ترجمة ساسة بوست
في أوائل أبريل 2009 قام باراك أوباما بزيارة رفيعة المستوى إلى تركيا؛ حيث أدلى بخطابِ هامٍ أمام البرلمان، وإن لم يحظَ بالاهتمام الكافي، أشار فيه إلى المجد العثماني التليد، وأثنى على رجب طيب أردوغان، الذي منذ أصبح رئيسًا للوزراء في عام 2003 كان يشرف على مجموعة من الإصلاحات الدستورية وتعزيز الأحزاب السياسية وحظر عقوبة الإعدام وتعزيز الحريات الشخصية وإجبار الجيش الميّال للانقلابات على الانصياع. طوال خطابه، ألمح أوباما إلى الديمقراطية التركية والتحالف الدائم بين واشنطن وأنقرة، وهي الصداقة التي نمت لدرجة وصف أوباما لأردوغان بأنه زعيم أجنبي نادر انعقدت بينهما أواصر الثقة.
إدارة بوش أشادت أيضًا بأردوغان وحزبه، في معرض الإجابة على السؤال المثار في العقول الغربية منذ هجمات 11 سبتمبر: هل الإسلام متوافق مع الديمقراطية؟ لكن يبدو أن أوباما يكنُّ لأردوغان تقديرًا خاصًّا، يتناسب مع الخطط الإستراتيجية للإدارة الأمريكية لجعل تركيا محورًا لدبلوماسيتها في الشرق الأوسط.
بيدَ أن أردوغان لم يجعل الأمر سهلاً على أوباما؛ فتركيا لا تزال تتصرف ليس باعتبارها صديقًا، ففي مايو 2010، تعاونت مع البرازيل للتفاوض حول اتفاق نووي مع إيران، لكن دون موافقة واشنطن؛ ما أحبط الاتفاق برمته، بعدها بأسابيع، صوتت تركيا ضد جولة جديدة من العقوبات الأممية ضد إيران، وما بين الحدثين، قتل كوماندوز البحرية الإسرائيلية تسعة نشطاء بالرصاص (ثمانية أتراك وواحد تركي-أمريكي) كانوا على متن سفينة متوجهة إلى قطاع غزة؛ ما دفع أردوغان إلى وصف الحادث بأنه “إرهاب دولة لا إنساني”، وتهديد الإسرائيليين قائلاً: “لا أعتقد أننا سوف نجلس في صمت بعد مثل هذه الأحداث”.
ومع ذلك، بدلاً من توبيخ أنقرة علنًا، قابل أوباما أردوغان على انفراد في قمة G-20 بـ تورونتو بعدها بشهر، في لقاء لتصفية الأجواء تبوأ مكانة أسطورية تشبه اللحظات التأسيسية التي وصفها بعض المسئولين الأتراك بـ”العصر الذهبي” في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا. وفي أعقاب الثورات العربية بدت تركيا أكثر كشريك مثالي؛ حيث يعتقد فريق أوباما ومعظم مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أن الأتراك، بناء على الهيبة المستمدة من موقف أردوغان الصارم تجاه إسرائيل والمستثمرين الذين لا يعرفون الخوف والقوة الناعمة، من شأنهم أن يكونوا البوابة إلى العالم العربي.
لكن الآن، إلى أي مدى يبدو هذا خاطئًا؟ فالفكرة التي قدمتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بشأن امتلاك تركيا شيئًا فريدًا لتقدمه إلى الشرق الأوسط كانت ساذجة، والسياق كان يعني أن واشنطن تتملق مرة أخرى حكومة إسلامية ثقيلة اليد، وتبني شراكة تغفل انتهاكات خطيرة للمعايير الديمقراطية. فلطالما استخدم حزب العدالة والتنمية الحاكم إجراءات صارمة مثل الحد من مبيعات الكحول ورفع الحظر المفروض على الحجاب والنقاب في وظائف الخدمة المدنية. الأهم من ذلك هو التهديد الخطير الذي يواجه حرية التعبير الآن: فخلال العام الماضي سجنت تركيا عددًا من الصحفيين أكثر مما فعلت 40 دولة أخرى، ومن خلال الترهيب وشراء رجال الأعمال المقربين من حزب العدالة والتنمية ممتلكات وسائل الإعلام والقانون الجديد الذي يسمح للحكومة بعرقلة الوصول إلى الإنترنت بسهولة، تترأس إدارة أردوغان وزارة معلومات افتراضية، حتى أنها رحلت مؤخرا صحفيًّا انتقد الحكومة عبر تويتر.
