في مفاجأة من العيار الثقيل، خسر الإخوان والتيار الإسلامي بأكمله، إحدى قلاعه الحصينة في المنطقة – نقابة المهندسيين الأردنيين – التي كانت عصية على الاختراق منذ نحو ربع قرن؛ كانت حربًا بلا هوادة، زُج بالسياسة والدين والمثلية والاحتراب الإقليمي والصراع الأيديلوجي إلى الساحة، فطفا خطاب الكراهية على سطح الأحداث، ووقعت فيه كل الأطراف بلا استثناء.
انتهت المعركة بفوز أحمد سمارة الزعبي مرشح قائمة “نمو” بمنصب نقيب المهندسين، بحصوله على 7933 صوتًا، ليتجاوز مرشح قائمة “إنجاز” المحسوبة على الإخوان المسلمين، عبد الله عبيدات النقيب السابق الذي حصل على 6790 صوتًا، ليتجرع الإخوان هزيمة جديدة، تستحق التدبر والتأمل والتحليل.
ما وراء هزيمة الإخوان
لم تكن هزيمة الجماعة في الأردن مفاجأة لمن يتابع الشأن الإخواني، فالعقلية التي تحكم قياداتها ونظرتهم للأمور العامة لا تختلف كثيرًا عن إخوان مصر، خاصة أن الصراع على أشده بين أبنائها الموالين للدولة الذين انشقوا عن الجسد الأصلي للجماعة وأنشأوا كيانًا موازيًا حصل على شهادة الشرعية من السلطة واغتصب بقوة الدولة أملاك الإخوان القدامى الذين يديرون أزماتهم على ما يبدو من نفس الغرفة التي يدير منها إخوان مصر صراعهم مع السيسي، لا تجديد ولا ابتكار، بل الانزلاق عن رضا في مستنقع الصدام مع المجتمع والسلطة على حد سواء.
أزمة إخوان الأردن تلخصت بشدة في تعليق بعض قيادات الجماعة على هزيمتهم بنقابة المهندسين، وجاءت العبارات الأكثر وضوحًا عما يراه الإخوان سببًا دائمًا في هزائمهم بالمنطقة على لسان القيادي سعود أبو محفوظ الذي دس اتهامات بين سطور تهنئته للكيان الحاكم الجديد في النقابة، تمثل عن قرب مكنون فكر الجماعة تجاه كل من يناصبها الإخوان الخلاف بكل ألوانه.
أرجع القيادي البارز الخسارة الفادحة في “المهندسين” إلى ما أسماه تحالف اليسار بأنواعه مع المثليين واللادينيين، وكأنها كانت حربًا بين الإسلام وأشباح الظلام، وهي التبريرات المعلبة التي يحلو دائمًا لبعض تيارات الإخوان في المنطقة اللجوء إليها عندما ينتهى دور الحوار والعقل والمنطق ولا يبقى في المطبخ الإخواني إلا القدر الفارغ الذي يجب تغطيته حتى آخره بالماء ووضعه على النار لتسكين الصف وإيهامه أن الطعام قادم، ولكن بعد أن يكون قد أخذ حظه من النوم.
كتب أبو محفوظ على حسابه في “فيس بوك” قبل أن يضطر لإزالة منشوره لاحقًا بعد الهجوم الشرس عليه قائلاً: “بقايا اليسار بأنواعه، لها الحق الكامل للتحشيد ضد قائمة إنجاز في نقابة المهندسين، وكذلك الأمر لكل العلمانيين والليبراليين وأبناء الطوائف وفصائل حركة فتح القدامى والمستجدين من الملتزمين والمتفلتين وفروع القوميين والناصريين والبعثيين والماسون والمستغربين واللادينين والمثليين، وهؤلاء وأولئك أمة من الناس لا يستهان بعددهم”.
