ترجمة وتحرير: نون بوست
ترفرف أعلام حزب الله ذات اللون الأصفر لأميال على طول الطريق السريع المؤدي إلى مدينة بعلبك، المدينة اللبنانية المحاذية للحدود مع سوريا. وتتخذ هذه الأعلام من أعمدة الإضاءة مكانا لها، حيث يمكن تبين صور زعيم الحزب، حسن نصر الله، أيضا. وتظهر بعض هذه الصور نصر الله والابتسامة تعلو محياه، في حين تطغى على وجهه، في صور أخرى، الجدية وهو يلوح بيديه. تجدر الإشارة إلى أن فحوى الرسالة التي حملتها الأعلام المرفرفة والموجهة للناخبين كانت بسيطة للغاية، حيث جاء فيها: “نحمي ونبني”.
في المقابل، اعترض الرئيس السابق لبلدية بعلبك، غالب ياغي، على هذه الرسالة. والجدير بالذكر أن ياغي خاض غمار الانتخابات البرلمانية اللبنانية خلال الأسبوع الفارط. وتعتبر هذه الانتخابات هي الأولى من نوعها منذ تسع سنوات، حيث سبق أن تم تمديد ولاية البرلمان الحالي في مناسبتين بتعلة المخاوف الأمنية المتعلقة بالحرب التي تدور رحاها في الجارة، سوريا.
تعاني المحافظة التي تعرف باسم بعلبك ـ الهرمل من انعدام الأمن (فعلى سبيل المثال، تحول نزاع على علاقة بالانتخابات إلى تبادل لإطلاق قذائف الهاون)، وهو ما عرقل السياحة والاستثمار
بينما كان متكئا على أريكة في مقر حملته الانتخابية، تطرق ياغي للحديث عن حزب الله واصفا إياه “بالفشل السياسي”، والمتورط بشكل كبير في الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، مما يصرف نظره عن تطوير إستراتيجية لتحسين حياة المواطنين. بالإضافة إلى ذلك، يعمل مقاتلو حزب الله على تدريب المتمردين الشيعة على قتال الجنود الأمريكيين في العراق، كما يضطلعون في الوقت الحالي بدور هام لدعم نظام بشار الأسد في سوريا. من جانبها، ترى الولايات المتحدة الأمريكية في حزب الله تنظيما إرهابيا.
في الأثناء، تعاني المحافظة التي تعرف باسم بعلبك ـ الهرمل من انعدام الأمن (فعلى سبيل المثال، تحول نزاع على علاقة بالانتخابات إلى تبادل لإطلاق قذائف الهاون)، وهو ما عرقل السياحة والاستثمار. وتعتبر بعلبك ـ الهرمل واحدة من أفقر المناطق في لبنان، حيث يعيش أكثر من 40 بالمائة من السكان فيها تحت خط الفقر، فيما يعاني أكثر من نصفهم من البطالة.
في الواقع، يستند النظام السياسي في لبنان إلى ترتيبات قائمة على تقاسم السلطة بين الطوائف المختلفة في البلاد، وذلك مع عدد محدود من المقاعد في البرلمان لا يتجاوز 128 مقعدا لكل مجموعة. وتعكس سياسة البلاد الصراعات الأكبر حجما في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعمل محليا على تأليب الصراعات بين حزب الله المدعوم من قبل إيران وبين الأحزاب السنية التي تستمد قوتها من المملكة العربية السعودية. أما على الصعيد الدولي، فتعمل هذه السياسة على تعميق المواجهة بين إيران وإسرائيل، التي قال حزب الله إنه يسعى للقضاء عليها.
ردا على نتائج الانتخابات، صرح الوزير الإسرائيلي الذي ينتمي للتيار اليميني، نفتالي بينيت، أن لبنان تعني حزب الله، وأن بلاده لن تميز بينهما، على الرغم من أن نصيب حزب الله من العدد الإجمالي للمقاعد في البرلمان اللبناني يعتبر ضئيلا.
