للمرة الثالثة على التوالي تتجه الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، الذراع المدني لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إلى تأجيل انتخابات البلديات التي كان تخطط لإجرائها في أغسطس/ آب المقبل، ورغم أن قرار التأجيل لم يصدر بشكل رسمي بعد، إلا أن وسائل إعلام مقربة منها أكدت ذلك.
وحسب ما نقلت وكالة “نورث برس” عن سكرتير حزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) نصر الدين إبراهيم، الخميس الماضي، فإن أحزابًا سياسية ستتقدم بطلب لتأجيل الانتخابات “لحين تهيئة ظروف مناسبة”.
وهي المرة الثالثة التي تؤجل فيها الإدارة الذاتية الانتخابات، حيث كان من المقرر عقدها في 30 أيار/ مايو الماضي، ثم تم تأجيلها إلى 11 يونيو/ حزيران 202، قبل أن تطلب المفوضية العليا للانتخابات في شمال شرقي سوريا تأجيلها مرة أخرى إلى أغسطس/ آب من العام الجاري، مرجعة السبب إلى “ضيق الوقت المخصص للفترة الدعائية”، و”لتأمين المدة اللازمة لمخاطبة المنظمات الدولية لمراقبة سير الانتخابات”.
التأجيل المتكرر من قبل “قسد” يرى فيه الكثير من المراقبين أنه تمهيد لإلغاء الانتخابات بشكل نهائي، حيث أكدت المصادر أن “واشنطن وفرنسا حذّرتا “قسد” من إجراء الانتخابات في الوقت الحالي جراء الرفض والتهديدات التركية للانتخابات، إلى جانب عدم توفر شروط تضمن إجراء الانتخابات بشكل آمن وديمقراطي في المنطقة”.
وحسب مراقبين، تسعى “قسد” تحويل الانتخابات البلدية إلى تتويج لسلسلة من الإجراءات القانونية والتشريعية التي نفذتها بشكل منفرد خلال الأشهر الأخيرة، ومن أبرز هذه الإجراءات التصديق على عقد اجتماعي جديد في مناطق سيطرتها، وإصدار قانون لتقسيمات إدارية لتلك المناطق، دون أن تشارك الأطراف والقوى السياسية والشعبية بفاعلية في هذه العملية. ما يعزز من هيمنة “قسد” على السلطة المحلية وتؤكد تفردها في اتخاذ القرارات.
تهديد تركي
منذ إعلان “قسد” عزمها على تنظيم الانتخابات، أعلنت تركيا معارضتها لهذه الخطوة كونها تهديدًا لـ”سلامة أراضي سوريا وتركيا”، معتبرة أنها “تمهيدًا لإقامة حكم ذاتي انفصالي على حدودها الجنوبية”، يخضع لسلطة تعدّها تركيا فرعًا سوريًا لتنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنّف على قوائم الإرهاب لديها.
التهديد التركي جاء من خلال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي صرح: “نحن نتابع عن كثب الأعمال العدوانية التي تقوم بها المنظمة الإرهابية ضد وحدة أراضي بلدنا وسوريا بذريعة الانتخابات… تركيا لن تسمح أبدًا للمنظمة الانفصالية بإقامة دولة إرهابية خارج حدودها الجنوبية في شمال سوريا والعراق”.
وإلى جانب التصريحات السياسية، تجلى الموقف التركي المعارض لهذه الانتخابات في زيادة الضغط العسكري، حيث شهدت المنطقة ارتفاعًا واضحًا في معدل الضربات الجوية التركية ضد الأهداف التابعة لحزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له، فقد نفّذ الطيران المسيَّر التركي خلال هذه الفترة 5 ضربات جوية ضد 7 أهداف متنوعة.
