يدخل التونسيون اليوم 5 من مايو/أيار طبقًا للتقاليد الانتخابية الجديدة يوم الصمت الانتخابي قبل التوجه غدًا إلى صناديق الاقتراع في انتخابات بلدية تعددية ديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلد، مع أصوات الدعاية الانتخابية التي ارتفعت منذ 20 يومًا كنا نسمع مديح الحالة التونسية أمام نظيراتها العربية، وذكّرنا الخائفون دومًا من الحروب بالحالة الليبية والسورية واليمنية.
ليس من باب الكفر بالنعمة أن نعلن رغبة في الحسم بالقوة مع المنظومة القديمة إذا كان الحسم ممكنًا سلميًا، ولكن من باب الغفلة أن نسلم بنجاح الحالة التونسية ونروج لعبقريتها الفذة ما لم نر ونسمع التنمية تتحول من ورق البرامج إلى الشارع، فتترجم تشغيلًا وإنتاجًا ثم ثروات متراكمة في مدن جديدة ذات هوية، حينها سنستمع إلى بعض المغرورين منا يتحدثون عن النمر الإفريقي أو عن يابان إفريقيا، أما والمنظومة القديمة تؤلف صفوفها وتفاوض من وقع قوة وتفوز بالصندوق وتبقي البلد حيث كان قبل الثورة بلد فاشل ودولة فاشلة، فنحن نؤجل الفرح رغم حضور العرس.
التفوق التونسي حالة دعائية
كانت منظومة إعلام بن علي تؤلف صورة دعائية لتونس تقوم على جملة من اللوحات المركبة من فشل بقية العرب المتخيل تونسيًا، مثل مكانة المرأة المتميزة في المجتمع ونسب النجاح الدراسي العالية في الجامعة ووجود مؤسسات مجتمع مدني قل نظيرها عربيًا، وكان معارضو بن علي يقعون في نفس الفخ الدعائي فيروجون نفس المفردات ويقدمون نفس اللوحات حتى ليتساءل المرء لماذا كانوا يعارضونه.
يوجد نوع من مواصلة الدعاية المغرورة بنجاح الحالة التونسية وتفوقها بناء على النص فقط
بعد الثورة تكشف الدعاية المحكمة عن نظام فاسد ومنظمات مدنية تعمل بطريقة العصابات المنظمة وبفشل تنموي قل نظيره عربيًا، فالمرأة التونسية ليست أرفع وعيًا بوضعها بل لا تزال ورقة انتخابية كما خطط لها بورقيبة، تُستدعى غلافًا انتخابيًا وتُزين بها القوائم، ونسب النجاح في الجامعة تكشفت عن خريجين عاجزين عن كتابة سيرهم الذاتية المهنية لولا النسخ المنمطة المتوفرة في العالم الافتراضي، ويغلف كل ذلك نسب تنمية قريبة من الصفر وفقر مستشر وإقصاء جهوي لا يخلو من عنصرية ما قبل الدولة.
هل نعلق أمل الخروج إلى التنمية على الانتخابات البلدية وقد حل أجلها بعد طول تأجيل وتردد؟
الإفراط في الأمل علاج نفسي لا تنمية حقيقية
على الورق كنت أحد المبشرين بقوة الباب الـ7 من الدستور الذي أسس للحكم المحلي لأول مرة، وكنت آمل أن يكون ذلك بابًا للتنمية الفعلية، من الحكمة تخفيض سقوف الأمل في ذلك لأن العمل السياسي حتى اللحظة ورغم سلامة النصوص القانونية لا يزال يجري بشروط المنظومة القديمة، ويجب أن يتوقف المرء عن بناء افتراضات تغيير كبيرة على نص قانوني جميل خاصة إذا كان يؤمن بأن تغيير المجتمعات لا يكون بنص أو بأمر كما يقول ميشال كروزيي عالم الاجتماع الفرنسي.
يوجد نوع من مواصلة الدعاية المغرورة بنجاح الحالة التونسية وتفوقها بناء على النص فقط، أما ما تابعناه من خطاب الدعاية الانتخابية سواء بالحضور المباشر أو بقراءة المنشورات أو بالاستماع إلى الخطابات المسجلة تليفزيونيًا فإن الطبقة السياسية العتيقة والنشطاء المتقدمين إلى الموعد الانتخابي (وهم نظريًا بذرات طبقة سياسية جديدة) لا يزالون يتبنون موقع التفكير الفوقي بالنص لا موقع المستمع إلى نبض الحاجة التنموية الشعبية.
حاولت تلخيص خطاب الدعاية الانتخابية لمدة أسبوع وجدت خلاصة واحدة أنهم يعملون على إصلاح الموجود وتحسين شكله لا تغييره
إبستميولوجيًا لا يزال التونسيون يفكرون طبقًا للنموذج البورقيبي (الحقيقة النماذج النابليونية الكولبرتية) أي تملك الإدارة وفرض الإرادة طبقًا لخيار فردي يعتقد فيها السياسي أنه قد وصل الحكمة وما عليه إلا جر العامة الأمية (الغبية نوعًا ما) إلى خيارته الحكيمة، وهذا تناقض صريح مع مقتضيات الباب الـ7 من الدستور الذي اعتقدنا أنه بوابة لكسر احتكار المركز(الزعيم القائد) للحكمة القيادية.
