يحبس المتابعون للشأن الإقليمي أنفاسهم ترقبًا لما يمكن أن تسفر عنه هذه الجولة من التصعيد على الحدود اللبنانية، عقب عملية مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، الجمعة 27 يوليو/تموز الجاري، التي أسفرت عن سقوط 12 قتيلًا وعدد من الضحايا، وسط توعد إسرائيلي بالرد الحازم على حزب الله الذي نفى في بيان رسمي مسؤوليته عن الحادثة.
بلغ الخطاب التحريضي للنخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بالدفع نحو استهداف حزب الله وقياداته وعلى رأسها حسن نصر الله، مستويات متطرفة من التأجيج لم يعرفها منذ حرب يوليو/تموز 2006، الأمر الذي يفتح معه الباب على مصراعيه أمام الاحتمالات كافة، التصعيدية منها والدبلوماسية، في وقت تحاول فيه حكومة بنيامين نتنياهو توسيع دائرة الصراع وتسخين الأجواء لأجل مصالح ومكاسب سياسية خاصة.
على مدار 17 عامًا من 2006 إلى 2023، التزم الطرفان، دولة الاحتلال وحزب الله، بقواعد اشتباك ثابتة لا تتغير، حيث الرد مقابل الرد في حدود جيوسياسية عسكرية معروفة، وإن شهدت بين الحين والآخر بعض الخروقات الطفيفة، لكنها لم تؤثر بشكل أو بآخر في مركزية ونطاق تلك القواعد، حتى جاءت حرب غزة الحالية التي اندلعت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتلقي بظلالها على تلك المعادلة التي يبدو أنها على أعتاب مرحلة جديدة من إعادة التموضع.. فهل تتغير قواعد الاشتباك؟
قرار (1701) وقاعدة “الرد مقابل الرد”
فرض القرار (1701) الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بالإجماع في 11 أغسطس/آب 2006، والداعي لوقف كامل العمليات القتالية في لبنان، بعد الحرب التي شنتها “إسرائيل” في أعقاب أسر جنديين من جيشها، واستمرت نحو 32 يومًا (من 12 يوليو/تموز حتى 14 أغسطس/آب)، قواعد اشتباك جديدة بين “إسرائيل” وحزب الله.
تقوم تلك القواعد على مرتكز أساسي يعتمد على سياسة الرد والرد المقابل، والذي يشير إلى أن أي عملية عسكرية سواء من الحزب أو الكيان المحتل، ستُقابل برد مناسب من أي من الطرفين، في حدود زمانية ومكانية محددة، وبما لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي تقود الأجواء بينهما إلى اشتعال الموقف واتساع رقعته.
وكان الإشراف ومتابعة معطيات تلك القواعد مسؤولية قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) الموجودة في الجنوب اللبناني، والتي تقوم بالتنسيق بين الجانب اللبناني ممثلًا في حزب الله وقوات جيش الاحتلال، للحيلولة دون الخروج عن المألوف والسيطرة على المشهد كلما ارتفعت درجة سخونته.
كان جنوب الليطاني ومزارع شبعا في الغالب هما مسرح الأحداث بين الطرفين، الحزب وجيش الاحتلال، فحين يستهدف الأول الليطاني يأتي الرد الإسرائيلي سريعًا بالقصف الجوي على شبعا، وهي الحوادث التي باتت سمة مميزة لطبيعة المواجهة بين الجانبين، مع الالتزام بالانضباط وعدم الخروج عن القواعد التقليدية.
يذهب محللون إلى أن تلك القواعد فرضتها معادلة الردع التي دشنها حزب الله بعد أدائه في حرب 2006، وما شهدته ترسانته التسليحية من تطور خلال السنوات الماضية، بفضل الدعم الإيراني الذي لم يتوقف، والتعامل مع الحزب كأحد أهم أذرعه خارج الحدود.
تعتمد تلك المعادلة التي فرضها الحزب اللبناني على استراتيجيتي “الدم مقابل الدم” و “لكل فعل رد فعل”، ما يعني أنه لا يريد حربًا مفتوحة مع الاحتلال، نظرًا لما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات تطيح بكل المكتسبات التي حققها منذ 2006 وحتى اليوم.
خروقات طفيفة
رغم محاولة الطرفين الالتزام بتلك القواعد لكن بين الحين والآخر كانت تحدث بعض الخروقات نتيجة المستجدات الإقليمية التي كانت تفرض نفسها وتدفع كلا الجانبين للتغريد نسبيًا خارج السرب التقليدي، لكنه التغريد الذي لم يصل بعد إلى مرحلة التخلي بالكلية عن القواعد المعمول بها، ومن أبرز الخروقات التي شهدتها تلك المعادلة منذ 2006:
5 سبتمبر/أيلول 2014: قُتل عنصران من حزب الله إثر تفجير جهاز تجسس إسرائيلي في بلدة عدلون في الجنوب اللبناني، وجاء الرد سريعًا من الحزب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، حيث أصيب جنديان إسرائيليان في انفجار عبوة ناسفة بدورية إسرائيلية في مزارع شبعا.
