بعد انتصارها في سوريا.. هل تتحدى روسيا الأمريكيين في لبنان؟

gettyimages-930004078

يوم الأحد، أجريت في لبنان أول انتخابات برلمانية منذ تسع سنوات. وفي هذا الشأن، أعرب المواطنون عن تفاؤلهم، الذي يشوبه الحذر، بشأن إمكانية إحداث بعض التغييرات في صلب النظام السياسي الطائفي المتزمت في البلاد. ولكن، في الخفاء، تراقب إحدى القوى العالمية الكبرى لبنان بهدوء معتبرة إياه أرضية ملائمة لاستعراض قوتها في الشرق الأوسط وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط على حد السواء، إلا أن ذلك لن يتحقق بسهولة.

حسب ما جاء في صحيفة كريسشان ساينس مونيتور، في الوقت الذي تم فيه كبح جماح المعارضة السورية والمتطرفين، واستعداد نظام بشار الأسد لاستعادة سيطرته على البلاد، تعمل روسيا على ربط علاقات جديدة مع لبنان من خلال عقد صفقة أسلحة بقيمة مليار دولار، تمتد فترة سداد المبلغ على 15 سنة دون فوائد. وخلافا لسوريا، وفي ظل التركيبة السياسية الهشة في لبنان، لا يوجد على الساحة رجل قوي يمكن لروسيا التعويل عليه. لذلك، جعل عدم التوازن على مستوى القوى السياسية الصفقة المطروحة قائمة.

من جهتها، صرحت مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، مهى يحيى لمجلة نيوزويك، أن “هناك، من دون شك، محاولات لتوسيع نطاق القوة الناعمة الروسية في المنطقة. ومن المرجح أن يتجسد ذلك من خلال محاولات تعزيز التعاون العسكري، بالإضافة إلى توقيع اللبنانيين على صفقة الأسلحة، التي تم طرحها على طاولة النقاش خلال السنة الماضية”. وأضافت يحيى، أن “نتائج الانتخابات البرلمانية قد تساهم في جعل الكفة تميل ولو بشكل طفيف نحو تشكل معسكر موال لروسيا. لكن، ونظرا لتوازن القوى الهش، الذي تهيمن عليه الطائفية، في البلاد، ستظل هذه الفرضية بعيدة المنال في الوقت الراهن”.

لم تكتف روسيا بضمان نصر محتم للأسد في سوريا، بل عززت أيضاً وجودها العسكري في منطقة البحر الأبيض المتوسط على المدى الطويل من خلال إنشاء قاعدة بحرية قارة هناك واستئجار منشأتين على الساحل

أدى سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو إعادة إحياء نفوذ بلاده العسكري والسياسي، بعد حالة سبات منذ الحقبة السوفييتية في التسعينيات، إلى دخولها في صدام مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبرها مصدر تهديد نظراً لطموحها المتواصل في أن تكون القوة العظمى من دون منازع. ومن هذا المنطلق، اتهمت الولايات المتحدة، وعدد من حلفائها الغربيين روسيا بالتدخل في الانتخابات، فضلا عن شن هجمات سيبرانية ضدهم، ناهيك عن محاولة استفزازهم عسكريا، وبشكل خاص على الحدود المتوترة، التي تنتشر فيها قوات الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، مع روسيا.

في الحقيقة، طال الصراع الغربي الروسي منطقة الشرق الأوسط أيضاً. في هذا السياق، لم تكتف روسيا بضمان نصر محتم للأسد في سوريا، بل عززت أيضاً وجودها العسكري في منطقة البحر الأبيض المتوسط على المدى الطويل من خلال إنشاء قاعدة بحرية قارة هناك واستئجار منشأتين على الساحل، وهما القاعدة الجوية حميميم والقاعدة البحرية الواقعة في طرطوس. في حين سهل تعزيز الحضور العسكري الروسي في المنطقة، بحرا وبرا، عملية القضاء على بؤر تنظيم الدولة في جميع أنحاء البلاد، أمن ذلك أيضا جدار عازلا في وجه القوات العسكرية التابعة لحلف شمال الأطلسي المتمركزة في البحر الأبيض المتوسط.

