ليلة 14 من أبريل/نيسان الماضي طرأ تغيرٌ دولي على الساحة السورية، وضع كل اللاعبين الدوليين على مفترق طُرق، تمهيدًا لاستعدادهم اتخاذ قرارات حاسمة، قد تُفضي ربما إلى تموضع أخير إذا ما أرادوا الحفاظ على مصالحهم في سوريا، فبعد تجاوز نظام الأسد لكل الخطوط الدولية، استطاع أخيرًا عبر حلفائه الروس والإيرانيين استعادة ما يُقارب 80% من الجغرافيا السورية من أيدي المعارضة، وكان آخرها السيطرة على ما تبقى من مناطق المعارضة في شرق وجنوب العاصمة دمشق، معتمدًا استثمار سياسية الأرض المحروقة بسلاحه الكيماوي باتفاقيات إذلال وتهجير وتسوية ومصالحات لضعاف النفوس من أبناء بلده.
الضربة الثلاثية
منتصف أبريل/نيسان الماضي 2018 ، خرج المجتمع الدولي من ثباته، راميًا عباءة التجاهل على جنب، متأهبًا لمعاقبة نظام الأسد جراء استخدامه السلاح الكيماوي في مدينة دوما (المعقل الأخير والرمزي للمعارضة) تحت قيادة جيش الإسلام، استند المجتمع الدولي بتوجيه ضربته الثلاثية على رواية مفادها أن روسيا أخلّت بالتزاماتها مع واشنطن بعد صفقة 2013 التي اقتضت حينها نزع كامل منظومة السلاح الكيماوي من قبضة الأسد، وعليه حركت أمريكا أذرعها البريطانية الفرنسية وأنشأت حلفًا ثلاثيًا متخصصًا بتنفيذ سياسية العقاب والردع للأنظمة التي تستخدم أسلحة محرمة ضد شعوبها، في الإشارة للتغاطي عن استخدامها الأسلحة التقليدية (براميل متفجرة وصورايخ ودبابات وأسحلة عنقودية) وهو ما يُوحي للقارئ مدى السقوط الأخلاقي للدول التي تدعي أن مهمتها إحياء الأمن والسلام الدوليين في مناطق الصراعات.
اللافت أن إيران المتضررة الأكثر من الضربة، اكتفت بالتصريح أن الرد سيكون في عمق مناطق النفوذ الإسرائيلي، في الإشارة إلى تكريس وجودها المذهبي على طول الشريط الحدودي مع لبنان وسوريا والأردن
وبغض النظرعن الأهداف الحقيقية للضربة الثلاثية، فقد حققت الضربة أهدافها المعلنة حسب تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في صباح اليوم التالي 15 من أبريل/نيسان، حيث قال: “الضربة حققت مضمونها في تدمير الكيماوي لنظام الأسد”، متوعدًا إياه بتنفيذ ضربات مُماثلة حيال تجرئه على استخدام هذا السلاح، وعلى أرض الواقع استهدفت الضربات الثلاثية مركز البحوث العلمية جنوب العاصمة دمشق، بالإضافة إلى عدد من القواعد العسكرية الإيرانية المنتشرة في محيط العاصمة دمشق، ولاقت الضربة ردود فعل دولية، على رأسها روسيا التي اكتفت برد لفظي مفاده نسف جهود العملية السياسية في سوريا، في حين اعتبر نظام الأسد أن ما جرى ليلة 14 من أبريل/نيسان، هو عدوان ثلاثي على سوريا استهدف عمق السيادة السورية.
اللافت أن إيران المتضررة الأكثر من الضربة، اكتفت بالتصريح أن الرد سيكون في عمق مناطق النفوذ الإسرائيلي، في الإشارة إلى تكريس وجودها المذهبي على طول الشريط الحدودي مع لبنان وسوريا والأردن، وجعلها قاعدة انطلاق وتماس مباشرة مع مناطق الحدود الإسرائيلية السورية في مرتفعات الجولان والقنيطرة.