4 يناير/كانون الثاني 2016: استهدفت عناصر من حزب الله دورية إسرائيلية في مزارع شبعا بعبوة ناسفة، حيث أوقعت عددًا من الإصابات، فيما اعتبره البعض حينها ردًا على اغتيال القيادي سمير القنطار قرب دمشق بغارة صاروخية إسرائيلية في 19 ديسمبر/كانون الأول 2015.
25 أغسطس/آب 2019: سقوط مسيرتين إسرائيليتين في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو الخرق الذي أثار الجدل حينها، ليأتي الرد من الحزب بعد 6 أيام فقط، في الأول من سبتمبر/أيلول من نفس العام، باستهداف مدرعة إسرائيلية بصاروخين مضادين للدروع من نوع “كورنيت” قرب مستوطنة أفيفيم، تلاه رد إسرائيلي بقصف على بعض الأماكن الحدودية.
26 يوليو/تموز 2020: سقوط مسيّرة إسرائيلية أخرى في الجنوب اللبناني أعقبها إطلاق المدفعية الإسرائيلية عدد من القذائف على نقاط حدودية جنوبًا، ونشوب بعض المناوشات بين الطرفين دون حدوث خسائر.
الأول من فبراير/شباط 2021: كشف الحزب اللبناني عن إسقاطه لمسيّرة إسرائيلية فوق بلدة بليدا الجنوبية، وفي أغسطس/آب من نفس العام أُطلقت 3 صواريخ من الأراضي اللبنانية باتجاه شمال الأراضي المحتلة، ليرد الاحتلال بمدفعيته في الداخل اللبناني.
حرب غزة تخلط الأوراق
منذ طوفان الأقصى وشن الاحتلال حربه الشعواء ضد غزة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وانخراط حزب الله – وفق مقارباته الخاصة – في تلك الحرب بشكل أو بآخر، دخلت العلاقات بين الحزب و”إسرائيل” نفقًا جديدًا من التصعيد الذي خرق أكثر من مرة قواعد الاشتباك المعمول بها منذ 2006، وصولًا إلى تلك المرحلة الحرجة التي يترقب فيها الجميع احتمالية نشوب حرب مفتوحة بين الطرفين، لن تقتصر بطبيعة الحال عليهما كلاعبين أساسيين، إذ من المتوقع أن تجر معها لاعبين وقوى أخرى تقود المنطقة نحو الاشتعال.
وتجاوز الخرق الخط الأزرق الفاصل بين الطرفين، لتصل العمليات العسكرية المتبادلة إلى عمق كل جانب، موقعة المئات بين قتيل وجريح، ناسفة بذلك ما تم الالتزام به على مدار أكثر من 17 عامًا، الأمر الذي قد يراه الجميع تدشينًا لقواعد اشتباك جديدة سيتم فرضها بقوة الأمر الواقع والتطورات الأخيرة.
ووصل الاستهداف الإسرائيلي عبر سلاح الجو منازل في مركبا وعيتا الشعب وبليدا والناقورة، بجانب الاستهداف المدفعي لعدة قرى في القطاعين الشرقي والغربي، في المقابل دوت صافرات الإنذار في مرغليوت والجليل بل وصلت إلى تل أبيب بسبب الصواريخ التي أطلقها حزب الله وأربكت حسابات الإسرائيليين.
وفي الوقت الذي تجاوز فيه الاحتلال الخط الآمن في المواجهة مع حزب الله، من خلال استهداف قواعده العسكرية ومنصاته وإيقاع مهندسيه وعدد من كبار القادة داخل العمق اللبناني، كما حدث في بعلبك بمارس/آذار الماضي، كان الرد من حزب الله حاضرًا، حيث استهدف تجمعات جنود الاحتلال في مواقع عدة منها موقع العاصي وفي حرش راميم، وفي تلة الكرنتينا، والرويسات العلم في تلال كفرشوبا، بجانب المواقع الاستخباراتية والعسكرية لقوات الاحتلال منها موقع الرادار في مزارع شبعا وغيرها.
وتشير التطورات الأخيرة التي فرضها المشهد في غزة من جانب، وحسابات حزب الله الخارجية من جانب آخر، إلى أن المواجهات بين الجانبين تجاوزت حدودها الجغرافية الجنوبية لتصل إلى العمق هنا وهناك، وهو التحول الذي قد يعيد ترتيب الأوراق ويُحدث نوعًا من التغير – ولو كان طفيفًا – على معادلات الردع الإقليمي التقليدية.
