لا يمكن أبدًا إنكار أنّ مدرسة التحليل النفسيّ، بالرغم من كلّ عيوبها ومنقديها، قد زخرت منذ بدايتها وحتى يومنا هذا بالكثير من المفردات وولّدت الكثير من المصطلحات المهمّة، التي وفّرت وما زالت توفّر لنا وسائل ممكنة لمعرفة الذات والتفكير العميق فيها وبمعاناتها وغرابتها بمشاعرها وعواطفها وأفكارها ورغباتها.
وبالتالي، قد تكون هذه المدرسة، بدءًا من فرويد حتى اللحظة، بقاموسها الذي أنتجته، واحدةً من أنجع اختراعات القرن العشرين التي يمكن أن تكون طريقًا لك لتعرف ذاتك بكلّ بساطتها وتناقضاتها، إذ أنها تقترح أنّ المعرفة الذاتية هي الطريق الحقيقي الوحيد لجعل الحياة أقل خوفًا وإرباكًا وتخييبًا للآمال.
آليات الدفاع النفسيّ
تعرّف مدرسة التحليل النفسيّ، آليات الدفاع “Self-Defense Mechanisms” على أنها استراتيجيات نفسية يأتي بها العقل الباطن بهدف التلاعب بالأفكار والتحايل على العواطف أو تشويه الواقع وتغييره، وذلك لحماية النفس من المشاعر السلبية كالقلق أو التوتر وغيرها. فنحن نسعى بشكلٍ غريزيّ وفطريّ لحماية “الأنا” والحفاظ على صورة مقبولة لدينا من ذواتنا أمام أنفسنا أولًا وأمام من حولنا ثانيًا، لذلك فدائمًا ما نلجأ لهذه الآليات المتعددة لإنقاذ أنفسنا من الألم النفسي، من خلال تفسير سلوكياتنا وسلوكيات الآخرين بطرقٍ تؤكد حبنا لذواتنا ورغبتنا في حمايتها.
فنحن ننكر ونتجاهل ونكذب ونلوم الآخرين في سبيل حماية صورة ذواتنا وتجنيبها أيّ مشاعر سلبية محتمل مثل الشعور بالحزن أو الذنب أو التهديد أو العبء وغيرها. وعلى أنّ هذه الآليات تتعدد وتنوع، فمنها ما أثبته علم النفس، ومنها ما يزال قيد البحث والدراسة، ولا ريب أنّ الكثير منها أيضًا لم يتمّ تعريفه أو قد لا يمكن حصره في تعريفٍ أو مصطلحٍ موحّد.
يعلّمنا التحليل النفسيّ أنْ نكون أكثر منطقية وأقل دفاعيةً في تعاملنا مع حياتنا بمواقفها المتعددة، فمهما كانت تلك الآليات تساعد بشكلٍ أو بآخر في حماية الذات، إلا أنها ليست الحلّ أبدًا
على كلٍ، تتعدّد آليات الدفاع وتختلف وفقًا للموقف أو للشخص نفسه. ولتسهيل فهمها فيتمّ تصنيفها إلى عدة أصناف رئيسية هي: آليات الدفاع المَرَضية والتي تؤدي لاضطرابات نفسية لاحقة، الإنكار مثالًا. ثمّ هنالك الآليات العصابيّة التي لا توفر طريقة ناجحة في التعامل مع المشاعر السلبية والتجارب الشخصية المؤلمة لا على المدى القصير أو الطويل مثل التبرير أو المنطقة. والآليات غير الناضجة التي توفّر شعورًا مؤقتًا بالراحة غير أنها لا تساعد في التعامل مع المشكلة على المدى البعيد مثل الإسقاط. وأخيرًا هنالك الآليات الناضجة التي تساعد فعليًا في توفير طرقٍ صحية للتعامل مع المشاكل والمشاعر السلبية التي تعتري الفرد مثل التسامي.
يعلّمنا التحليل النفسيّ أنْ نكون أكثر منطقية وأقل دفاعيةً في تعاملنا مع حياتنا بمواقفها المتعددة، فمهما كانت تلك الآليات تساعد بشكلٍ أو بآخر في حماية الذات، إلا أنها ليست الحلّ أبدًا. وإنما يكمن الحلّ في تقبّلنا للمسؤولية وامتلاكنا الشجاعة لمواجهة تلك المواقف بتفهّم أكبر لنقاط ضعفنا كبشر من جهة وإمكانية تعرّضنا للأذى والألم النفسيّين في أيّ وقتٍ من جهةٍ أخرى.
كما يخبرنا التحليل النفسيّ أيضًا أنّنا لن نستطيع التوقف عن استخدام هذه الآليات مهما حاولنا، فهي جزء متأصل ومتجذّر في تكويناتنا النفسية المعقدة، لكنّ وعينا بها يجعلنا أكثر إدراكًا لها عند استخدامها، وبالتالي مساعدتنا في مواجهة حقائق الأمور وتفاصيل الواقع بطرقٍ أكثر عقلانية لا تقودنا للهرب أو الخداع.
التسامي
يُعرف التسامي “Sublimation” ببساطة على أنه توجيه الأفكار والمشاعر والاندفاعات السلبية أو غير المقبولة إلى سلوكيات أكثر إيجابية وقبولًا للفرد والمجتمع من حوله. كأنْ يتجه الواحد منّا من قلقه واكتئابه إلى كتابة الشعر أو تعلّم الموسيقى، أو قد يميل أحدنا لممارسة الرياضة أو تعلّم فنون القتال بهدف تقنين غضبه وتوجيه مشاعره السلبية.