ما وراء الضربة الثلاثية
في قراءة ما بين السطور، بدا واضحًا أن أمريكا اتخذت من السلاح الكيماوي ذريعة كمدخل قوي يُتيح لها تمرير رسائل دولية في الوقت والزمان المناسبين، وقد تختلف مضمون الرسائل هذه المرة عن المرات السابقة، لا سيما في أواخر 2017 بعد استهدافها مطارالشعيرات بصواريخ التوماهوك أمريكية الصنع، حينها كان الهدف داخليًا أكثر مما هو عليه اليوم خارجيًا باستخدام لغة صارمة تستهدف روسيا وإيران، اللتان تعربدان في جغرافية سوريا وتسعيان للحفاظ على مصالحهما خارج نطاق المعاهدات الدولية.
ومن جملة الرسائل الأمريكية، قرار فرض الوجود الأمريكي أمام النظير الروسي، وعدم السماح لبوتين باستثمار نتائج حملته العسكرية على نحو سياسي وفق مساري آستانة وسوتشي، فمن المعلوم أن روسيا وبعد إعلانها خطاب النصر في قاعدة حميمم على تنظيم الدولة، سارعت في شرعنة مسار سوتشي، وأنتجت مسرحية نهاية الحرب، وبعد إعلان الفشل الذريع، اتضح فيما بعد أنها محاولة تشويش على مسار جنيف ليس إلا.
يمكن القول إن المهمة المُوكلة لإيران انتهت في سوريا، فالأهداف الإسرائيلية تم تحقيقها في القضاء على الثورة
حملت الضربة الثلاثية رسالة صريحة أمريكية لبوتين مفادها أن “إسرائيل” التي سمحت له ولإيران باستباحة سوريا، لن تسمح لإيران بتجاوز الخطوط المرسومة لها مسبقًا، ولعّل هذه الرسالة تُعيدنا إلى اتفاق الجنوب الذي وقع بحضور دولي في عمّان أواخر 2017، فإيران لم تلتزم ببنود الاتفاق بانسحابها عن مناطق الحدودية الإسرائيلية السورية بمسافة قيل إنها تُقدر بـ40 كيلومترًا.
بل على العكس عززت إيران من طريقها البري الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، وأسست لواء 113 في جنوب دمشق من مرتزقة ومليشيات مختلفة، محاولةً بذلك تأسيس حزب الله السوري، وسيطرت على مناطق عسكرية للنظام في جنوب ومحيط العاصمة دمشق، وجعلت منها مصنعًا للصورايخ المتطورة وآخر للدبابات، وعملت على توسعة مقام السيدة زينب، وفي داريا لمقام سكينة، وفي ريف حلب امتدت مذهبيًا في حملات التشيع مستهدفةً الأطفال، واستولت على قاعدة جبل عزان الإستراتيجية، وهي قاعدة عسكرية إيرانية لإطلاق الصواريخ بقيادة الحرس الثوري الإيراني.
اللافت في الأمر أن كل هذا التمدد الإيراني لم يكن سرًا، بل حدث أمام العيون الأمريكية الإسرائيلية، وقد يعترضنا تساؤل إذا كانت إيران قد وصلت للحدود الإسرائيلية السورية بعلم وموافقة إسرائيلية، لماذا إذًا “إسرائيل” اليوم تدق طبول الحرب على إيران، أليس من الأولى لها أن لا تدعها حرةً طليقة، وتدعم فصائل المعارضة السورية لطرد كل المليشيات الإيرانية من سوريا؟ وهل فعلًا إيران التي رفعت شعارت العداء لأمريكا قادرة اليوم على الرد داخل العمق الاسرائيلي انطلاقًا من سوريا؟
بكل بساطة يمكن القول إن المهمة المُوكلة لإيران انتهت في سوريا، فالأهداف الإسرائيلية تم تحقيقها في القضاء على الثورة وفرط عقد التكتل السني، إضافةً إلى تفكيك الدولة السورية، أرضًا وشعبًا وجيشًا، وهي الأهداف التي تمت صياغتها في غرف صناع القرار الأمريكي الإسرائيلي بعد نهاية نظام صدام حسين وتسليم العراق لإيران.
