لطالما أُعجب المسلمون بالخزف أو السيراميك الصينيّ، إذ قاموا بجمعه واستيراده ومن ثمّ محاكاته والعمل على تقليد صناعته منذ مئات السنين، ويبدو الأمر جليًّا لا سيّما في البلاط السلجوقيّ ومن بعده العثمانيّ في بلاد الأناضول، إضافةً للدولة الصفوية في بلاد فارس، والتي أولت بدورها اهتمامًا بالغ الأهمية بهذه الصناعة، فجمعت وضمّت مجموعات مهمة من الخزف الصيني الأزرق والأبيض.
لكنّ الأمر بلغ ذروته حين بدأ العثمانيون يولون اهتمامًا متزايدًا بهذه الصناعة والفن في منتصف القرن الخامس عشر فعملوا على إنشاء مدينةٍ كاملة تختصّ بصناعة الخزف وتتفنّن بزخرفته، حتى أصبح لها اسمها اللامع المتميّز، الذي تمتاز به عن غيرها من مدن العالم، بعد تطويرها لمنتجاتها، وسيرها نحوَ التفرّد.
يرجع تاريخ فنّ الخزف في مدينة إزنيك، أو كما تُعرف بلقب “عاصمة الخزف التركي”، والتي تقع شمال غرب الأناضول تابعةً لولاية بورصا، إلى بداية القرن الرابع عشر، حيث أبدى السلاجقة اهتمامًا بهذا البلاط المزخرف أو ما يعرف باسم الخزف أو السيراميك، حتى جاء العثمانيون من بعدهم، فأولوا الاهتمام بدرجاتٍ متزايدة، حتى بات الخزف الإزنيكي يدخل كافة أشكال العمارة العثمانية من قصور ومساجد وغيرها من الصروح التي بقيت حتى يومنا هذا وتستطيع أنْ تستشفّ من خلالها ذلك الاهتمام.
كما تثبت الحفريات الجديدة في المدينة أيضًا أنّ العوامل البيئة كانت دائمًا تساعد مَن عاشوا في المدينة على إنتاج السيراميك في زمنٍ يرجع تاريخه إلى ما قبل 7000 عام قبل الميلاد، وهو الأمر الذي تثبته مجموعة من الحفريات الموضوعة في متحف المدينة، وتروي لك بدورها جزءًا من تاريخ المدينة الخزَفيّ لآلافٍ من الأعوام خلت.
متحف مدينة “إزنيك” التاريخيّ
أما البيزنطيون والرومانيون فقد استغلوا إمكانيات المدينة أيضًا، فأنتجوا الخزف الأخضر إلى جانب الزجاج فيها، بأشكال وتصاميم متنوعة والتي غالبًا ما اعتمدت على أشكال الطيور والأجسام البشرية كموضوعٍ لها، لكنهم اعتمدوا على الخزف كمادة لتزيين الكنائس والصروح، أو لصناعة التحف الثمينة، دون أن يتحوّل هذا الفن لصنعةٍ أو تجارة.
بدأ تاريخ المدينة يختلف مع قدوم السلاجقة والعثمانيين، إذ اختلفت تقنيات الزخرفة والتزيين من ناحية، ومن ناحية أخرى عكفت الدولتان على تطوير المواد الخام للخزف ومحاولة التميّز والتفرّد فيه عن غيره مما تصنعه مدنٌ أخرى حول العالم. إضافةً إلى تنظيم نقابةٍ خاصة تُعنى بصناعة البلاط والخزف وتهتم بشؤون صانعيه وحرفيّيه تتبع لحُكم وحماية القصر السُلطانيّ.
وبذلك، ازدهر الخزف صناعةً وتجارةً في إزنيك، وأنشأت الدولة تنانير ضخمة خارجة أسوار المدينة لتلبية متطلباته، فجذب انتباه التجّار في أوروبا، خاصة في مدينيْ البندقية وجنوا الإيطاليتين. وكان من المعروف أيضًا أنّ الدولة العثمانية كانت تخصّص بعضًا من منتجات إزنيك الخزفية كجزء من هداياها لأعيان ورؤساء الدولة الأخرى، أيْ أنه كان علامةً لحفاوتهم وإكرامهم.