وفقاً لما جاء في مجلة ناشيونال إنترست، أفادت التقارير الصادرة باللغة العربية عن وكالة الأنباء سبوتنيك الموالية لروسيا وقناة الميادين المؤيدة للنظام السوري في شهر شباط/ فبراير أن رئيس الوزراء الروسي، دميتري ميدفيديف أمر الجيش الروسي بالعمل على إرساء علاقات عسكرية مع لبنان، بهدف السماح للسفن الحربية الروسية باستخدام الموانئ اللبنانية. ومن المرجح أن غياب مثل هذه الأخبار في النسخة الإنجليزية للوكالة وعلى مختلف وسائل الإعلام المرموقة، فضلا عن المصير المجهول لصفقة الأسلحة، التي تبلغ قيمتها مليار دولار، يعكس عجز روسيا عن اقتحام الساحة اللبنانية بشكل سلس كما كان متوقعا.

قد يكون لبنان، الذي سبق أن عانى من حرب بين إيران الشيعية والمملكة العربية السعودية السنية المتشددة لكسب نفوذ في البلاد، والعالق الآن بين سوريا المضطربة وعدوه الإسرائيلي، أكبر تحدٍ تواجهه روسيا في الوقت الراهن. في الأثناء، يطغى على الحكومة اللبنانية الانقسام الطائفي بشكل واضح، حيث أن رئيسها مسيحي، في حين أن رئيس الوزراء مسلم سني، في الوقت الذي ينتمي فيه رئيس البرلمان إلى الطائفة المسلمة الشيعية. وتتوزع مقاعد البرلمان، التي يبلغ عددها 128 مقعدا، بالتساوي بين كلتا الطائفتين، المسيحية والمسلمة، التي بدورها تنقسم في صلبها المقاعد بين مختلف الأطياف المنتمية إليها.

غالبا ما يؤدي الاختلال في موازين القوى في لبنان إلى العنف. وقد كانت الحرب الأهلية التي نشبت بين سنة 1975 إلى حدود سنة 1990 والتي شارك فيها العديد من السياسيين والأحزاب، التي تحظى بمكانة بارزة في البلاد في البلاد، الأعنف بكل المقاييس. في الأثناء، تواصلت الصراعات حتى القرن الحادي والعشرين حيث تولد عن المشهد السياسي ظهور كتلتين رئيسيتين، تحالف 8 آذار وتحالف 14 آذار. ويعد التحالف الأول من الموالين لإيران، الشريك الاستراتيجي لروسيا في سوريا. عموما، ليس من الواضح ما إذا كانت العلاقة التي تجمع موسكو بطهران ستؤدي إلى خلق روابط مع حلفاء إيران في لبنان.

يوضح الرسم البياني كيف يتوزع 128 مقعدًا برلمانيًا بالتساوي بين الطائفة المسيحية والمسلمة. في كل دائرة انتخابية، يتم تقسيم المقاعد أيضًا بين الطوائف اعتمادًا على التركيبة السكانية المحلية. يتمثل أكبر حزب مسيحي في التيار الوطني الحر، ويعد تيار المستقبل أكبر حزب سني، في حين أن حركة أمل وحزب الله يعتبران من أكبر الأحزاب الشيعية.

المحلل الأمني المعني بالشؤون السورية والروسية، نيل هاور: “عرض روسيا الأخير الذي قدمته للبنان يأتي في الوقت الذي تتطلع فيه موسكو إلى استغلال مكانتها في المنطقة انطلاقا من تدخلها في سوريا”

في الكثير من الأحيان، اعتبر حزب الله، الجماعة اللبنانية الشيعية المدعومة من قبل إيران، التي يعود ظهورها إلى سنوات الحرب الأهلية والنضال المستمر للإطاحة بالاحتلال الإسرائيلي، من بين أكبر القوى شبه العسكرية في العالم. وقد تمكن حزب الله من المحافظة على سيطرته وسلطته في لبنان بعد انسحاب الجيش السوري من البلاد في سنة 2005، بالتزامن مع تأسيس تحالفي 8 و14 آذار.