كما انتهجت الحكومة مرارًا تدابير عقابية ضد النخبة من رجال الأعمال الذين لا يتفقون مع سياسات أردوغان، بجانب تقييد قدرة المواطنين على مساءلة السياسيين أو منافستهم. وفي محاولة لإسكات الفنانين الذين تزايدت انتقاداتهم لحزب العدالة والتنمية، لوَّح أردوغان في مايو عام 2012 بوقف تمويل الفنون بـ 63 مليون دولار، ما يهدد 58 مسرحًا تابعًا للدولة.
في الوقت ذاته، اعتقلت شرطة مكافحة الشغب التركية مواطنين بتهم إرهاب ملفقة، والنتيجة 11200 شكوى قيد الانتظار مقدمة ضد تركيا في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حتى نوفمبر 2013، لكن احتجاجات جيزي بارك وميدان تقسيم في إسطنبول الربيع الماضي هما اللتان أظهرتا مدى التدهور التركي، فالمظاهرات لم تكن مجرد احتجاج على إعادة تطوير المتنزه، لكن أيضًا ضد غطرسة الحزب الحاكم، ورأسمالية المحاباة التي تغذي قطاع البناء وتوفر رعاية لأردوغان ووحشية الشرطة وجهود حزب العدالة والتنمية لتمرير قوانين والدفع باتجاه تغييرات دستورية ترسخ سلطاته.
كما أعرب عشرات الآلاف الذين تدفقوا إلى شوارع إسطنبول- ولاحقًا أنقرة وإزمير- عن إحباطهم من دولة الحزب الواحد، وبالإضافة إلى استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والهراوات المعدنية، شنت السلطات التركية حملة اعتقالات واسعة؛ لتخويف المنظمات غير الحكومية، واتخذت إجراءات صارمة ضد وسائل الإعلام الاجتماعية. وفي ديسمبر، اقترح البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية إجراءً من شأنه تجريم- مع أحكام بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات- الاحتجاج ضد الخدمات العامة، التي شملت إعادة تطوير جيزي أو مشروع بناء الطريق المثير للجدل في أنقرة الذي يتطلب إزالة الغابات على نطاق واسع.
ورغم ذلك كله، يبدو أن واشنطن لا تزال مغرمة بـ”النموذج التركي”، صحيحٌ أن تقارير حقوق الإنسان الأخيرة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية انتقدت تركيا، وأثارت هيلاري علنًا مسألة حرية الصحافة، وأدلت إدارة أوباما بتصريحات لدعم الاحتجاجات السلمية. لكن البيت الأبيض لم يضع التغيير الديمقراطي كأولوية، ناهيك عن حالة تعزيز العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من اختيار تركيا لشركة صينية مفروض عليها عقوبات للمشاركة في إنتاج نظام مضاد للصواريخ، رغم اعتراضات الناتو والكونجرس الأمريكي، وعد البيت الأبيض بحماية المصالح التركية في أي اتفاق للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- وهي السياسة التي لم تتغير، رغم التحذير من أن الصفقة يمكن أن تؤثر على التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة وتركيا. واستمرت واشنطن في اعتبار تركيا شريكًا إستراتيجيًّا حيويًّا في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من علاقات أنقرة شديدة التوتر مع مصر والعراق وإسرائيل والمملكة العربية السعودية؛ أو بعبارة أخرى: كل دولة كبيرة في المنطقة.
وبالعودة إلى خطاب أوباما في أبريل 2009، يتضح أن الجانب الأكثر أهمية لم يكن إغداق الثناء على تركيا، لكن انتقاده الخفي للسياسات التركية، ومناشدة المشرعين بتعميق التزامهم بضمان مستقبل ديمقراطي. ولم يكن هذا الخطاب تاريخيًّا فقط؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تطرق خلالها علنا لأوجه القصور الديمقراطية في تركيا، لكن لأنها كانت المرة الأخيرة التي بدا أنه يعني ما يقول.
المصدر: بوليتيكو