تحولت مناطق المعارضة في ظل الثورة السورية بالسنوات الأخيرة لحلقات تهجير قسري من قوات النظام يستهدف بها معارضيه، كانت تلك المناطق منبتًا للحراك الثوري الذي ينهض كل محافظة عن أخرى، ومع تقلبات مجريات الأحداث خضعت تلك المناطق لحصار شديد استمر لسنوات عدة، فعملت جهات موالية للنظام أو داعمة له من تصغير وتضييق الخناق على المعارضة المسلحة، ضمن اتفاقيات سابقة لبقاء نظام الأسد في حكمه، هي سياسات انتهجها النظام لمحاربة معارضيه أو القضاء عليهم بالقول الصحيح.
هذه السياسة لم تكن عمياء، فقد كان لها دور فاعل في إفراغ قوة المعارضة المسلحة، والضغط عليها للخضوع للقرارات كافة، فيما كان يعاني الأهالي في تلك المناطق في ظل الحصار المفروض عليهم من نقص في الأدوية والطعام والشراب وحتى المشافي، رغم كل هذا الحصار المطبق كانت تتعرض تلك المناطق لحملات قصف جوي ومدفعي يطال كل المنازل دون استثناء، وحتى المدارس التعليمية، وكان للمساجد نصيب كبير من القصف، فكانت طائرات النظام لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا، ولا تفرق بإرهابها بين مدني وعسكري، كلهم نالوا من القصف، حتى الجائع والمريض ذاق الويلات.
نتحدث هنا عن أولى عمليات ما أطلق عليها “التسوية” من النظام، وهي ذات طابع تهجيري وليس تسوية كما يظهرها النظام، فقد خضعت كل المدن والبلدات السورية لهذا المصطلح الذي يمكن تضمينه بشكل أعم بـ”التهجير القسري”، وعلى طول امتداد الأراضي السورية كان لكلمة “تسوية” التي تلازم كلمة “تهجير” وجع وخوف لدى أهالي المناطق فإن بقوا نال منهم النظام وآلته الإجرامية، وإن خرجوا ذاقوا آلام النزوح ومعاناته، في كلا الحالتين أوجاع تساوي أخرى.
كانت حمص فاتحة التهجير في الأراضي السورية
وكما ورد في أغلب بنود الاتفاقات التي جرت بين المعارضة وقوات النظام كلمة التسوية للذين سيبقون في منازلهم، في أغلب الأحيان يكون لهم يد متعاونة مع النظام أو تواصل قريب في مؤسساته الفاشية، يمكن لهم الخضوع للتسوية من أجل تسوية وضعهم والعودة لحضن الوطن، فالكثير من الأشخاص وبعضهم قياديين عادوا لحضن الوطن يتكيفوا تحت ظل النظام، وما تبقى من الذين هجروا كانوا معارضين له وما زالوا هنا لا رحمة لهم من النظام، فهو يريد منهم الخروج وعدم العودة أبدًا، وأهلًا وسهلًا بالذين بقوا طالما كانوا مؤيدين له، فبدأت أولى خطوات التهجير من مدينة حمص السورية.
تهجير أهالي حمص القديمة
بعدما خضعت أحياء حمص القديمة لحصار خانق، وكذلك بعد فشل النظام بالسيطرة على المدينة، لجأ النظام إلى سياسة التهجير القسري، وكانت حمص هي فاتحة التهجير في الأراضي السورية التي صمدت في الحصار لعامين، عانى فيها السكان مع الثوار من الجوع، نتيجة الحصار المحكم.
ونصت بنود عملية إخلاء الأحياء الحمصية القديمة في الخامس من مايو/أيار 2014، حيث أبرمت أول اتفاقية لخروج الثوار من المدينة القديمة، فيما عرف بـ”هدنة حمص” التي خرج على إثرها جميع الثوار مع أهاليهم، وسكان المناطق القديمة كـ”بابا عمرو والبياضة والخالدية” مقابل تسليم “الجبهة الإسلامية” ضابطًا روسيًا مأسورًا لديها في ريف محافظة اللاذقية، وامرأة إيرانية تم أسرها على معبر “باب السلامة” الحدودي مع تركيا، بالإضافة إلى 20 مقاتلًا إيرانيًا تم أسرهم من المعارضة في معارك مع قوات النظام.