أمسى من الواضح أن الناخبين عمدوا إلى معاقبة أكبر حزب ضمن الكتلة السنية في البلاد نظير سنوات من ممارسته سوء الإدارة بشكل ملحوظ
قد يبدو من السهل على المرشح الانتخابي كسب الأصوات من خلال الثرثرة حول فشل الحزب الحاكم في تحسين وضع اقتصادي صعب كالذي يعيشه لبنان، ولكن الحال يختلف في بعلبك، إذ مُني ياغي بهزيمة نكراء. كما كان الأمر سيانا بالنسبة لكل مرشح شيعي قاد حملة انتخابية ضد حزب الله. وفي الوقت الذي أمنت فيه قائمة ياغي مقعدا سنيا وآخر مسيحيا في المنطقة، تمكن حزب الله وحلفاؤه من الحصول على 26 مقعدا من أصل 27 مخصصا للشيعة في جميع أنحاء البلاد.
حيال هذا الشأن، استشهد ياغي بقول مأثور مفاده أنه :”في حال قمت بتجويع كلبك، فسيقوم بتتبعك”. وأضاف رئيس البلدية السابق أن “معدلات البطالة بلغت مستويات مرتفعة للغاية في بعلبك، ويعجز الشبان عن إيجاد عمل. في المقابل، يوفر حزب الله البديل، حيث يشجع شباب المدينة على الانضمام إلى صفوفه مقابل الحصول على 400 دولار شهريا، ثم يدفعهم للخروج والقتال في مكان ما، ليعودوا إلى منازلهم في صناديق خشبية حاملين صفة ‘شهيد'”.
مع ظهور نتائج الانتخابات، أمسى من الواضح أن الناخبين عمدوا إلى معاقبة أكبر حزب ضمن الكتلة السنية في البلاد نظير سنوات من ممارسته سوء الإدارة بشكل ملحوظ. ومع ذلك، كانت هناك قصة مختلفة تتردد داخل المناطق التي يمثل الشيعة أغلب سكانها. فحزب الله لم يفز بالانتخابات في الجنوب اللبناني فحسب، بل سيطر عليها. وحتى في حال جمعت القوائم التي ترشحت ضد الحزب الشيعي أصواتها، فلن يتسنى لها تحصيل عدد كاف من الأصوات للحصول على مقعد واحد.
في الوقت الحالي، يبسط حزب الله وحلفاؤه سيطرتهم على أغلبية المقاعد في البرلمان اللبناني، وهو نصر سيستخدمه الحزب كدليل على الدعم الشعبي الذي يحظى به بسبب تدخله في سوريا، فضلا عن الموقف الذي يتبناه إزاء إسرائيل، وتحالفه الإقليمي الأوسع نطاقا مع إيران. وبطبيعة الحال، يتمتع حزب الله بشعبية كبيرة بين الأوساط الشيعية في البلاد نظرا للرسالة التي دأب على نشرها، والتي تفيد بأنه سيسعى دائما للذود بالبلاد عن التهديدات الخارجية، سواء كانت من طرف إسرائيل أو سوريا. ويبدو هذا الأمر حقيقيا بالنسبة للعديد من ناخبي الحزب، الذين يرون أن حسن نصر الله لا علاقة له بالفساد، على عكس المؤسسات السياسية الأخرى.
“حزب الله يستخدم الورقة الطائفية، ويطمح إلى الدفع بجميع الشيعة إلى السير وراءه. إنهم يأخذون بيد الأشخاص الذين يعانون من الجوع ويقدمون لهم الإعانات، فضلا عن امتلاكهم لأسلحة وأموال لا يمتلكها أحد غيرهم”
في المقابل، تساهم الموارد السياسية التي تقع تحت تصرف حزب الله، والتي تشمل قوة مسلحة ومؤسسة لدعم العائلات التي لقي أبنائها حتفهم أثناء قتالهم تحت راية الحزب الشيعي، في تقزيم موارد الأحزاب الأخرى. علاوة على ذلك، يقدم ضعف الدولة اللبنانية ورقة رابحة لحزب الله، مما يتيح له الترويج لنفسه على أنه القوة الوحيدة القادرة على حماية مؤيديها من الأعداء الذين يترصدون بالبلاد في الداخل والخارج.
