعة النطاق امتدت إلى شيطنة الصومال كدولة ولم تقتصر على حكومة فرماجو فقط، وكالعادة سارعت المنصات الإعلامية في الإمارات إلى حشر قطر في أزمة الأولى مع الصومال وسارع إلى اتهام فرماجو برعاية الإرهاب ودعمه.
تعليقًا على ما ينشره الإعلام الإماراتي بشأن مساعدات الصومال، فنّدت الباحثة الصومالية سمية شيخ شولي، الخدمات التي تقدمها الإمارات لدولة الصومال، وكيف كانت تستغلها من أجل التأثير على السياسة الصومالية في البلاد
كما أخذت وسائل الإعلام الإماراتية في الامتنان والمزايدة على الشعب الصومالي بما قدمته من دعم ومساعدات رغم أن السلطات الإماراتية نفسها اتخذت قرارًا فوريًا بإغلاق مستشفى الشيخ زايد فور تفجر الأزمة وبأسباب واهية، وهي خطوة شككت كثيرًا في مصداقية وأهداف المساعدات التي تقدمها أبوظبي طالما يتم إغلاق مؤسسات إنسانية كرد فعلٍ على خلاف سياسي.
وتعليقًا على ما ينشره الإعلام الإماراتي بشأن مساعدات الصومال، فنّدت الباحثة الصومالية سمية شيخ شولي، الخدمات التي تقدمها الإمارات لدولة الصومال، وكيف كانت تستغلها من أجل التأثير على السياسة الصومالية في البلاد.
وقال شولي، إن الأزمة بين الصومال والإمارات ليست جديدة بل بدأت جديًا بعد اشتراط الأخيرة على الرئيس السابق حسن شيخ محمود إخراج تركيا من الصومال مقابل دعم حملته، وهو ما لم يحدث، ثم دعمت أبوظبي المرشح عمر عبد الرشيد فخسر، وأوضحت أن الإمارات لم تهضم للصومال موقفها الحيادي من الأزمة الخليجية، فلجأت إلى تقديم رشاوى لحكام الولايات الفيدرالية لدعم المحور الإماراتي السعودي.
كما لفت مغردون صوماليون إلى الحملة الشرسة التي يشنها الإعلام الإماراتي ضد الصومال حكومةً وشعبًا، وأشاروا إلى أن كل من يختلف سياسيًا مع دولة الإمارات أو لا يسير في ركبها يتم تصنيفه إرهابيًا.
جيبوتي تستبدل الإمارات بإثيوبيا
وبالعودة إلى جيبوتي نجد أنها استطاعت ملء الفراغ الذي خلفه طرد موانئ دبي في فترة وجيزة، فقد سارع رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد علي إلى زيارة جيبوتي التي اختارها لتكون أول وجهة خارجية له، وذكرت وسائل إعلام اقتصادية أن إثيوبيا ـ التي لا تملك منفذًا على البحر ـ نجحت في إقناع جارتها جيبوتى بمنحها فرصة دائمة للوصول للبحر وطريقًا دون عوائق لنقل البضائع والسلع بموجب اتفاقية تم التوصل اليها بين البلدين.
وقال قيرما بيرا وزير التجارة والصناعة الإثيوبى إن الإتفاقية تم التوصل إليها فى ختام اجتماع ثنائى على مستوى عالٍ بين البلدين “يقصد رئيس جيبوتي إسماعيل عمر ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد”.
نشير هنا إلى أن إثيوبيا وجيبوتي يربط بينهما قطاران أحدهما خاص بنقل البضائع نفذته شركات صينية بتكلفة تقدر بـ3.4 مليار دولار ويمتد على مسافة قدرها 750 كيلومترًا، قد تكون إثيوبيا اتجهت لتوقيع الاتفاقية الجديدة مع جيبوتي لشعورها بأن اتفاقية ميناء بربرة مهددة بالإلغاء في أي لحظة، وربما يكون التوجه الجديد خوفًا من توتر العلاقات مع جمهورية الصومال التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة وتتشاركان هموم المنطقة ومكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة.
هل ستقف أبوظبي مكتوفة الأيدي؟
بالطبع لا، وهي الدولة التي تبحث عن نفوذ سياسي وعسكري، وتسعى في الوقت ذاته إلى تنويع اقتصادها بالدخول في شراكات واستثمارات مع دول وأسواق جديدة، فهي لن تتقبل فكرة طردها من ميناء جيبوتي والإهانات التي وجهتها لها الصومال بمصادرة الأموال المشبوهة في مطار مقديشو، إلى جانب اعتراض الأخيرة على اتفاقية ميناء بربرة.