اللهجة التي استخدمت في التعليق على خسارة الإخوان للانتخابات، انتقلت سريعًا إلى السوشيال ميديا وتفشت لغة التحريض والانقسام بين نشطاء الإسلاميين والتيارات المدنية، بما أزاح الستار عن معركة سياسية بالدرجة الأولى وليس مجرد نزال نقابي في شأن مهني للارتقاء بالنقابة وتعزيز دورها في خدمة أبناء المهنة بما ينعكس على المجتمع بأكمله، وهو الأمر الذي تنبه إليه الناشط النقابي ذو التوجه الإسلامي عصام السعدي، وهاجم على الفور تصريحات أبو محفوظ قائلاً إنها أسوأ من الهزيمة نفسها، وتبعه وأيده أحمد أبو غنيمة القيادي الإسلامي، مطالبًا أبو محفوظ بالاعتذار، وهو ما حدث بالفعل.
سعود أبو محفوظ يعتذر عن الفهم المغلوط لحديثه في حق “المثليين واللادينين”
من السياسة لـ”الهندسة”.. أعداء الإخوان الجدد في الأردن
طوال ربع قرن، استحوذ التيار الإسلامي على نقابة المهندسين الأردنية؛ كانت من أوقاف الإخوان والإسلاميين من خلفهم، قبل أن تشكل مجموعة من المهندسين الشباب بلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف مهندس، آراء جديدة وتصورات مختلفة عن الأنماط الجامدة والسائدة منذ زمن طويل في النقابة.
التيار الجديد رغم حداثة تشكيله، إلا أنه وجد حشدًا هائلاً من الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، بل والدولة نفسها، وهو أمر متبع ومعروف في دعم كل ند قوي للإخوان، خصوصًا أن المجموعة الجديدة تبعد نفسها عن السياسة، وتؤكد دائمًا انحيازها للمهنة دون غيرها ورغبتها في خدمة الأعضاء بمختلف انتماءاتهم من إسلاميين ويسار وقوميين، بالإضافة إلى من وصفهم القيادي الإخواني بـ”اللادينين والمثليين”، وهو الخطاب الذي يمثله جيل شبابي استطاع اكتساح النقابة، خلال التسع سنوات الماضية، وتحديدًا منذ اندلاع الربيع العربي في المنطقة.
يتسرب تيار الزعبي إلى نقابات أخرى لملاحقة الإسلاميين في كل مكان، في ظل اللعب الواضح من هذه المجموعة الشبابية على زلات خطاب الكراهية الذي يصدر من بعض قيادات الإخوان
ويمكن استبيان رائحة التغيير في النقابة من الغضب المعلن لنقيب المهندسين الجديد بسبب التعبيرات المتطرفة التي تبادلها الإسلاميون واليسار خلال الاحتفال الرسمي والنقابي، وهو ما يعني أن تنصيب الزعبي بانفتاحه على الجميع وأفكاره الحداثية، ليس مجرد هزيمة في جولة واحدة، بل إعلان واضح عن خسارة الإخوان أرض جديدة ولفترات طويلة قادمة، بدعم من التيار القوي الذي يقف خلفه، ويبدو أنه يستطيع تهديد مستقبل الإخوان بشكل حقيقي.
وقد يتسرب تيار الزعبي إلى نقابات أخرى لملاحقة الإسلاميين في كل مكان، في ظل اللعب الواضح من هذه المجموعة الشبابية على زلات خطاب الكراهية الذي يصدر من بعض قيادات الإخوان، بما يعرض الجماعة للنقد الشديد، ومن الإسلاميين أنفسهم قبل غيرهم، خصوصًا أن هذه التعبيرات قد تشعل نار الرغبة في الانقضاض والساكنة تحت رماد الغضب ضد الجماعة في المحافل كافة، ويمكن التدليل على ذلك بتصريحات بسام حدادين وزير الشؤون البرلمانية السابق الذي اتهم الإخوان بالإرهاب وطالب باجتثاثهم من جذورهم، مطالبًا المجتمع الإردني بالعودة إلى ما وصفه بـ”دين الهاشميين”، في محاولة واضحة لاستعداء السلطة على الجماعة.