يوجد خلال الدعاية كلام كثير عن الحوكمة الرشيدة والقيادة التشاركية، ولكن بعد قراءة أولى متمعنة لمجلة الجامعات المحلية (نص تطبيقي للباب الـ7) كشفت أن السلطة المركزية المشرعة وضعت فيها من الفخاخ التطبيقية ما يجعلها غير قادرة على الاستجابة لروح الحكم التشاركي وذلك باسم الحفاظ على كيان الدولة من التفتت والتلاشي، لن نفرط في الأمل في هذه الطبقة السياسية ولكن ننتظر الزمن والآفات.
الزمن والآفات وشيء من داروين
بشيء من الداروينية الاجتماعية يمكن أن ننتظر ونرى الزمن يأتي على هذه الطبقة العاجزة دون الخيال التنموي المطلوب تونسيًا، تونس بلا خيال تنموي لأن السياسيين الظاهرين في المشهد فكروا دومًا أن حكمتهم تغنيهم عن قراءة إمكانات البلد الحقيقية، ولذلك ظلوا يدورون في فلك ضيق، إنهم يعيدون إنتاج المنظومة بشخصيات جديدة في الظاهر ولكنها من نفس الطبيعة في الجوهر.
ما المطلوب؟ وهل هذا خطاب مزايدة على طبقة عبقرية تعرف أن تقود ولكن الشعب يخذلها كما كان يقول الزعيم المؤسس؟
لدينا مدن وأحياء بنيت عندما كان عدد السكان مليوني ساكن ونحن الآن 12 مليون واستبدال مجاري المياه فيها يكلف بناء مدينة جديدة
عندما حاولت تلخيص خطاب الدعاية الانتخابية لمدة أسبوع وجدت خلاصة واحدة أنهم يعملون على إصلاح الموجود وتحسين شكله لا تغييره، أي أن نقطة مثل ترصيف حفر الطريق وتوسيع الإنارة العمومية أخذت حجمًا كبيرًا جدًا في كل الورقات الدعائية بينما لم يطرح أحد إنشاء مدن جديدة على قواعد العمران الحديث.
وفي حوار طويل مع أحد السياسيين الفرحين الجدد قال أنت تحلم ولديك أفكار مثالية وليس لك إمكانات مادية، هنا اختلفنا؛ أنا أتحدث عن المستقبل وهو يتحدث عن اللحظة وأي سياسة لا تطلق خيالًا بعيدًا فهي فاشلة، لم يكن منتظرًا ممن يؤهل نفسه لردم حفر الطريق أن يمد طريقًا جديدة.
لدينا مدن وأحياء بنيت عندما كان عدد السكان مليوني ساكن ونحن الآن 12 مليون واستبدال مجاري المياه فيها يكلف بناء مدينة جديدة، لدينا قرى نشأت وكبرت وصارت بلديات على نموذج واحد؛ شارع طويل عابر ومتاجر مفتوحة على الصدفة تتصيد العابرين بينما جسد المدينة الداخلي يشبه كل بناء فوضوي نشأ بعفوية الفقراء.
لدينا بناء بلا نموذج معماري فالكل يبني ليتخفى عن الأعين بحيث يفقد المعمار التونسي كل هوية معمارية ويؤدي فقط وظيفة المبيت المغلق.
سنراقب صدقهم في ردم حفر الطريق ولن يفلحوا فحتى هذه سيعجزون دونها وسيستعيضون عنها بخطاب تفوق الحالة التونسية على العرب المتحاربة
هذه المفردات التأسيسية المبنية على خيال واسع وطويل الأمد لم نجدها لسبب جلي هو أن المتحدثين لا يتخيلون إلا إصلاح حفر الطريق التي مدها لهم الزعيم.
سيتصرفون في الموجود ولن يتخيلوا المنشود لذلك سيرون في الانتخابات عرسًا كما كان بن علي يقول، ولن يفرحوا طويلًا فجزء كبير من البلديات ستظل بيد المنظومة القديمة تتصرف فيها طبقًا لنموذج بن علي الزبائني الفاسد لقد كان ذلك شرط المنظومة لإنجاز الانتخابات أن تأخذ منها القسط الأوفر وتتفضل على البقية ضمن توافقات أخوية.
هل نرمهم بالحجارة؟ الأمر لا يستحق، الزمن والآفات ستأتي عليهم لكن في الأثناء سنراقب صدقهم في ردم حفر الطريق ولن يفلحوا فحتى هذه سيعجزون دونها وسيستعيضون عنها بخطاب تفوق الحالة التونسية على العرب المتحاربة.