أثار الأكاديمي السعودي خالد الدخيل جدلًا واسعًا عندما كتب مقالًا قبل نحو 10 سنوات لصحيفة “الحياة” تحت عنوان “انقضى زمن مركزية الدور المصري!“، قال فيه إنّ مصر فقدت الريادة في مجالات السياسة والثقافة والفن التي تمتعت بها في العهد الملكي، وامتدت إلى عهد عبد الناصر وبداية عهد السادات، موضحًا أنه بعد الطفرة النفطية ظهرت القوة المالية للسعودية ودول الخليج العربي، وما ترتب عليها من نمو في مجالات الاقتصاد والتعليم، وثورة في بنيتها التحتية، وبالتوازي مع ذلك برزت القوة السياسية للعراق وسوريا، بحسب الكاتب.
تسببت تلك المقالة التي نشرتها صحيفة “الحياة” المملوكة للسعودية في ردود فعل واسعة خاصة في الإعلام المصري، لكنّ الدخيل استمرّ في كتاباته المنتقدة للمواقف المصرية منذ العدوان الإسرائيلي عام 2014 على غزة، فكتب آنذاك معربًا عن أسفه “لأن المصريين يتعاملون من موقف كراهيتهم لحماس”، ورأى أن ذلك لا يمكن قبوله في إدارة العلاقات الخارجية.
وأضاف: “انحدر الدور المصري إلى مجرد وسيط، وهو دور لا يليق بمصر، كان الأصل أن تطور القاهرة استراتيجية تجمع فيها السلطة والفصائل الفلسطينية”، كما قال في مقابلة مع “قدس برس“: “يمكن لمصر أن تقوم بدور لوقف العدوان على غزة لكن هذا يفترض منها أن تعترف بحماس وتترك معيار الكراهية جانبًا، الإخوان في مصر انتهى عصرهم، وهناك قضية أكبر هي القضية الفلسطينية”.
كانت مصر تمثل القوة العربية الكبرى في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ كان الرئيس جمال عبد الناصر – رغم ديكتاتوريته ومساوئه – يلهب حماس العرب بتحديه لقوى الاستعمار وعدائه الصريح لـ”إسرائيل” وحديثه عن القومية العربية والاشتراكية.
ورغم أن الأكاديمي السعودي خالد الدخيل ظلّ يتحدث في كتاباته ومقالاته، عن انحسار الدور المصري منذ عهد السادات وتوقيع الأخير على معاهدة كامب ديفيد، فإن التراجع الأكبر من نوعه لمكانة مصر على صعيد السياسة الخارجية بدأ في 2013، العام الذي شهد انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس الراحل محمد مرسي، فعلى النقيض من مواقف الأخير، تحولت مصر في عهد النظام العسكري إلى التآمر على القضية الفلسطينية والتبعية المطلقة لـ”إسرائيل”.
سنة فاصلة
كان وصول السيسي إلى سدة الحكم في مصر هو الهدية الأكبر لأمن “إسرائيل”، ففي عام 2015، صنّفت مصر رسميًا حركة حماس جماعة إرهابية، وهو ما تراجعت عنه لاحقًا تحت وقع الضغوط، إلا أنّ النظام العسكري بقيادة السيسي أغلق معبر رفح بشكل شبه كلي وتبع ذلك بحرب شاملة على الأنفاق الحدودية بين غزة ومصر، ثم أخلى الشريط الحدودي بين مصر و”إسرائيل” وحوله إلى منطقة عازلة بعد تهجير السكان بناءً على طلب الكيان المحتل.
كما سلّطت وسائل الإعلام المصرية المرتبطة بالنظام آنذاك الضوء على مزاعم ارتباط جماعة الإخوان المسلمين المصرية بحركة حماس، مروجةً لمجموعة واسعة من نظريات المؤامرة مثل مشاركة عناصر من حركة حماس في تنظيم عمليات اقتحام السجون المصرية، وإطلاق النار على المتظاهرين في ميدان التحرير، والتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين لإنشاء ميليشيات مسلحة، وتدبير عمليات إرهابية، وقتل الجنود المصريين في سيناء.
كما يأتي تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، أشبه بالكنز الاستراتيجي الذي حصل عليه الاحتلال، ذلك أن ملكية السعودية لتيران وصنافير تجعل من خليج تيران ممرًا بحريًا دوليًا، يحق لسفن “إسرائيل” المرور منه دون أي عوائق.