من جانبها، اعتبرت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية حزب الله بمثابة منظمة إرهابية، كما اتهم بلعب دور في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري سنة 2005 من قبل العديد من أنصاره في تيار المستقبل السني. ويعد حزب الله قوة رائدة في تحالف 8 آذار، الذي اكتسب زخما كبيرا بعد توقيع مذكرة تفاهم سنة 2006 بين الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله وميشال عون، بعد عودته من المنفى في فرنسا.

انضم ميشال عون، مؤسس التيار الوطني الحر (الحزب الذي يتكون في معظمه من الموارنة) الذي عرف بعدائه الشديد للنظام السوري، إلى تحالف 8 آذار ليصبح في سنة 2016 رئيسا للبنان ومنهيا بذلك أزمة دامت 29 شهرا. وفي الوقت الذي تؤدي فيه تعقيدات النظام الطائفي في لبنان غالبا إلى إقامة تحالفات يشوبها التوتر بين خصوم سابقين، أعربت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والمملكة العربية السعودية عن قلقها إزاء عودة حزب الله إلى المشهد السياسي في لبنان. وقد فضلت واشنطن التحاور مع سعد الحريري، نجل الرئيس الراحل، رفيق الحريري، الذي يقود كرئيس للوزراء تحالف 14 آذار الموالي للغرب، والذي يحظى بدعم المملكة العربية السعودية.

على عكس الولايات المتحدة الأمريكية، تبنت روسيا مقاربة متعددة الأقطاب إزاء الشرق الأوسط. وبدلا من التركيز على حليف واحد في المنطقة، حافظت موسكو على اتصالات دائمة وودية مع كل من مصر ولبنان وإيران والعراق وإسرائيل وقطر والسعودية وسوريا وتركيا وبلدان أخرى. وبعد عرضها لأسلحة متطورة، على غرار نظام الدفاع الجوي إس-400، لمشترين إقليميين محتملين، بدا أن عرض روسيا الذي بلغت قيمته مليار دولار والمتعلق بتزويد القوات المسلحة اللبنانية، بمثابة امتداد لخطة بوتين الرامية إلى تعزيز نفوذه في المنطقة.

في تصريحه لمجلة “نيوزويك”، قال المحلل الأمني المعني بالشؤون السورية والروسية، نيل هاور، إن “عرض روسيا الأخير الذي قدمته للبنان يأتي في الوقت الذي تتطلع فيه موسكو إلى استغلال مكانتها في المنطقة انطلاقا من تدخلها في سوريا. لقد سجلت روسيا حضورها في كل دول المنطقة تقريبا، خاصة تلك التي تربطهم علاقة متوترة بالولايات المتحدة الأمريكية (مصر وتركيا على وجه الخصوص) لعرض المنتجات التي تتصدر قائمة صادراتها؛ ألا وهي الأسلحة”.

كما أضاف المحلل الأمني أن “ذلك ما يملأ الفجوة التي خلفتها المملكة العربية السعودية أيضا في لبنان نتيجة إلغائها لصفقة مساعدات عسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار في سنة 2016، بسبب مخاوف السعوديين المتعلقة بعزوف الحكومة والجيش اللبناني عن ردع حزب الله”.

 

صور (من اليسار إلى اليمين) الرئيس السوري، بشار الأسد، والأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وخالد الأسعد، المدير العام للآثار ومتاحف مدينة تدمر السورية، الذي وقع إعدامه. شوهدت هذه الصور في شرق مدينة دير الزور في 20 أيلول/ سبتمبر سنة 2017. وقد كان الدعم الجوي الروسي حاسما في مساعدة سوريا وحلفائها المدعومين من قبل إيران على استعادة المدن الكبرى، لكن يظل من المبكر معرفة ما إذا كانت الأهداف السياسية للدول الثلاث ستبقى متوافقة على المدى الطويل.