تهجير أهالي الزبداني ومضايا
انطلقت عمليات التهجير من جديد لتدق باب منطقة الزبداني، ففي مفاوضات أغسطس/آب 2015 بين وفد إيراني وحركة أحرار الشام بالنيابة عن جيش الفتح، طالب الإيرانيون بمبادلة السكان الشيعة في كفريا والفوعة الواقعتين في إدلب بسكان الزبداني الواقعة في ريف دمشق وبشكل متعاكس، وهو ما رفضته المعارضة وأدى إلى انهيار تلك المفاوضات.
بدأ في 13 من أبريل عام 2017 تنفيذ اتفاق سمي باتفاق “المدن الأربعة” الذي جرى بين أهالي الزبداني ومضايا من جهة ووفد إيراني من جهة أخرى يقضي بتهجير أهالي مضايا والزبداني إلى إدلب مقابل خروج أهالي بلدتي كفريا والفوعة
كما قام حزب الله اللبناني بتنفيذ طائفي ممنهج للسكان بمنطقة الزبداني المحاذية للحدود مع لبنان، حيث أجبر الحزب أكثر من 50 عائلة على مغادرة منازلهم بمنطقة العقبة، نحو بلدة مضايا، ثم نهب مقاتلو الحزب المنازل وأحرقوها، وأجبرت ميلشيات الحزب نحو 250 عائلة على مغادرة منازلهم خلال عامين، كما أجبروا قرابة 50 ألف مدني على النزوح من الزبداني، كما حول الحزب عددًا من المساجد في المنطقة إلى “حسينيات شيعية”.
فيما بدأ في 13 من أبريل عام 2017 تنفيذ اتفاق سمي باتفاق “المدن الأربعة” الذي جرى بين أهالي الزبداني ومضايا من جهة ووفد إيراني من جهة أخرى ويقضي بتهجير أهالي مضايا والزبداني إلى إدلب مقابل خروج أهالي بلدتي كفريا والفوعة اللتين يعيش فيهما مقاتلون من الميليشيات الشيعية وعائلاتهم، ويدينون بالولاء المطلق لإيران، وتفرض قوات المعارضة طوقًا عليهم منذ العام 2015، لكن النظام كان يوصل لهم المساعدات والسلاح عبر الجو بشكل دائم، بعكس الزبداني ومضايا ومنطقة جنوب دمشق التي فرض عليها النظام حصارًا مطبقًا أدى إلى وفاة عدد من المدنيين جوعًا أو بسبب غياب الرعاية الطبية، وكان هذا الاتفاق أشبه بتغيير ديموغرافي تكمن فيه خطورة التطهير العرقي.
تهجير مدينتي داريا والمعضمية
سارت مدينة داريا على نفس الركب وحوصرت لمدة أربع سنوات لتتحول المدينة التي كانت تضم 250 ألف نسمة قبل الثورة إلى مدينة فارغة من سكانها وخاوية على عروشها، فيما بقيت مدينة داريا محاصرة ومحرومة من قوافل المساعدات الطبية والغذائية، حتى دخلتها القافلة الأولى من المساعدات في 10 من يونيو/حزيران 2016، وكانت شروط النظام بعد قصف عنيف وبشكل متواصل استخدم فيه كل أنواع الأسلحة، إما إخلاء المدينة بشكل كامل وتام أو إفنائها وإبادة من بقي فيها بالقذائف والحمم، ولم يكن أمام المحاصرين المنهكين في ظل الصمت الدولي إلا القبول بشروط النظام القاسية والرضوخ لها، وتم استقدام 300 عائلة شيعية عراقية للاستيطان في داريا بعد تهجير ساكنيها إلى إدلب في الشمال السوري.