لكن المهمة الإيرانية في سوريا مختلفة كل الاختلاف عنها في العراق، “فإسرائيل” التي أسقطت صدام حسين بتهمة امتلاكه أسلحة دمار شامل، هي نفسها من رعت وحمت نظام الأسد المواظب على استخدام السلاح الكيماوي في إبادة شعبه، إذًا الهدف إسقاط كل من يعادي النظام وهو الهدف ذاته الذي صرحت به بريطانيا وواشنطن بعد توجيه الضربة العسكرية، بالقول إن الضربة لا تهدف إسقاط نظام بشارالأسد أو حتى إزاحته عن السلطة.
تكرار الضربات الإسرائيلية لإيران في سوريا، قُوبلت حتى اليوم بتصريحات إيرانية للاستهلاك الإعلامي
ومن مجمل الرسائل الثلاثية، رسالة أخلاقية مفادها تلميع دورالأمم المتحدة والمجتمع الدولي، عن الصمت المستدام حيال إبادة النظام للغوطة الشرقية بعد استخدمه الكيماوي وتهجيره لآلاف السكان وسرقة ممتلكاتهم سواء بقانون الرقم 10 وغيره.
ثّمة رسالة أخرى وقد تكون الأهم في مجمل الرسائل، هي ترتيب المنطقة السورية على أساس فض الاشتباك والمصالح بين الدول المتحالفة في سوريا.
احتواء إيران
إن تكرار الضربات الإسرائيلية لإيران في سوريا قُوبلت حتى اليوم بتصريحات إيرانية للاستهلاك الإعلامي، فبعد الضربة الثلاثية، استقبلت إيران ضربة عسكرية هي الأعنف حسب المرصد السوري، إذ تعرضت قواعد عسكرية ليلة الأحد 18 من أبريل/نيسان، في جنوب حماة وريف حلب لضربات بـ”صواريخ معادية” وفق ما أعلنته وكالة “سانا” من دون أن تحدد هوية الجهة التي أطلقتها.
ورجح المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تكون “إسرائيل” المسؤولة عن إطلاقها، لافتًا إلى أن القواعد المستهدفة تتمركز فيها قوات إيرانية وفيها مستودعات أسلحة صاروخية، وتسببت هذه الضربات في مقتل 26 مسلحًا مواليًا لدمشق، غالبيتهم من الإيرانيين.
الرد من محورالممانعة كان لفظيًا، فبشار الأسد اعتبر أن تكرار الضربات هدفه النيل من سيادته الوطنية، معتبرًا أن الأطراف المعادية تستخدم سياسية العدوان المباشر لتمزيق وتقسيم سوريا، في حين لم نسمع أي صدى لرئيس حزب الله في لبنان حسن نصر الله، ولعل السبب اهتمامه بتحصين البيت الداخلي بعد النبرات المرتفعة عن انتقال شرارة الحرب الإسرائيلية إلى لبنان.
“إسرائيل” هي الأخرى لا ترغب في مواجهة مباشرة مع إيران، لأن ذلك سيقودها إلى عودتها لنقطة الصفر في ترويج نظرية اقتسام العداء العربي مع إيران
أما إيران فهي تعيش اليوم حالة تخبط داخل وخارج إيران، فبعد العجز الاقتصادي المفضوح وتردي الوضع الداخلي، لم تعد إيران قادرة على المواجهة المباشرة مع “إسرائيل”، ولعلها تترقب موعد حسم أمريكا قرارها من الاتفاق النووي في “الـ12 من مايو/أيار”، وسنشهد حينها لحظة حاسمة في المعادلة الدولية الكبرى، فإذا ما قرر ترامب الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي، فهذا يعني أن إيران حُوصرت غربيًا وأوربيًا، ولن يبقى لها إلا خيارين أحلاهما مر، إما قبولها بسياسية الاحتواء الإسرائيلي، من خلال تطبيقها الحرفي الابتعاد عن مناطق الجولان والقنيطرة والجنوب السوري، أو الخيار الثاني انتقال الحرب للداخل الإيراني.