يعد ملف سد النهضة كذلك أبرز الأدلة على انكفاء القاهرة وتراجع مكانتها الدولية، باعتبار أن حصة مصر من مياه النيل تشكل إحدى أولويات الأمن القومي للبلد العربي الأكبر في عدد السكان، حيث فشل السيسي في الضغط على إثيوبيا لتوقيع اتفاق قانوني قبل تشغيل السد، ونجحت أديس أبابا في إكمال بنائه وملء خزانه على عدة مراحل غير آبهة بالتهديدات الجوفاء التي كان يطلقها عسكر مصر.
وما كانت تقوم به مصر من أدوار إقليمية حصرية كالوساطة في الملف الفلسطيني، انتقل إلى قطر بسبب استعداء مصر السافر لحركة حماس، كذلك استحوذت قطر على مكانة القاهرة الإعلامية منذ إنشائها شبكة الجزيرة، كما بزغ نجم المملكة العربية السعودية مؤخرًا في مجال الفن والسينما بعد دخولها ومنافستها لمصر في الإنتاج الفني والسينمائي.
حرب السودان
مؤخرًا تزايدت الانتقادات لتقزم وانكفاء الدور المصري في أعقاب اندلاع الحرب في السودان، البلد الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي المصري كونه يشكل حدود مصر الجنوبية (تبلغ الحدود بينهما نحو 1200 مليون متر مربع).
ما يجري بالسودان من تدهور شامل وشروخ في بنائه السياسي والمجتمعي والعسكري ومواجهات دموية يطرح مخافة جدية علي مستقبل السودان واستقلاله ووحدته وسلامة اراضيه وأمان شعبه ، ويهدد استقرار القرن الافريقي ولجنوب العربي وكذلك امن مصر ومصالحها الحيوية .
— Amre Moussa (@amremoussa) April 17, 2023
ورغم ما بدا سابقًا، من انحياز النظام المصري للجيش السوداني بقيادة البرهان ضد قوات الدعم السريع، والتدريبات المشتركة بين الجانبين في مطار مروي شمال الخرطوم، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي صرّح بعد يومين من اندلاع حرب الـ15 من أبريل/نيسان 2023 قائلًا: “ما يحدث في السودان هو شأن داخلي ولا ينبغي التدخل فيه، حتى لا يحدث تأجيج أو يتطور الصراع فيه بشكل لا يناسب السودان ولا المنطقة”، كذلك أطلق السيسي أكثر من دعوة إلى الوساطة والوقف الفوري لإطلاق النار، لكن دعواته لم تجد آذانًا صاغية.
ومع أن مصر كانت أول دولة أثرت عليها حرب السودان بشكل مباشر، إذ لجأ إليها منذ بداية الحرب ما يزيد على نصف مليون مواطن سوداني بحثًا عن الأمان، فإنّ دورها في الوقت نفسه تراجع لصالح دولٍ أخرى أبرزها السعودية التي رعت مفاوضات في جدة لإيجاد حل سلمي للصراع.
ورغم أن الوساطة السعودية التي جرت بمشاركة أمريكية لم تحقق اختراقًا يُذكر – بسبب فشل الدعم السريع في تنفيذ تعهداتها الموقعة في 11 مايو/أيار 2023 في جدة، المتعلقة بانسحاب القوات من المستشفيات والعيادات والأعيان المدنية – لكن مجرد استضافتها لجولة التفاوض تعكس المدى الذي تراجع إليه الدور المصري، فالقاهرة أولى بأن تبذل الجهود لإيجاد حل سلمي للصراع في السودان، نظرًا للأسباب التي تم إيرادها.
أما الملف الأساسي الذي كان حصريًا للقاهرة وهو الملف الفلسطيني، فتراجع الدور المصري فيه بشدة في ظل الحرب التي يشنها الكيان المحتل على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، والتواطؤ المصري مع العدوان الوحشي الذي تسبب في استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير كامل البنية التحتية في غزة بما في ذلك المستشفيات والمرافق التعليمية.