لعبت مدينة حلب دورًا مهمًا في الثورة السورية وكانت المركز الأول للمعارضة المسلحة من حيث مكان اتساع رقعة المحرر آنذاك
وفي ظل سنوات من الحصار القاتل وعمليات القصف المستمر دخلت معضمية الشام في ريف دمشق الغربي في مسار التهجير والتغيير الديموغرافي ليكتمل بالتهجير ما بدأه النظام باستهداف الحياة حصارًا وقصفًا مدفعيًا وجويًا، وفي يوم 19-10-2016 تم إخراج مئات المقاتلين من المعارضة مع عائلاتهم نحو محافظة إدلب في الشمال السوري، كما ختمت عمليات تهجير النظام حول دمشق نهاية نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2017 في كل من مخيم خان الشيح ومدينة التل على التوالي حيث غادر الآلاف من المقاتلين وعائلاتهم إلى ريف إدلب.
حلب.. تحرير وحصار وتهجير
لعبت مدينة حلب دورًا مهمًا في الثورة السورية وكانت المركز الأول للمعارضة المسلحة من حيث مكان اتساع رقعة المحرر آنذاك، وعمل النظام السوري بآلته الإجرامية على تدمير المدينة بشكل كامل، فتعرضت خلال أربع سنوات من التحرير لقصف عنيف دمر المراكز الحيوية والمنازل السكنية.
استماتت قوات النظام للسيطرة على المدينة وكذلك حلفاؤه الإيرانيين وميليشياته، حوصرت المدينة لعدة مرات متتالية كان آخرها نهاية عام 2016، حيث خرج آخر أهالي مدينة حلب الشرقية مهجرين يبيتون بالعراء في ريف إدلب وريفي حلب الشمالي والغربي.
لم تستطع المعارضة آنذاك فك الحصار عن المناطق المحررة، رغم تشكيل مجالس مدنية وعسكرية كانت أولى لها بضبط ما فشلوا به في السنوات الأولى من الثورة، وكان من أسباب خسارة المدينة الانقسام الذي بدا بشكل فعلي بين فصائل المعارضة وبداية الاقتتال الفصائلي.
شهدت أحياء الغوطة الشرقية تهجيرًا قسريًا بعد سنوات عديدة من الصمود طال القصف فيها المدنيين والعسكريين ومنازلهم
تهجير منطقة وادي بردى
تهجير أهالي وادي بردى من قوات النظام بعد تصعيد كبير نال المنطقة، حيث قصف نبع الفيجة النبع الوحيد المغذي للمياه لمدينة دمشق، واتهم النظام المعارضة بتدميره، ونجح النظام في فرض سياسة التهجير بعد قرابة الأربعين يومًا من سياسة “الأرض المحروقة” متمثلة بالقصف المتواصل بكل أنواع الأسلحة لا سيما بالبراميل المتفجرة التي أحدثت دمارًا كبيرًا في منازل المدنيين، فضلاً عن القصف بآلاف الصواريخ وقذائف المدفعية والهاون.
كما رافق قصف النظام حصار مطبق، وفقدان كافة مصادر الموارد الغذائية والطبية والمحروقات والطاقة، وصعوبة الحصول على المياه وتعقيمها، الأمر الذي وضع أهالي وادي بردى في مأساة إنسانية في ظل انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت؛ مما جعل وادي بردى مغيّبًا عن الإعلام، أجبر آنذاك أهالي المنطقة للرضوخ إلى شروط النظام والتهجير إلى إدلب شمال سوريا مطلع 2017.
تهجير أهالي حي الوعر الحمصي
الحي الأخير من أحياء حمص المدينة أسبق لسياسة التهجير بعد حصار شديد ارتكبه النظام بحق المدنيين في الحي، كما تم تهجير بعض الأحياء القديمة إلى الحي نفسه قبل ثلاثة أعوام من هذا التهجير، بعد معاناة شديدة خضع لها الحي تم تهجير قاطنيه إلى إدلب وجزء منهم إلى ريف حلب الشمالي.
