كشفت وزارة المالية السعودية بلوغ العجز في الموازنة العامة في الربع الأول من 2018 قرابة 34.3 مليار ريال (9.15 مليار دولار) بما يعادل نحو 18% من إجمالي عجز الميزانية المتوقع هذا العام والبالغ 52 مليار دولار بما قيمته 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي
الوزارة في بيان لها على موقعها الرسمي على الإنترنت، أمس الإثنين، قالت إن إجمالي الإيرادات في الأشهر الثلاث الأولى من هذا العام بلغت 166.3 مليار ريال بزيادة 15% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، فيما سجلت الإيرادات النفطية 113.9 مليار ريال والإيرادات غير النفطية 52.3 مليار ريال بارتفاع يبلغ 2% و63% على الترتيب مقارنة بالربع المقابل من 2017.
وزير المالية محمد الجدعان، في مؤتمر في الرياض عقد الأسبوع الماضي، قال إن السعودية تتجه نحو خفض عجز ميزانيتها إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، لافتًا إلى أن نتائج أداء الميزانية العامة للربع الأول من السنة تظهر “تقدمًا مهمًا” في نمو الإيرادات غير النفطية ورفع كفاءة الإنفاق في المملكة التي انكمش اقتصادها العام الماضي.
وبإعلان الأمس يدخل العجز في الموازنة العامة للسعودية عامه الخامس على التوالي، رغم الإجراءات التقشفية القاسية وتنويع مصادر الدخل عبر فرض رسوم وضرائب جديدة، هذا بخلاف الارتفاع الواضح في أسعار النفط الذي بلغ أعلى معدل له منذ عام 2014، وهو ما يضع العديد من التساؤلات عن مبررات هذا العجز وكيفية التعامل معه، خاصة أن الرياض كانت قد أعلنت قبل ذلك عزمها الوصول إلى ميزانية بلا عجز بحلول 2023.
خمس سنوات من العجز
حالة من الركود يشهدها الاقتصاد السعودي خلال السنوات الخمسة الأخيرة دفعته للتراجع في معدلات النمو وصلت إلى 2.3% عام 2016 وإن كانت تشير التوقعات إلى انخفاضها إلى 1.3% العام الحاليّ وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، لتجسد حجم الأزمة التي يعاني منها أحد أكبر اقتصادات العالم.
مظاهر عدة شهدتها المملكة خلال الآونة الأخيرة أزاحت النقاب بصورة كاملة عن الوضع الحقيقي للاقتصاد السعودي بعيدًا عن شعارات الاستقرار والتقدم المرفوعة من السلطات الحاكمة، منها اتجاه الرياض لأول مرة منذ عقود إلى الاقتراض من بنوك عالمية، كذلك مراجعة أو تجميد مشاريع غير مكتملة في البنية التحتية بمليارات الدولارات بهدف خفض عجز الموازنة الذي فشلت السياسات المتبعة في كبح جماحه خلال السنوات الماضية.
التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية ترجع ما يعاني منه اقتصاد المملكة كونه يعيش صدمة انخفاض أسعار النفط، فضلاً عما يواجهه من أزمة هيكلية جراء الاعتماد بشكل كبير على الريع النفطي وعدم تنويع مصادر الدخل والافتقار إلى إنفاق استثماري فعال وزيادة النفقات العسكرية جراء حرب اليمن وصفقات التسليح الضخمة، وهو المبرر الذي ربما يكون مقبولاً قبل ذلك، لكن مع وصول أسعار النفط إلى أعلى معدلاتها منذ 2014 خلال الفترة الأخيرة وتعديه حاجز الـ63 دولارًا للبرميل فهنا لا بد من وقفة.
الخبراء يرجحون عدم قدرة الاقتصاد السعودي على إحداث نقلة إيجابية على المدى القريب رغم إقرار “رؤية 2030” التي تقوم على عدة خطوات من بينها طرح شركة أرامكو العملاقة للاكتتاب العام، ويرونها لا تعدو كونها مسكنات لتهدئة الوضع لا معالجته بصورة كاملة.
