أغلق الستار أمس على أول انتخابات برلمانية يشهدها اللبنانيون منذ 9 سنوات لاختيار برلمانهم الجديد وسط إقبال لم يرتق لمستوى طموحات الأحزاب والقوى السياسية التي سارعت إلى شد عصب قواعدها في الساعات الأخيرة، في استحقاق من شأنه أن يكرس التوافق الهش بين القوى التقليدية.
1880 مركز اقتراع موزع على 15 دائرة انتخابية أقفلت أبوابها مع تمام الساعة السابعة مساءً أمس بتوقيت بيروت (الرابعة بتوقيت غرينتش) بعد 12 ساعة من فتحها أمام 3.7 مليون ناخب لهم حق التصويت، وسط استعدادات أمنية وعسكرية مكثفة تراوحت بين 20 – 30 ألف جندي وفق ما أعلنته وزارة الداخلية.
عمليات فرز الأصوات الأولية أظهرت وفق نتائج غير رسمية، تقدمًا ملحوظًا – عكس المتوقع – للثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، ونجاح ملموس لتيار المردة والقوات اللبنانية فيما أصيب التيار الوطني الحر والمستقبل بتراجع كبير، البعض وإن لم ير تأثيرًا لهذه النتائج على خريطة المشهد السياسي اللبناني، لكن التوازنات تبدلت بطريقة تتيح توقع نمط آخر من المواجهات المقبلة.
إقبال لم يلب الطموحات
البعض توقع إقبالاً كثيفًا على صناديق الاقتراع بعد 9 سنوات من انتظار هذه اللحظة التي يخرج فيها اللبنانيون ليختاروا ممثليهم بعدما ترسخ في أذهان الكثير منهم أن هناك خطأ لا بد من إصلاحه، وأن طبقة ما تحكم قبضتها على المشهد لا بد أن يتم تغييرها بعدما فشلت في تحقيق الحد الأدنى من أحلام المواطنين، غير أن الأرقام جاءت عكس ذلك تمامًا.
وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق في أعقاب غلق مراكز الاقتراع مساء أمس قال إن نسبة الإقبال في الانتخابات البرلمانية اللبنانية بلغت 49.2% متراجعة عن آخر انتخابات أجريت قبل عقد تقريبًا بنسبة تقارب 5% حيث كسرت نسبة المشاركة وقتها حاجز الـ54%.
المشنوق وصف يوم أمس باليوم الأبيض، موضحًا أن القانون الذي أجريت على أساسه هذه الانتخابات يعتبر معقدًا، وأن وزارته تلقت مئات الشكاوى من مرشحين ومواطنين على آلية تطبيق القانون، ويفترض أن تعلن النتائج الرسمية للانتخابات في وقت لاحق اليوم.
تساؤل يطل برأسه باحثًا عن إجابة: رغم الحشد والتجييش واستخدام المال السياسي بصورة غير مسبوقة من العديد من القوى السياسية المتنافسة، لماذا تراجع الإقبال على هذه الانتخابات؟ خاصة أن المؤشرات كانت تشير إلى غير ذلك بعد الانتقال من نظام انتخابي أكثري إلى نظام انتخابي نسبي وهو ما توقعه البعض أن يكون محفزًا لزيادة معدلات المشاركة.
التكهنات المطروحة للإجابة عن هذا السؤال تمحورت في ثلاثة دوافع رئيسية، الأول: غياب التنافس السياسي بين القوى المختلفة، وهو دافع يعززه تراجع حدة الانقسام السياسي عمّا كان عليه عام 2009 جراء أحداث السابع من أيار وقبلها اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أما الدافع الثاني فيتمثل في فقدان ثقة الناخب في الطبقة السياسية الحاكمة واليأس من إمكانية تغييرها بأي صورة من الصور، بينما يأتي المال السياسي ثالث الدوافع وآخرها، إذ لعب حجم المال الانتخابي الذي صُرِف في انتخابات 2009 دورًا رئيسيًا في تحفيز الناخب يضاف إلى التحشيد المذهبي، وفيما تحدثت التقديرات آنذاك عن تجاوز المبالغ المالية التي دُفعت لشراء الأصوات سقف المليار دولار، تكشف التقديرات الأمنية اليوم أن الرقم المدفوع خلال هذه الانتخابات أقل من ذلك بكثير.
نسبة الإقبال في الانتخابات البرلمانية اللبنانية بلغت 49.2% متراجعة عن آخر انتخابات أجريت قبل عقد تقريبًا بنسبة تقارب 5%، حيث كسرت نسبة المشاركة وقتها حاجز الـ54%
ضعف الإقبال على التصويت عما كان تتوقعه القوى السياسية
صفعة لحلفاء السعودية
تكشف النتائج الأولية شبه الرسمية للانتخابات البرلمانية تلقي حلفاء المملكة العربية السعودية في لبنان صفعة قوية، حيث مني رئيس الحكومة سعد الحريري (وتيار المستقبل) بالخسارة الأكبر في تاريخه، لا سيما في مناطق العرقوب وصيدا وجبل لبنان وبيروت وطرابلس وزحلة والبقاع الغربي.