محاولات أبوظبي لمناكفة الحكومة الفيدرالية ستستمر خصوصًا في الأقاليم المقربة من الإمارات
ويُعتقد أن الأموال الإماراتية التي ضبطت في مطار مقديشو كانت مرسلة إلى إقليم “بونت لاند” الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي، وكانت إدارته الإقليمية قد أعلنت انحيازها إلى دول حصار قطر خاصة أن الإمارات تدير حتى الآن ميناء بوصاصو الواقع داخل الإقليم، وما يعضد هذه الفرضية أن مبررات الإمارات لإرسال الأموال كانت واهية فليس من المنطق أن ترسل دولة ما نحو 10 ملايين دولار في حقائب ثم تحاول إدخالها دون علم حكومة البلد وعند ضبطها تقول إنها عبارة عن رواتب العسكريين والحكومة ووزارة الدفاع آخر من يعلم بذلك!
وتشير تقارير أخرى إلى أن الإمارات حاولت التدخل في انتخاب رئيس البرلمان الجديد خلفًا لمحمد شيخ عثمان جواري، لكن البرلمان سارع إلى حسم الموضوع سريعًا بانتخاب محمد مرسل شيخ عبد الرحمن وزير الدفاع السابق ليملأ المقعد الشاغر الذي خلفته استقالة جواري.
لذلك نعتقد أن محاولات أبوظبي لمناكفة الحكومة الفيدرالية ستستمر خصوصًا في الأقاليم المقربة من الإمارات وهي (بونت لاند وجلمدع وجوبالاند وهيرشبيلي وغربي الصومال)، هذا إلى جانب سعيها الحثيث لتعزيز علاقتها بجمهورية أرض الصومال المعلنة من جانب واحد، ولكن السيناريو الذي يثير مخاوف القيادة الصومالية هو احتمالية تورط أبوظبي في المسؤولية عن تزايد الأحداث الإرهابية وأعمال العنف التي وقعت في الصومال مؤخرًا في أعقاب الأزمة التي اندلعت بين الحكومة الصومالية ونظيرتها الإماراتية على خلفية الأحداث الأخيرة.
إذ قال لويس ترينيتينيان عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الفرنسي ومدير مركز “موندي ليبير” للدراسات السياسية والإستراتيجية بباريس إن هذه الأعمال التخريبية تعني أن الإمارات تخطط لإعادة الفوضى في الصومال كما كان الوضع قبل عام 2011، لفرض وجودها في البلاد كما فعلت من قبل عام 2014، موضحًا أن حكومة الصومال الفيدرالية قدمت للأمم المتحدة أدلة وبراهين دامغة على سعي أبوظبي لإحداث فوضى في الصومال.
وصلت الاستخبارات الصومالية بالتعاون مع أجهزة استخبارات غربية إلى أن السلاح الذي أدخل إلى البلاد خلال العام 2017/2018 وتم بيعه لعناصر مسلحة تابعة لجماعات إرهابية تنتشر في الولايات الجنوبية والشمالية تم تهريبة بمعرفة صوماليين تابعين لأبوظبي
وأوضح أن الأمر بلغ مبلغًا أقلق الحكومة الصومالية، حيث كشفت السلطات الأمنية أن أبوظبي التي كانت تدرب قوات تابعة للجيش على مكافحة القرصنة والجماعات الإرهابية، تدرب في الوقت نفسه بتدريب “مرتزقة” لاستخدامهم كلما استدعت الحاجة في إخضاع الحكومة الصومالية لسلطة سفارة الإمارات في مقديشو.
كما توصلت الاستخبارات الصومالية بالتعاون مع أجهزة استخبارات غربية إلى أن السلاح الذي أدخل إلى البلاد خلال العام 2017/2018 وتم بيعه لعناصر مسلحة تابعة لجماعات إرهابية تنتشر في الولايات الجنوبية والشمالية تم تهريبة بمعرفة صوماليين تابعين لأبوظبي وينفذون أجندات سياسية إماراتية في البلاد، وهو ما دفع الحكومة الفدرالية الصومالية لاتخاذ إجراءات حاسمة ضد الوجود العسكري الإماراتي في البلاد.
وبالنسبة لجيبوتي، ربما تتخذ الإمارات خطوات تصعيدية أخرى عقابًا على إلغاء امتياز موانئ دبي في محطة حاويات دوراليه عبر التلويح بسحب استثماراتها هناك بعدما أغلقت أبوظبي في وقت سابقٍ القنصلية الإماراتية في جيبوتي وأوقفت رحلات شركة فلاي دبي من وإلى جيبوتي التي يبدو أنها تستقوي بعلاقاتها مع دول الجوار كإثيوبيا والصومال.