فان غوخ، الرسام المشهور، عانى لسنين طويلة من مشاكل عقلية واضطرابات نفسية عديدة، إذ يعتقد كثير من المؤرخين أنه عانى من الصرع أو من الاضطراب ثنائي القطب أو كليهما، لكنّ ذلك لم يمنعه من توجيه أفكاره السلبية الناتجة عن اضطراباته إلى ما هو أسمى من ذلك وأجلّ.
يعطينا كلٌّ من الفنّ والموسيقى دليلًا واضحًا وقويًّا على أنّ الدوافع العدوانية أو المشاعر السلبية يمكن إعادة توجيهها لدى الفرد وتحويلها إلى ما هو مفيد ومثير للإعجاب للمجتمع، لكن إذا عرف الفرد كيف يتسامى بأفكاره السلبية ومشاعره المقلقة ويحوّلها إلى إيجابية تمكنه من السيطرة على نفسه.
مبدأ اللذة
في نظريته بالتحليل النفسيّ، يرى فرويد أنّ “اللذة” أو “المتعة” هي القوة الدافعة للأنا لإشباع احتياجاتها وحوافزها ودوافعها ورغباتها بشكلٍ فوريّ. وبعبارة أخرى، يسعى “مبدأ المتعة” إلى تلبية مطالبنا الأساسية والأكثر بدائية، بما في ذلك الجوع والعطش والغضب والجنس، وعندما لا يتم تلبية هذه الاحتياجات، فإنّ النتيجة هي حالة من القلق أو التوتر.
يخبرنا التحليل النفسيّ أنّنا، ولكيْ نعيش بشكلٍ جيد، قد نضطر في بعض الأحيان لأنْ نشنّ حربًا ضدّ غرائزنا ورغباتنا أو أنْ نخضعها للتأجيل دون أن نتلذّذ فيها فوريًا
في بعض الأحيان يشار إليها باسم مبدأ المتعة أو مبدأ الألم. وهذه القوة المحفّزة تساعد على توجيه سلوك الفرد نحو تلبية احتياجاته ورغباته ولكنّها في الوقت نفسه أيضًا تسعى للحصول على رضىً فوري. وبذلك، فإنّ السعي وراء الإشباع الفوري غالبًا ما يتعارض مع بعض الشؤون الأخرى، مثل رفاهية الآخرين أو نموّنا النفسيّ على المدى الطويل.
قد يكون أكثر إرضاءً لك، أو على الأقل أقل إيلامًا، أنْ تكون غاضبًا أو منفعلًا من أنْ تشعر بالأذى النفسيّ أو الإهانة الشخصية، أو أنْ تتمتّع بكسلك على أنْ تقوم بعملٍ ما مملّ أو تراه صعبًا. لذلك، يخبرنا التحليل النفسيّ أنّنا، ولكيْ نعيش بشكلٍ جيد، قد نضطر في بعض الأحيان لأنْ نشنّ حربًا ضدّ غرائزنا ورغباتنا أو أنْ نخضعها للتأجيل دون أن نتلذّذ فيها فوريًا.
التنفيس أو التطهير
استعانت مدرسة التحليل النفسي بمصطلح أرسطو “التطهير” أو “التنفيس”، Catharsis بالإنجليزية، كنايةً عن تنقية نفوس المشاهدين للمسرحية أو الدراما بإثارة خوفهم مما يحدث للبطل وتحريك كوامن شفقتهم ورحمتهم، وهي فكرة ترجع أصولها إلى معالجة الداء بالداء فيعالج الداء الحقيقي الواقعي عن طريق إثارة شبيهة المتخيل غير الواقعي إثارة فنية قائمة على حشد المشاعر وتوجيهها بغاية تطهير النفس.
يخبرنا التحليل النفسيّ بضرورة الغوص فيما وراء أفكارنا وعواطفنا، والتفكير مليًّا في أسبابها وتاريخها وسيرورتها، دون تجنّبها أو قمعها، تفكيرًا يمكّننا من الغوص وراء ذواتنا والتأمل فيها كقصةٍ يمكن روايتها وتتبع أحداثها وتفاصيلها.
أما وفقًا للتحليل النفسيّ، فالتنفيس هو العملية التي تأتي من خلالها العواطف المرتبطة بالأحداث المؤلمة إلى السطح، وترتبط بالقضاء على العواطف السلبية أو السلوكيات المرتبطة بصدمة غير معترف بها. وكثيرًا ما يكون التنفيس جزءًا لا يتجزأ من العلاج الذي يعالج الذكريات أو الصدمات المكبوتة. كما تعرّفه الجمعية الأمريكية للطب النفسي العملية بأنه “عملية تفريغ أو تدفق للآثار المرتبطة بالأحداث الصادمة التي سبق قمعها بجلب هذه الأحداث إلى الوعي وإعادة اختبارها ودراستها”.
الغرض من هذا التنفيس هو إحداث نوع من التغيير الإيجابي في حياة الفرد، من خلال التعبير الواعي عن العواطف القوية، الأمر الذي قد يُكسب المرء فهمًا أكبر لها وأفكارًا جديدة عنها. لذلك، يخبرنا التحليل النفسيّ بضرورة الغوص فيما وراء أفكارنا وعواطفنا، والتفكير مليًّا في أسبابها وتاريخها وسيرورتها، دون تجنّبها أو قمعها، تفكيرًا يمكّننا من الغوص وراء ذواتنا والتأمل فيها كقصةٍ يمكن روايتها وتتبع أحداثها وتفاصيلها.