هل تتغير قواعد الاشتباك؟
لا يمكن تقييم التغيرات التي شهدتها قواعد الاشتباك بين حزب الله و”إسرائيل” منذ بداية حرب غزة بمعزل عن التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، على رأسها تغير قواعد الاشتباك بين إيران والكيان المحتل، التي شهدت هي الأخرى خروقات تجاوزت نطاقها الضيق المعمول به منذ سنوات، حتى وإن كانت تلك الخروقات تتم في إطار من التنسيق والتفاهم وبرعاية أمريكية.
تحاول طهران منذ انسحاب أمريكا المفاجئ والأحادي من الاتفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018، وما تلاه من فرض عقوبات اقتصادية كان لها ارتداداتها السلبية على الداخل الإيراني، أن تعزز من حضورها ونفوذها الإقليمي من خلال الانخراط في أكثر من ملف إقليمي يضعها مرة أخرى على سطح الأحداث كأبرز اللاعبين.
ومع نشوب حرب غزة، والتأزم الذي فرض نفسه على القضية الفلسطينية، حاولت إيران اللعب على هذا الملف الأبرز والأهم في المنطقة، الذي يحدد بشكل أو بآخر خريطة القوى المؤثرة في المشهد، منطلقة في ذلك من حزمة من الاعتبارات، منها تعزيز النفوذ الإقليمي، واستعادة ثقلها المتراجع بعد استهداف “إسرائيل” والحليف الأمريكي لعدد من قادة إيران، ما أثر بطبيعة الحال على سمعتها وصورتها الدولية التي حاولت الترويج لها على مدار سنوات.
ومن ثم حاولت توظيف حزب الله كأحد أبرز وأهم أدواتها الخارجية، بجانب الحوثيين، في تحقيق هذا الهدف، والسعي لملء الفراغ الذي تركته مصر والسعودية وبعض القوى الإقليمية، مستغلة البعد الديني والقومي والتاريخي لهذا الملف، في إشعال حماس الحزب اللبناني والحركة اليمنية.
ومع المزيد من الانخراط في المشهد عبر تعميق الاستهدافات التي قام بها حزب الله في الداخل الإسرائيلي، وإيقاع العديد من الخسائر، وإرباك حسابات حكومة نتنياهو، مدفوعًا بعدة مقاربات، بعضها يتعلق بالبعد الإيراني والآخر محاولة للحفاظ على معادلة الردع مع الاحتلال، هذا بجانب البعد الأمني والزود عن الأمن القومي المهدد بطبيعة الحال بتغول الوجود الإسرائيلي.
وما تلا ذلك من رد استثنائي من جانب قوات الاحتلال تجاوز المألوف في خريطة المواجهات، في محاولة لفرض معادلة ردع جديدة تحافظ بها “إسرائيل” على تفوقها، لا سيما بعد الفشل في تحقيق الحرب في غزة لأهدافها وتشويه صورة الجيش الذي لا يقهر، هذا بجانب مساعي نتنياهو في توسعة دائرة الصراع لتأجيل حسم مستقبله السياسي الذي بات مرهونًا بالتهدئة، والرضوخ لضغوط اليمين المتطرف الذي يحافظ على تماسك وبقاء حكومة نتنياهو حتى اليوم.
في تلك الأجواء الصدامية، التي وصلت فيها الأمور إلى مستويات من السخونة لم تعرفها منذ سنوات، وسط جهود إقليمية ودولية للحيلولة دون نشوب حرب مفتوحة تُدخل المنطقة بأسرها في أتون من الفوضى وعدم الاستقرار، كثر الحديث عن احتمالية تدشين قواعد جديدة للاشتباك بين الحزب و”إسرائيل” وسط انقسام في الآراء بشأنها.
فريق يميل إلى تغير تلك القواعد فعليًا، لا سيما بعد عملية طوفان الأقصى التي فرضت واقعًا جديدًا يجب التعامل معه وفق معطيات مختلفة، وآخر يرى أن ما حدث لا يعدو كونه خروقات استثنائية كالتي شهدتها خريطة الصراع بين الجانبين منذ 2006 وحتى 2023، وأنها ستتلاشى مع انتهاء الحرب في غزة، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي الأخير وبصرف النظر عن التغيرات التي شهدتها قواعد الاشتباك بين “إسرائيل” وحزب الله، وما إذا كانت شكلية أو مؤقتة، فإن ارتدادات حرب غزة بكل تفاصيلها ستخيم على كل الملفات في المنطقة التي باتت على موعد مع تغيرات جذرية على المسارات كافة، فالطوفان لن يترك جبهة أو نافذة إلا وسيكون حاضرًا فيها بقوة.