ما قاله حدادين ردده بشكل آخر الدكتور زيد محمد النوايسة أحد مشاهير التحليل السياسي في الأردن الذي رحب بهزيمة الإخوان القاسية، كما وصفها قائلاً: “هذه الليلة ليلة فارقة في تاريخ الأردن، وتجيب عن أسئلة يتردد صداها من إدلب وحتى الدوحة، على من أرادوا تجيير البلد ورهنها لمشروعهم السياسي أن يدركوا أن لا أحد يستطيع أن يستغفل القوى الحية، من اليوم لن تذهب أموال المهندسين لدعم القتلة والإرهابيين، مبروك لكل من ساهم في هذا التحول الوطني الكبير، وليكن الشعار الأساسي هو تطوير المهنة، بعيدًا عن منطق الاستيثار والاستثمار والتوظيف الحزبي”.
هل يحاسب الإخوان أنفسهم بعد كل هذه الإخفاقات؟
قد يكون السؤال الأكثر حاجة للرد عليه من الإخوان أنفسهم، دون الغوص في المظلومية والتشفع بها؛ فبعيدًا عن نقابة المهندسين والخسارة الكبيرة فيها، كانت السنوات الماضية التي هبطت فيها أسهم الإخوان في المنطقة برمتها محل هزائم للحالة الأردنية، وهي جزء كبير ومهم من المشهد العام للمعادلة الإخوانية في العالم، فخرجت نقابات المحامين والمعلمين من تحت قبضة الجماعة قبل أن تلحق بهما نقابة المهندسين قبل أيام.
نداءات كثيرة طالبت الجماعة مرارًا، بإعادة قراءة المشهد ووضع حلول واضحة للتعامل مع مستجداته، بعيدًا عن التجاذبات الأيدلوجية والاستسلام للصراع مع معارضيهم الذي يأخذ شكلاً هيستيريًا، إلا أن عناد القيادات التاريخية أعماهم حتى عن نصائح شبابهم ومناصريهم ومن يجيدون وضع الصورة في مكانها الصحيح من التيارات الإسلامية.
ليس معقولاً أن الشهرين كانت فترة كافية للتصويت من النقيض للنقيض، وهذه كانت صلب تعليقات فراس الصمادي القيادي اليساري الذي اعتبر هزيمة الإخوان في نقابة المهندسين، نتيجة طبيعية للتطور والتغيير، بعدما استنفد الإخوان مبررات وجودهم في هذا الكيان
يمكن تلخيص رؤية الإخوان الأحادية تجاه خسارة المهندسين، من تصريحات بادي الرفايعة القيادي بالإخوان وعضو نقابة المهندسين بالأردن الذي اعتبر أن القائمة الإخوانية واجهت تحالفًا واسعًا من أطراف الحكومة والأجهزة واليسار والقوميين وفتح والليبراليين الذين ضغطوا بكل الوسائل لإحراز تغيير في النقابة بعنوان جديد ولو شكليًا باسم قائمة جديدة نمو.
اكتفى الرفايعة بتقديم نقد ذاتي هامشي، واعتبر أن تحقيق القائمة الإخوانية لانتصارات كبيرة في الفترة السابقة وفي انتخابات الشعب الهندسية قبل شهرين تقريبَا، أسدل ستارًا من التراخي والشعور بسهولة المهمة، مع أن فترة الشهرين نفسها، ومن حديث القيادى الإخواني، لا يمكن الاستناد إليها في تشكيل وعي مختلف لإناس على درجة عالية من الثقافة، ويتشكل وعيهم الجمعي بناء على مصالح بالطبع، بجانب قراءات مستفيضة للأوضاع الراهنة.
وليس معقولاً أن الشهرين كانت فترة كافية للتصويت من النقيض للنقيض، وهذه كانت صلب تعليقات فراس الصمادي القيادي اليساري الذي اعتبر هزيمة الإخوان في نقابة المهندسين، نتيجة طبيعية للتطور والتغيير، بعدما استنفد الإخوان مبررات وجودهم في هذا الكيان واكتملت شروط تغيير هيمنتهم ذاتيًا وموضوعيًا، سواء على المستوى النقابي الهندسي أو الوطني، على حد تعبيره.