وحسب إحصائيات الضربات الجوية التركية ضد مواقع “قسد”، زادت أنقرة من ضرباتها الجوية ضد مواقع قسد منذ إعلانها إجراء انتخابات، حيث استهدفت في مايو/ أيار أهدافًا متعددة شملت آليات متحركة ونقاطًا عسكرية تابعة لـ”قسد” وقوى الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية “الأسايش”، إضافة إلى استهداف منشآت نفطية وغازية، وفقًا لتقرير صادر عن مركز جسور للدراسات.
التهديد والتصعيد التركيان يبدو أنهما حققا المهمة المطلوبة منهما، وهذا ما تجلى بشكل واضح في تأجيل الانتخابات، إلى جانب دعوات الحوار التي وجّهها زعيم “قسد”، مظلوم عبدي، إلى مختلف الأطراف ومنها تركيا في 20 يوليو/ تموز الماضي.
وقال عبدي: “لا يمكن حل الأزمة السورية عن طريق العنف والحرب والقتال، وأنهم مستعدون للحوار مع جميع الأطراف وكافة القوى ومن ضمنها تركيا”.
تأتي هذه الدعوات في إطار محاولة التهدئة مع الروس والنظام، حيث تخشى “قسد” من أن تنعكس نتائج عملية التطبيع بين تركيا ونظام الأسد عليها. وقد هدد الأتراك بذلك، مما دفع “قسد” إلى محاولة التهدئة وامتصاص الغضب التركي من خلال هذه التصريحات، وفقًا للباحث المختص بشؤون شمال شرقي سوريا في مركز عمران للدراسات، سامر الأحمد.
ويضيف الأحمد أن “قسد” تعمل على تفعيل الحوار الكردي- الكردي والحوار مع النظام والأتراك، خاصة في ظل هذه المرحلة، أي انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، لأن “قسد” متخوفة جدًّا من استغلال هذه الفترة الزمنية للهجوم عليها ومحاولة إضعافها.
رفض أمريكي
رغم أن الولايات المتحدة هي الداعم الرئيسي لـ”قسد”، إلا أنها بدت متحفظة تجاه إجراء الانتخابات المحلية، حيث دعت سلطات الإدارة الذاتية إلى التراجع عن هذه الخطوة.
وفي السياق، قال المكتب الإعلامي للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية: إن “أي انتخابات تجرى في سوريا يجب أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وشاملة، كما دعا قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ولا نعتقد أن الظروف حاليًا مواتية لإجراء مثل هذه الانتخابات في شمال شرق سوريا في الوقت الحالي”.
وأضاف المكتب: “لقد نقلنا ذلك إلى مجموعة من الجهات الفاعلة في شمال شرق سوريا، بما في ذلك الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا، لحثّها على عدم المضي قدمًا في الانتخابات في الوقت الحالي”.
الرفض الأمريكي ودعواتها إلى “قسد” بإلغائها كانت عبارة عن “رسائل طمأنة لتركيا بأن أمريكا لا تقيم أي علاقات مع قسد سوى في مجال مكافحة داعش، أي أن علاقاتها مع قسد وظيفية مرحلية مؤقتة”، حسب ما قاله عبد الله كدو، ممثل المجلس الوطني الكردي في الائتلاف الوطني.
وأضاف كدو لـ”نون بوست” أن الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط، بل يشمل عددًا من الدول الأوربية، بسبب أهمية العلاقات الاستراتيجية التركية الأمريكية من جهة، وعلاقتها مع بقية الدول الأوروبية من جهة أخرى، وذلك لما تملكه تركيا من أوراق مختلفة وأهمية استراتيجية كشريك في الناتو بالدرجة الأساس.
وكانت مصادر صحفية نقلت عن إلهام أحمد، القيادية البارزة في “مجلس سوريا الديمقراطية”، قولها إن “قرار إلغاء الانتخابات جاء بطلب ونصيحة من 5 دول غربية” دون أن تسميها، إلا أن مصادر مقرّبة من القيادية الكردية أوضحت أن هذه الدول هي “أمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا”.