النظام المصري تواطأ مع الاحتلال
تمثّل تواطؤ النظام المصري في إغلاق معبر رفح أمام الناس والمتاجرة في خروج الغزيين الهاربين من القصف والقتل كوسيلة للتكسب بأخذ رشاوي قيمتها 5000 دولار عن كل شخص، تتحصلها شركة غامضة مملوكة لإبراهيم العرجاني، رجل الأعمال المقرب من الحكومة المصرية الذي يُعتقد أنه ساعدها في قتال المجموعات المسلحة في شبه جزيرة سيناء.
كما أغلقت مصر معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية وبالتالي تورطت في استخدام التجويع كسلاح حرب، فالمجاعة أصبحت وشيكة للغاية وفقًا للأمم المتحدة ونصف سكان غزة (1.1 مليون) على بعد خطوة واحدة من المجاعة.
وكان لافتًا، بعد العدوان على غزة، تدفق القروض المالية على مصر حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطة لدعمها بقيمة نحو 10 مليارات دولار و”إجراء محادثات بشأن الديون”، وأجرى صندوق النقد الدولي محادثات مع القاهرة بشأن زيادة قرضها البالغ 3 مليارات الى أكثر من 5 مليارات.
مجاعة من صنع الإنسان
بينما في السودان حذر مسؤولو الأمم المتحدة من أن الصراع المستمر قد أغرق البلاد في “واحدة من أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث” ما قد يؤدي الى أكبر أزمة جوع في العالم.
المجاعة التي تلوح في الأفق بالسودان ليست مجاعة ناجمة عن كارثة طبيعية أو شح في الأمطار، بل هي من صنع الإنسان نتيجة لتعمد مليشيا الدعم السريع إفقار السكان بالاستيلاء على مدخراتهم ومنتجاتهم الزراعية بما في ذلك الحبوب، وتدمير سبل كسب العيش كالآلات الزراعية والجرارات ووسائل النقل.
صد
وفي ظل توسع الصراع وقيام مليشيا الدعم السريع بنقل الحرب جنوبًا إلى ولايتي الجزيرة وسنار مستفيدةً من الدعم الإماراتي غير المحدود، استضافت القاهرة أخيرًا مؤتمرًا بشأن السودان (6 إلى 7 يوليو/تموز) فيما يبدو أنها محاولة دبلوماسية متواضعة، ورغم مشاركة الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول خليجية “السعودية وقطر والإمارات”، فإنّ المؤتمر المصري لم يخلص إلى أي نتيجة تسهم في إيجاد حل للصراع.
حملات لطرد السودانيين من مصر وصمت رسمي
تزامن المؤتمر مع حملة تحريضية في مصر ضد اللاجئين السودانيين، للمطالبة بطردهم وإبعادهم، حيث يجهل كثير من المنخرطين في الحملة أو يتجاهلون طبيعة العلاقات بين البلدين وما قدمه السودان لمصر والمصريين قبل عشرات السنين.
الأمين العام لجامعة الدول العربية، وزير الخارجية المصرية الأسبق، يذكر المصريين بأشياء هامة قام بها السودان لمصر والمصريين! pic.twitter.com/3TUJ6wLemv
— Ahmed Dahshan (@ahmdahshan) March 14, 2024
وبدلًا من قيام السلطات بالتدخل لوقف حملات التحريض، أعلنت السلطات الرسمية أن جهات إنفاذ القانون ستقوم بترحيل أي لاجئ أو أجنبي مخالف لضوابط الإقامة، بينما قالت منظمة العفو الدولية الشهر الماضي إن مصر اعتقلت بشكل جماعي آلاف اللاجئين الفارين من الحرب في السودان ورحلتهم بشكل غير قانوني.
وللمفارقة فإن موقف القاهرة من الأزمة السودانية الذي يراه مسؤولوها بمن فيهم السيسي “إيجابيًا وبناءً وداعيًا إلى عدم التدخل بحثًا عن توافق سوداني-سوداني لحلحلة الأزمة”، يراه مراقبون وأطراف سودانية بمثابة دليل إضافي على تراجع الدور المصري في السودان.