في هذا الصدد، أشار نيل هاور إلى أن “روسيا لا تربطها علاقة وثيقة بحزب الله بشكل خاص، لذلك يمكن أن تكون صفقة السلاح هذه بمثابة محاولة لدعم الجيش ضد الميليشيا الشيعية الموالية لإيران، في خطوة مشابهة لما حاولت الولايات المتحدة القيام به سابقا”. ويعتقد هاور أن “الهدف الرئيسي من هذه الصفقة يتمثل في تنصيب روسيا كلاعب أساسي في لبنان، وهو أمر يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تأخذه بعين الاعتبار في إطار تعاملها مع البلاد ولاعبيه السياسيين المتعددين. في الحقيقة، لا أعتقد أن روسيا ستنجح في مساعيها، لكن أعتقد أن ذلك هو هدفها”.

روسيا تريد أن تملأ الفجوة التي خلفتها المملكة العربية السعودية أيضا في لبنان نتيجة إلغائها لصفقة مساعدات عسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار في سنة 2016، بسبب مخاوف السعوديين المتعلقة بعزوف الحكومة والجيش اللبناني عن ردع حزب الله

منذ سنة 2016، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد تعهدّت بتقديم 1.6 مليار دولار للقوات المسلحة اللبنانية. من جانبه، يحاول الجيش اللبناني خلق مسافة بينه وبين حزب الله، على الرغم من أن القويتين المحليتين عملتا جنبا إلى جنب أثناء تصدّيهما لتنظيم الدولة وهيئة تحرير الشام، التي كانت تتبع تنظيم القاعدة سابقا، شرق الأراضي اللبنانية وبالقرب من الحدود السورية.

علاوة على ذلك، يشوب الغموض العلاقة التي تربط روسيا بحزب الله، اللذين عملا معا لدعم نظام الأسد. ولكن، لا تناسب علاقات موسكو مع كل من إسرائيل والسعودية أولئك الذين نصبوا أنفسهم ضمن “محور المقاومة” المناهض للغرب، الذي يضم حزب الله وإيران وسوريا. كما أصبح دور روسيا في المنطقة يثير الانزعاج في الوقت الذي تكثف فيه إسرائيل استهدافها لإيران وحلفائها في سوريا.

يتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إيران بإخفاء نواياها لتطوير أسلحة نووية، وذلك خلال مؤتمر عُقد في وزارة الدفاع في تل أبيب في 30 أبريل/ نيسان سنة 2018. كما يحاول نتنياهو حثّ دونالد ترامب على التفاوض أو الخروج من الاتفاق النووي التي أُبرم مع إيران في سنة 2015.

في الأثناء، يقف لبنان وسط هذه الصراعات. وعلى الرغم من فصل هذا البلد الذي يحمل جراحا عميقة خلفتها حربه الأهلية، عن الصراع القائم في سوريا، إلا أنه لا زال يتحمل وطأة أزمة اللاجئين وخرق مجاله الجوي مرارا وتكرارا من قبل الأطراف المتنازعة. وخلال الشهر الماضي، أدان عون غارة إسرائيلية مشبوهة استغلت المجال الجوي اللبناني لضرب مجموعة من القوات الإيرانية المتواجدة في قاعدة جوية سورية. وبعد أيام، استنكر الرئيس، مرة أخرى، الصواريخ الأمريكية التي تمر من فوق لبنان لتفجير منشآت الأسلحة الكيميائية المزعومة في دمشق وحمص. وقد تعهدت إيران وحلفاؤها بالرد على كلا الهجومين. في المقابل، تدخلت روسيا ودعت إلى التزام الهدوء.

في الوقت الذي تؤكد فيه روسيا على مكانتها كوسيط قوي في المنطقة، من المتوقع أن تتبنى المهمة الصعبة والمتمثلة في منع نشوب حرب بين إيران وإسرائيل. في هذا الإطار، قالت مهى يحيى لمجلة “نيوزويك” إنه مع تصاعد التوترات، قد يحتاج لبنان لروسيا على أمل أن تتمكن موسكو من وضع حد لدوامة العنف الخطيرة التي قد تدمر البلاد والمنطقة ككل جراء حرب جديدة، والتي من الواضح أن الولايات المتحدة قد اختارت أي جانب تسانده فيها. كما ذكرت يحيى أنه “في هذه المرحلة، يتطلع الكثيرون إلى احتواء روسيا للتصعيد الواضح بين إيران وإسرائيل ومنع نشوب صراع في لبنان”.

المصدر: نيوزويك