من جهة أخرى “إسرائيل” هي الأخرى لا ترغب بمواجهة مباشرة مع إيران، لأن ذلك سيقودها إلى عودتها لنقطة الصفر في ترويج نظرية اقتسام العداء العربي مع إيران.
ما يجري إذًا هو إفهام إيران وإجبارها وإخضاعها قبل الانتقال إلى تهيئة الظروف والمناخ الدوليين، لإنتاج تسوية شاملة في سوريا، فلو تطرقنا بشكل بانورامي للمشهد السوري، فإنّ سوريا أصبحت جاهزة لشرعنة مناطق نفوذ الدول، فبعد طي ملف الغوطة وتهجيرأبناء ريفي حمص وحماه الشمالي، أصبح الطريق مفتوحًا أمام إنهاء كل الجيوب المتبقية في مناطق البادية السورية وريفي حلب ودير الزور.
غياب الاستقرار في سوريا
إذا ما صح القول إن كل الأطراف الدولية المتحاربة في سوريا غير راغبة في خوض حروب مباشرة، هذا يعني أن الدول ذاتها ماضية في رسم المنطقة من جديد عبر سياسية فض الاشتباك وتحديد المصالح، فبعد القضاء على سيادة الدولة السورية ونهب خيراتها وثرواتها، لم يبق إلا إنتاج التفاهم الدولي، وهوالأمر الذي سيحدد طبيعة سوريا الجديدة، لكن الحديث عن اقتسام سوريا لمناطق نفوذ بين تركيا وروسيا و”إسرائيل” وأمريكا وإيران، يتطلب منطقيًا تفاهمًا شاملاً، وإنتاج هذا التفاهم يقع عاتقه على أمريكا أولًا في إرضاء تركيا كليًا وإزالة كل المخاوف التركية من المنظمات الكردية.
مصير سوريا ما زال مجهولًا، أمام الاستعصاء الدولي والعجز عن كسب المصالح دون توفير البدائل
ومن طرف آخر قبول روسيا كقوة كبرى تضمن لها مصالحها في سوريا وعلى رأسهم قاعدتي طرطوس وحميميم، وهو الأمرالذي لم تقبل به بعد، فعلى الرغم من كل الوعود الأمريكية لتركيا، لا تزال تدعم منظمات كردية مصنفة إرهابية، ولكي تتهرب واشنطن من حشرها بالزاوية أدخلت مؤخرًا حليفتها فرنسا على الخط التي أرسلت قوات فرنسية تمركزت في مناطق الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا، مما يعني تعقيد الموضوع أكثر مما هو معقد.
أما روسيا فغالبًا تعمل تحت عباءة “إسرائيل”، وكل الحديث عن خلاف روسي أمريكي واحتمال خوض حرب مباشرة أو باردة فهي عارية عن الصحة، لأن روسيا تنفذ ما يُوكل لها إسرائيليًا، وهي تساوم وتفاوض الأمريكان من بوابة سوريا على عدد من الملفات، أهمها الدرع الصاروخي وجزيرة القرم وبعض الملفات الأخرى المتعلقة بالاقتصاد.
وإثباتًا لذلك، فقد رأينا روسيا غضت الطرف عن كل الضربات الإسرائيلية لنظام الأسد وإيران، ولم تفعل منظومتا الدفاع إس 300 وإس 400، ما يعني أن روسيا راغبة بتحجيم إيران والخلاص من عبء ثقيل عليها يُزاحمها في سوريا، ولو كان ذلك بشكل غير مباشر، لكن حالة التوتر والعداء الروسي الإيراني ستنفجر كليًا عما قريب في سوريا.
وعليه يمكن القول إن مصير سوريا ما زال مجهولًا، أمام الاستعصاء الدولي والعجز عن كسب المصالح دون توفير البدائل، وستبقى سوريا مرهونة للتفاهمات والتوازنات الدولية، حتى ينتهي الجميع من سياسية فض الاشتباك الدولي وتحديد المصالح، لكن الثابت في الموضوع لا وجود لأي مواجهة مباشرة إسرائيلية إيرانية في سوريا ولا أمريكية روسية.