بعد سلسلة من التهجير التي خضعت لها عدة مناطق في دمشق كان قد اتجه النظام نحو ريف دمشق الجنوبي لاستهدافه بشكل يومي وتضييق الحصار على سكان مناطق هناك
الغوطة الشرقية نهاية تهجير بعد حصار لخمس سنوات
شهدت أحياء الغوطة الشرقية تهجيرًا قسريًا بعد سنوات عديدة من الصمود طال القصف فيها المدنيين والعسكريين ومنازلهم، إضافة إلى المساجد والمدارس والمراكز الطبية والخدمية، واستخدم النظام وحليفه الروسي جميع أسلحتهم الفتاكة حتى إنه قصف الغوطة بالمواد الكيماوية أكثر من مرة، فقد طالت موجات التهجير أحياء الغوطة واحدًا تلو الآخر.
حيث نقل أهالي أحياء الغوطة الشرقية في كل من جوبر وزملكا، إلى ريف إدلب الشمالي فيما بقيت مدينة دوما صامدة في وجه النظام السوري إلى أيام حتى استخدم النظام السوري فيها المواد الكيماوية أجبر من خلالها المعارضة على الخروج من المنطقة في رحلة التهجير إلى مناطق درع الفرات شمال حلب.
تهجير القلمون الشرقي
مثل كل المناطق التي خضعت للتهجير القسري كان للقلمون الشرقي نصيب من التهجير، فقد خضع أهالي بلدات القلمون الشرقي لمفاوضات مع روسيا لإخلاء المنطقة وتسليم الأسلحة والذخائر للنظام السوري، ضمن بنود وضعتها روسيا والنظام بعدما طال القصف العنيف وإطباق الحصار من قوات النظام، أجبرت الفصائل للرضوخ إلى التهجير القسري، وقد توجهت قوافل المهجرين إلى منطقة درع الفرات ثم انتقلت إلى مخيمات بنيت في مناطق عفرين التي حررها الجيش السوري الحر ضمن معركة غصن الزيتون المدعومة تركيًا.
تهجير جنوب دمشق
بعد سلسلة من التهجير التي خضعت لها عدة مناطق في دمشق كان قد اتجه النظام نحو ريف دمشق الجنوبي لاستهدافه بشكل يومي وتضييق الحصار على سكان مناطق هناك، وقد أبرم النظام اتفاقية مع المعارضة في جنوب دمشق في كل من بلدة يلدا وببيلا يقضي بخروج قوات المعارضة إلى ريف حلب الشمالي، وقد بدأت الاتفاقية تتطبق، كما عقدت هيئة تحرير الشام اتفاقية مع قوات النظام لخروج مقاتليها من مخيم اليرموك في الجنوب الدمشقي مقابل أهالي كفريا والفوعة فيما بقيت عدة أحياء تحت سيطرة تنظيم داعش.
يعد التهجير القسري من أسوأ الأساليب التي انتهجها النظام السوري بغطاء أممي لتغيير ديمغرافي، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة حسينيات ولطميات في محافظة دمشق وحلب وغيرها
التهجير القسري يعود لحمص.. فهل سينتهي هنا؟
عاد التهجير القسري إلى حمص من جديد بعدما بدأ من أحياء حمص المدينة فيما تتوارد الشكوك هل سينتهي هنا؟ بعد العديد من الاتفاقات بين المعارضة وروسيا وفشلها بسبب بنود وضعتها روسيا لإذلال المعارضة، عادت تسري المفاوضات من جديد حتى انتهت بالتهجير القسري في كل من الحولة والرستن، وبعض من ريف حماة إلى الشمال السوري.
وقد نالت هذه المفاوضات غضبًا من الشارع الحمصي بعد توقفها ورفضها من فصائل المعارضة لمرات عديدة، وقد بدأت أولى بنود الاتفاقية بتسليم السلاح إلى الجانب الروسي، كما يقضي الاتفاق بوقف إطلاق النار ويسمح للمقاتلين بالخروج مع سلاحهم الشخصي أو البارودة.
ويعد التهجير القسري من أسوأ الأساليب التي انتهجها النظام السوري بغطاء أممي لتغيير ديمغرافي، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة حسينيات ولطميات في محافظة دمشق، وحلب وغيرها، وهنا تكون المناطق موزعة على أساس طائفي وعرقي، وهذا التهجير إلى أين سيصل؟ فقد نال من المناطق السورية كافة، وهل ستكون النهاية من البداية؟