يمكن تمييز الخزف والسيراميك الذي تمّ إنتاجه في تلك السنوات تبعًا للونه وأشكال منقوشاته، فما بين عاميْ 1480-1520 كان الخزف يعتمد بصورةٍ مباشرة على اللون الأزرق الداكن الذي تدعمه المنقوشات والزخرفات البيضاء. أما ما بين عاميْ 1520-1540 فقد ظهر اللون الأزرق الفيروزي معطيًا طابعًا مميزًا لتلك الفترة، إضافةً لاستخدام الأزهار، كمنطٍ زخرفيّ أساسيّ.
قطعتان من البلاط الإزنيكي تحمل كلًا من اللون الأبيض والأزرق والفيروزيّ وتعود لعام 1530
وفي نهاية العقد 1530 بدأ اللونان الأرجواني والأخضر الزيتونيّ يدخلان على الخزف والسيراميك، وغالبًا ما تمّ استخدام الزخارف الدائرية الكبيرة والتي ما مثّلت بشكلٍ أساسيّ “الرمّان” أو “الخرشوف” بشكلٍ واضحٍ وجليّ.
أما الفترة ما بين 1560-1600 فقد شكّلت أوج الصناعة سواء من ناحية الجودة والجمالية أو من ناحية الإنتاج والتجارة. وقد اعتمدت الزخارف في تلك الفترة على الألوان الفيروزيّ القوي والزمرد الأخضر والأسود والأحمر العميق، وغالبًا ما تمّ رسم الخطوط العريضة باللون الأسود إضافةً للاعتماد على زهرتي “التوليب” و”القرنفل” كنمطٍ زخرفيّ. يظهر هذا واضحًا في الأعمال الفنية والمعمارية التي أشرف على بنائها وخطط لها المعماريّ الأشهر في الدولة “سنان آغا”.
طبق فخّاري إزنيقي يرجع لعام 1590، يُظهر كيفية استخدام اللون الأحمر وأزهار التوليب والقرنفل في الزخرفة
زاوية في قصر “الباب العالي” في إسطنبول تُظهر الخزف والزخارف الإزنيكية التي تمّ استخدامها في التصميم
ومع بداية القرن السابع عشر، أي مع بدء تراجع السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدولة العثمانية، وبدء اهتمامها بالفنّ والعمارة الغربيّين وتقليدهما، بدأ نجم الخزف الإزنيكيّ بالخفوت، وباتت الدولة تعتمد على منتجات الخزف في بريطانيا وفرنسا، كجزءٍ من حملة التأثّر الغربيّ التي مسّت نواحي الدولة العثمانيية ككل.
كوب خزف إزنيقي يرجع لعام 1630 تقريبًا
ولم يعد ذلك النجم بالصعود ثانيةً إلا بعد إنشاء الدولة التركية الحديثة، تحديدًا في الستينات من القرن الماضي، حيث عملت الدولة على إنشاء مراكز البحث والتدريب والتعليم، لتجديد ثقافة الخزف في المدينة ومحيطها، والحفاظ على الآثار المتبقية فيها منذ مئات السنين ونقلها إلى الأجيال الحالية والمستقبلية.
واليوم، يمكننا القول أنّ جودة الخزف والسيراميك التي يتم إنتاجها وزخرفتها في إزنيك، قد استعادت جودتها الساطعة التي كانت عليها في القرن السادس عشر، ما يجعل من المدينة وجهةً لمحبّي هذا النوع من الفن، الراغبين بتجميع قطعه أو أولئك الذين يطمحون لتعلّم صناعته وزخرفته وتزيينه.
فإذا كنتَ محظوظًا بالسفر إلى مدينة بورصة، فلا تضيّع على نفسك الذهاب إلى إزنيك، والغوص في تاريخها وتاريخ خزفها وسيراميكها، سواء في مصانعها وورشها أو في متحفها الشهير. أو قد تذهب أيضًا إلى بلدة “كوتاهية” القريبة منها، والتي تحمل تاريخًا مماثلًا وتزخر بفنّ الخزف.