بلغ العجز في الموازنة العامة في الربع الأول من 2018 قرابة 34.3 مليار ريال (9.15 مليار دولار) بما يعادل نحو 18% من إجمالي عجز الميزانية المتوقع هذا العام والبالغ 52 مليار دولار بما قيمته 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي
لم تنجح رؤية 2030 في إخراج الاقتصاد السعودي من مأزقه
وكالة “رويترز” في استطلاع رأي لها، كشفت أن من المتوقع انكماش الاقتصاد السعودي هذا العام، للمرة الأولى في ثماني سنوات، متأثرًا بانخفاض أسعار النفط وسياسات التقشف التي تضر بنمو القطاع الخاص، حيث خلص الاستطلاع الذي شمل 15 اقتصاديًا، إلى أن الخبراء خفضوا متوسط توقعاتهم للناتج المحلي الإجمالي السعودي في العام الماضي إلى انخفاض نسبته 0.5%، وسيكون هذا الانخفاض السنوي الأول من نوعه للاقتصاد السعودي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2009، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، وقد يزيد المخاوف بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادي بالمملكة.
جيسون توفي خبير اقتصاد الشرق الأوسط لدى كابيتال إيكونوميكس في لندن، علق على مؤشرات النمو الاقتصادي في السعودية مع نهاية 2017 بقوله: “مؤشرنا لتتبع الناتج المحلي الإجمالي يرجح أن يكون الاتجاه النزولي قد تعزز في بداية الربع الثالث”، وأضاف “الانخفاض النابع من قطاع النفط زاد فيما يبدو، بينما فقد القطاع غير النفطي بعضًا من زخمه”.
الهبوط المفاجئ لأسعار النفط – قبل ارتفاعه مؤخرًا – كشف وبصورة جلية ضعف البنية التحتية للاقتصادات النفطية، على رأسها السعودية كأكبر دولة مصدر للنفط في العالم، ويكفي الإشارة إلى أن رصيد صندوق الثروة السيادية للسعودية تراجع من 737 مليار دولار في 2013 إلى 514 مليار في مارس/آذار 2017 ويتوقع أن يشهد مزيدًا من التراجع في ظل السياسات الاقتصادية الحاليّة.
تراجع رصيد صندوق الثروة السيادية لم يكن الشاهد الوحيد على اختلال المنظومة المالية السعودية، بل تجاوز الأمر إلى أبعد ذلك، فللمرة الأولى منذ عقود طويلة تضطر الرياض إلى اللجوء للاقتراض المحلي والدولي على حد سواء، وهو ما ساهم في وصول قيمة الدين العام في الدولة النفطية الأولى في العالم إلى 100 مليار دولار رنهاية 2016؛ مما دفع الحكومة إلى البحث عن بدائل لسد هذا العجز، على رأسها إصدار صكوك وسندات للبيع في السوق الدولية، فضلاً عن طرح أسهم بعض شركاتها للخصخصة في مقدمتها شركة “أرامكو”.
السياسة التقشفية التي تبنتها المملكة خلال الآونة الأخيرة تناقضت وبشكل واضح مع توجهات ولي العهد محمد بن سلمان الرامية إلى ملء خزائن الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا بالمال السعودي إما في صورة صفقات سلاح أو استثمارات
إجراءات تقشفية قاسية
على مدار السنوات الماضية اتخذت السلطات السعودية حزمة من الإجراءات التي تسميها “الإصلاحية” من أجل سد العجز في الموازنة ومحاولة إحداث حالة من التوزان بين النفقات والإيرادات، دون اعتبار للتداعيات الناجمة عن هذه السياسات على المواطن السعودي.