وبالعودة إلى غزة، من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي هدفه من حرب الإبادة استئصال واقتلاع الغزيين من أرضهم التاريخية بعد إبادة أكبر عدد منهم، وهذه المطامع من المؤكد أنها ستشمل في المستقبل أجزاءً من مصر، فمنذ أواخر مايو/أيار الماضي بسط جيش الاحتلال سيطرته العسكرية الكاملة على محور فيلادلفيا الحدودي بين قطاع غزة وسيناء المصرية، دون أن تتخذ الحكومة المصرية أي خطوة سوى المطالبة بسحب قوات الاحتلال المتمركزة في تلك المنطقة وهو ما ترفضه “إسرائيل”.
هل يمكن أن تتغير السياسة الخارجية المصرية؟
منذ إقرار القيادة المصرية في عهد الرئيس أنور السادات معاهدة كامب ديفيد مع “إسرائيل” في 17 سبتمبر/أيلول عام 1978 أصبحت القاهرة جزءًا لا يتجزأ من تقاطعات المصالح الدولية مع “إسرائيل” والغرب، وبالتالي لم تعد تتمتع باستقلالية كاملة في توجيه سياستها خارج الدور المرسوم لها، ذلك أنها تحصل بصورة سنوية على مساعدات أمريكية تقدر بـ1.3 مليار دولار مقابل التوقيع على معاهدة السلام منذ إقرارها.
غير أنّ الدور المصري في المنطقة جرى تقزيمه وإضعافه بشكل تدريجي على عدة مراحل منذ اتفاقات كامب ديفيد، فالعهد الحالي الذي يمكن القول إنه بدأ بانقلاب 2013 يمثل ذروة التراجع للدور المصري، إذ إن الاحتلال الإسرائيلي على مقربة من سيناء دون أن تتخذ مصر خطوة فعلية للرد على تلك الاستفزازات عدا التهديد بالانسحاب من اتفاقات كامب ديفيد، بينما يشهد السودان المجاور حربًا مدمرة لأكثر من عام وسط مخاوف من انهيار الدولة والتأثير المتوقع على دول الجوار.
في ظل التشكيل الوزاري الجديد الذي أعلن عنه في مصر مطلع يوليو/تموز يتحدث البعض عن إمكانية أن تتخذ القاهرة خطوات لاستعادة دورها الإقليمي المفقود، حفاظًا على مصالحها وحرصًا على أمنها القومي على الأقل، شمالًا مع غزة وجنوبًا مع السودان.
استعادة المكانة التاريخية لمصر غير ممكنة دون المصالحة الوطنية والاستقرار السياسي والاقتصادي، مع ضرورة وضع حد لحملات شيطنة المعارضين وإقصائهم وإبقائهم في السجون بتهم ملفقة.
وقد صرّح وزير الخارجية الجديد بدر عبد العاطي بعد أدائه القسم، أنه يعي جيدًا حجم وعِظم التكليف المنوط به، والمسؤولية الملقاة على عاتق وزير خارجية دولة بحجم وثقل مصر، ذات التاريخ العريق، وصاحبة الدور المحوري المهم في محيطها الإقليمي وعلى المستوى الدولي، كما تعهد باستكمال مسيرة من سبقوه في تولي هذه المسؤولية والدفاع عن المصالح المصرية وأمن مصر القومي.
ورغم أنه من غير المحتمل خروج مصر بشكل كامل من دائرة الانكفاء والتراجع، فإنّ استشعار الخطر على حدودها شمالًا وجنوبًا يتطلب التعامل بشكل جدي من الحكومة المصرية مع المهددات الأمنية الخارجية، ولا يتأتى ذلك إلا بصياغة رؤية استراتيجية جديدة للعلاقات الخارجية تقوم على إعادة النظر في سياستها الخارجية وسط التفاعلات الإقليمية والدولية، بما يحقق المصالح المصرية دون الإخلال بمصالح الآخرين.
واستعادة الدور الخارجي لمصر يتطلب أيضًا تصفير الصراعات والعداوات التي تسببت فيها أنظمة الحكم السابقة أو النظام الحالي، والتي كانت سببًا في خسارة القاهرة الكثير من تأثيرها ونفوذها العربي والإفريقي لصالح قوى أخرى.
الأمر الآخر الأكثر أهمية: استعادة المكانة التاريخية لمصر غير ممكنة دون المصالحة الوطنية والاستقرار السياسي والاقتصادي، مع ضرورة وضع حد لحملات شيطنة المعارضين وإقصائهم وإبقائهم في السجون بتهم ملفقة.