تلك الخسارة أنهت وبشكل نسبي احتكار الحريري وتياره للتمثيل السني في لبنان وإن كان يتصدر قائمة القوى السنية ما يهيئ له تشكيل الحكومة مستقبلاً، غير أن الأمر لن يكن بالنزهة كما يسعى البعض للتقليل من نتائج الانتخابات كون أن صدارة التيار السني لا تزال في جعبة الحريري، وهو ما سيتكشف خلال معركة تأليف الحكومة الجديدة، خصوصًا أن من فازوا أمامه من الأقطاب البارزين مناطقيًا ووطنيًا، من أسامة سعد وعبد الرحيم مراد إلى فيصل كرامي وصولاً إلى نجيب ميقاتي، كما الحال مع خسارته المقاعد غير السنية معه.
“حزب الله” والقوى والشخصيات المتحالفة معها حصلت إجمالاً على ما لا يقل عن 67 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان الـ128، أي أنها ستتمتع بالأغلبية المطلقة (النصف زائد واحد).
كذلك تعرض التيار الوطني الحر ومن خلفه الرئيس ميشال عون، إلى انتكاسة جدية، إذ كان من المفترض أن يحقق اكتساحًا متوقعًا في الشمال إلا أن الأمر لم يكن هكذا، إذ تقدم عليه خصومه التقليديون من القوات اللبنانية إلى تيار المردة، وهو ما كشفته نتائج زحلة والبقاع الغربي.
التراجع الواضح – وفق النتائج شبه الرسمية – للتيار الوطني الحر لا شك أنها ستصب في صالح قوى أخرى على رأسها القوات اللبنانية، كما تعزز في الوقت ذاته من وضعية تيار المردة والحزب السوري القومي بين المسيحيين، مما يعني خلق معادلة جديدة تشير إلى إنهاء احتكار التيار للنفوذ الاستثنائي رغم تولي أحد أقطابه – العماد عون – منصب رئيس الجمهورية.
وبالمجمل، فإن العلامة الفارقة في الانتخابات حتى الآن تتركز في الخسارة التي منيت بها قوى الرابع عشر من آذار، من الجنوب إلى الجبل والشمال وبيروت والبقاع، وذلك رغم الدعم والتمويل الذي تتلقاه من الخارج لا سيما عن طريق المملكة العربية السعودية التي كانت ترى فيها الأمل نحو استعادة نفوذها مرة أخرى في مواجهة تمدد النفوذ الإيراني عبر ذراعه العسكري حزب الله.
تراجع ملحوظ لتيار المستقبل وقوى الرابع عشر من آذار
تكشف النتائج الأولية شبه الرسمية للانتخابات البرلمانية تلقي حلفاء المملكة العربية السعودية في لبنان صفعة قوية، حيث مني رئيس الحكومة سعد الحريري (وتيار المستقبل) بالخسارة الأكبر في تاريخه
تقدم لـ”حزب الله”
وفي المقابل نجح الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، في تحقيق تقدم غير متوقع، فبجانب كونه نتاجًا لاستغلال الحزبين حالة الزخم السياسي الإقليمي وتوظيفها لأهدافهما السياسية داخليًا، كان فشل الخصوم في الجانب الآخر جسرًا سهلاً للعبور عليه نحو تصدر المشهد الانتخابي.
وكالة رويترز للأنباء قالت إنه وفقًا لحساباتها من تلك النتائج التي أعلنها السياسيون والحملات الانتخابية للمرشحين فإن حزب الله والقوى والشخصيات المتحالفة معها حصلت إجمالاً على ما لا يقل عن 67 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان الـ128، أي أنها ستتمتع بالأغلبية المطلقة (النصف زائد واحد).
النتائج عكست كذلك تفوق تأثير نبيه بري وحسن نصر الله في الشارع اللبناني مقارنة بالحريري ورفاقه، وهو التفوق الذي عزاه البعض إلى ارتماء الأخير في أحضان الرياض التي نجحت في خلق شريحة كبيرة من الأعداء اللبنانيين لها جراء مواقفها وسياساتها الأخيرة ضد بيروت التي كان بمقتضاها تجميد المساعدات المالية للجيش ومحاولة التدخل في الشؤون الداخلية للبنان عن طريق دبلوماسييها، وهو ما استغله حزب الله ومجموعته في خلق زخم سياسي معارض للرياض وحلفائها داخل الأراضي اللبنانية.
وعلى كل حال، فإن ما حدث بالأمس نقلة نوعية نحو تدشين مرحلة جديدة في تاريخ لبنان، شكلت انعطافة في إدارة الحياة السياسية في البلد الذي مزقته الحرب الأهلية لسنوات، قد يكون إحداث أي تغيير على صعيد التمثيل السياسي أمرًا مستبعدًا في الوقت الراهن، لكن التوازنات تبدلت بطريقة تتيح توقع نمط آخر من المواجهات المقبلة، وهو ما سيتضح جليًا في طريقة تأليف الحكومة وآلية إدارة ملفات اللبنانيين.