“قسد” سلطة أمر واقع؟
يرى متابعون أن “قسد” كانت تهدف من خلال إجراء الانتخابات إلى إضفاء نوع من الشرعية على وجودها في المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرقي سوريا، إذ تعاني الإدارة الذاتية منذ تأسيسها عام 2104 من أزمة الشرعية، لذلك تحاول بكل الوسائل -وعلى رأسها الانتخابات- أن تصدّر نفسها على أنها قوى شرعية وطنية مستقلة، غير مرتبطة بأجندات إقليمية مثل “حزب العمال الكردستاني” من جهة، أو بالنظام وحلفائه من جهة ثانية.
هذه الحالة الوظيفية لـ”قسد” يوضحها الباحث سامر الأحمد، بالقول إن علاقة الولايات المتحدة بـ”قسد” مرتبطة بمكافحة “داعش”، وموقف أمريكا من إجراء الانتخابات هو إشارة واضحة أنها تريد إبقاء “قسد” كجسم وظيفي لمحاربة الإرهاب دون إعطائه أي نوع من الشرعية، التي قد تساعد “قسد” على المشاركة في العملية السياسية المستبعدة عنها حاليًا، مؤكداً أن الضغط الدولي على “قسد” هو من أجل إبقائها مجرد سلطة أمر واقع وعدم إعطائها حجمًا أكبر.
وكان تقرير صادر عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أكد أن “قسد” قامت بأعمال تهيئة الأساسات الدستورية والضغط من أجل الاعتراف الوطني والدولي بـ”الدويلة” التي تهدف إلى إقامتها في سوريا، مشيرًا إلى أن الانتخابات التي خططت لها كانت أداة لذلك.
وأشار التقرير إلى أن أكبر عقبة تواجه “قسد” هي الحقائق الديموغرافية وردّة الفعل العام للمجتمع الدولي، خاصة وأن قرابة 3 ملايين نسمة يعيشون في شمال شرقي سوريا، 76.6% منهم عرب و19.9% أكراد.
هل تتكرر تجربة كردستان العراق؟
يلاحظ من خلال الرفض الإقليمي والدولي للانتخابات التي تنوي “قسد” إجراءها، والتي تؤسس بحسب كثير من المراقبين لحكم ذاتي انفصالي، تكرار سيناريو تجربة استفتاء كردستان العراق عام 2107، والذي لاقى المعارضة نفسها من قبل إيران وتركيا التي لوحت وقتها بخيارات اقتصادية وعسكرية ردًّا على الاستفتاء الكردي.
كما لاقت معارضة من قبل الولايات المتحدة التي أكدت حينها على لسان وزير خارجيتها، ريكس تيلرسون، في 2017 أنها لا تعترف بالاستفتاء على انفصال كردستان العراق، مضيفًا أن التصويت والنتيجة يفتقران إلى الشرعية.
ورغم أن الباحث سامر الأحمد يرى أن هناك تشابه بين التجربتين إلى حد ما، يشير ممثل المجلس الوطني الكردي في الائتلاف الوطني، عبد الله كدو، إلى أنه لا يمكن مقارنة تجربة إقليم كردستان العراق بتجربة “قسد”.
ويقول الأحمد إن “قسد” تطمح لتكون مثل إقليم كردستان العراق، وتحاول أن تحصل على مكتسبات خاصة، لكن هذا الموضوع غير متاح حاليًا ولا مستقبلًا بسبب عدة عوامل محلية وإقليمية على رأسها الضغط التركي، الذي يرى في مشروع “قسد” تهديدًا استراتيجيًا لأمنه القومي.
في حين يرى كدو أن هناك إجماع أمريكي وغربي على دعم فدرالية إقليم كردستان المثبتة دستوريًا ضمن دولة العراق الاتحادي (الفدرالية)، لكن بالمقابل لا يوجد أي اعتراف سياسي بكيان “قسد” المسمّى إقليم شمال وشرق سوريا لأسباب كثيرة، منها وضوح علاقة تنظيم PYD بالعمال الكردستاني المدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية والأوروبية.