الخطوة الأولى كانت رفع أسعار الوقود بنسب تجاوزت في بعض الأحيان 80% على عدة مراحل، وهو ما كان له أثره على أسعار السلع والخدمات المقدمة بالطبع، هذا بخلاف الزيادات الكبيرة التي فُرضت على العمالة الوافدة، اعتبارًا من مطلع شهر يوليو/تموز الماضي، بمبلغ 100 ريال شهريًا (26.6 دولار) عن كل مرافق يرتفع حتى 400 ريال (106.7 دولار) شهريًا بحلول عام 2020، كما شرعت الحكومة في رفع رسوم تجديد الإقامات التي سترتفع بواقع أربعة أضعاف بحلول 2020، فمن المخطط تحصيل الحكومة 24 مليار ريال (6.4 مليار دولار) من رسوم الوافدين في موازنة العام 2018، وفق التقديرات الرسمية، لتزيد إلى 44 مليار ريال (11.7 مليار دولار) في عام 2019، ولتقفز إلى 65 مليار ريال (17.3 مليار دولار) في عام 2020.
هذا بخلاف تطبيق ضريبة القيمة المضافة بداية من شهر يناير/كانون الثاني 2018، وهي ضريبة تُفرض على السلع والخدمات التي يجري بيعها وشراؤها، وتساهم بشكل كبير في رفع منظومة الأسعار وإنعاش خزينة الدولة بمليارات الدولارات، بجانب اعتزام الحكومة الاقتراض من المواطنين خلال هذا العام عبر طرح صكوك، في خطوة لجمع أكبر قدر من السيولة المالية التي ستوجه لتغطية جزء من عجز الموازنة العامة.
زيادة معدلات الفقر في المجتمع السعودي جراء الإجراءات الإصلاحية الأخيرة
السياسة التقشفية التي تبنتها المملكة خلال الآونة الأخيرة تناقضت وبشكل واضح مع توجهات ولي العهد محمد بن سلمان الرامية إلى ملء خزائن الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا بالمال السعودي إما في صورة صفقات سلاح أو استثمارات، هدف من خلالها الأمير الشاب إلى تسويق نفسه للعالم كونه الملك القادم للسعودية وهو ما أثار حالة من الجدل في الشارع السعودي خلال الآونة الأخيرة لا سيما الـ700 مليار دولار الممنوحة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، 500 منها في صورة صفقات خلال زيارته للرياض في مايو/آيار الماضي، والـ200 مليار الأخرى في صورة استثمارات خلال زيارة ولي العهد لواشنطن نهاية أبريل الماضي.
من المتوقع انكماش الاقتصاد السعودي هذا العام، للمرة الأولى في ثماني سنوات، متأثرًا بانخفاض أسعار النفط وسياسات التقشف التي تضر بنمو القطاع الخاص
ساهمت هذه الإجراءات القاسية في زيادة معدلات الفقر في واحدة من أغنى دول العالم، وهو ما كشفه تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية نقلته “الجزيرة” أفاد بتزايد معدلات البطالة والفقر في السعودية، مشيرًا إلى أن “ما بين مليونين وأربعة ملايين سعودي يعيشون على أقل من 530 دولارًا شهريًا” أي (17 دولارًا يوميًا)، وأن “الدولة تخفي الفقر بشكل جيد”.
الصحيفة نقلت عن ناشطين وتقارير ميدانية زيادة الظواهر المرادفة للفقر في المملكة مثل التسول، حيث يتكرر المشهد في ضواحي الأحياء الفقيرة بأحزمة المدن وحتى وسط المدن الكبرى، في تناقضات صارخة بين غنى فاحش وفقر مدقع.
ومن ثم، رغم الإجراءات كافة التي اتخذتها المملكة لسد العجز في الموازنة (فرض رسوم وضرائب جديدة على المواطنين والمقيمين على حد سواء، القيمة المضافة على السلع، بيع السندات والصكوك، الاقتراض الدولي، الحصول على عشرات المليارات من كبار رجال الدولة وأمرائها بزعم تورطهم في قضايا فساد)، ما زالت الموازنة العامة للسعودية تعاني من العجز للعام الخامس على التوالي.
وهنا سؤال يفرض نفسه بقوة: ماذا لو لم تفرض السلطات السعودية هذه الإجراءات؟ كيف سيكون حجم العجز في الموازنة إن لم يتم إنعاش خزائن وزارة المالية بمئات المليارات من الدولارات جراء الإجراءات الجديدة؟ كيف كان للمملكة إدارة منظومتها الاقتصادية وقتها؟