عموما، ساهمت هذه المزايا المتعددة في طرح الأطراف المعارضة للحزب الشيعي لتساؤلات حول ما إذا كان الإخفاق الحكومي كبيرا بما يكفي كي يخسر حزب الله في الانتخابات. في هذا الصدد، صرح ياغي أن “حزب الله يستخدم الورقة الطائفية، ويطمح إلى الدفع بجميع الشيعة إلى السير وراءه. إنهم يأخذون بيد الأشخاص الذين يعانون من الجوع ويقدمون لهم الإعانات، فضلا عن امتلاكهم لأسلحة وأموال لا يمتلكها أحد غيرهم”.
يبدو أن غالب ياغي اعتاد القتال من أجل قضية خاسرة، حيث سبق له تولي منصب رئيس بلدية مدينة بعلبك لولاية واحدة، والتي ركز خلالها على تطوير الاقتصاد والدفع بالسياحة، المرتبطة أساسا بالآثار الرومانية الرائعة في المدينة، إلى الأمام. في ذلك الوقت، كان لبنان خاضعا للاحتلال السوري. وحين أراد ياغي الترشح للفوز بولاية ثانية في سنة 2004، أخبره ضابط المخابرات السورية المسؤول عن المنطقة آنذاك بألا يترشح.
في هذا الإطار، نقل ياغي عن ضابط المخابرات أن الرئيس السوري، بشار الأسد، أراد منح بلدية بعلبك لحزب الله كي يظهر للولايات المتحدة الأمريكية أن الجماعة الشيعية ليست منظمة إرهابية، بل حزب سياسي يتمتع بدعم شعبي. من جهته، لم يلق ياغي بالا لأوامر المسؤول السوري وارتأى خوض غمار الانتخابات التي قال إنها مزورة بعد أن خسر فيها.
تماما مثلما هو الحال بالنسبة للمرشحين الشيعة الذين ينافسون حزب الله في سباق الانتخابات البرلمانية، ابتعد ياغي عن انتقاد دور حزب الله كقوة عسكرية. وتجدر الإشارة إلى أن مقاتلي الحزب الشيعي اللبناني شاركوا في المعارك في سوريا والعراق، كما دربوا الجماعات الموالية لإيران في كلا البلدين، ومن المرجح أنهم قدموا بعض الدعم لحلفاء إيران في اليمن أيضا.
من جانبه، أورد ياغي أن خطيئة حزب الله من البداية كانت دخوله معترك السياسة في سنة 1992، مبينا أنه كان من الأجدر له ترك العمل الفوضوي المرتبط بالحكم لغيره بكل بساطة. ولدعم هذا الرأي، قال ياغي :”نحن لسنا ضد حزب الله كحركة مقاومة طالما أنها تقاوم بالطريقة الصحيحة. لكن، يدور خلافنا معهم حول تنمية المدينة، فهم يريدون الانتظار حتى يفرغوا من تحرير كافة المناطق التي يشاركون في الحروب القائمة عليها، ومن ثم توجيه انتباههم للتنمية”.
في الواقع، ليس هناك أدنى شك حول صحة ما قاله ياغي بشأن حاجة المنطقة إلى التنمية الاقتصادية، وهو ما تطرق له رامي اللقيس، مؤسس الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب، المنظمة التنموية التي يقع مقرها في بعلبك. فقد أشار اللقيس إلى تدفق اللاجئين السوريين إلى المنطقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة ليشكلوا بذلك ثلث العدد الإجمالي لسكان المدينة تقريبا. بالإضافة إلى ذلك، يرى اللقيس أن هؤلاء اللاجئين يتنافسون مع اللبنانيين ذوي الدخل المحدود على الوظائف، كما يمثلون ضغطا على المؤسسات الضعيفة في المنطقة، خاصة تلك التي تعنى بإمدادات المياه، التي تعتبر عاملا حاسما في قطاع الزراعة.
في تحول مغاير مقارنة بالحملات السابقة، ركز المسؤولون في حزب الله على التنمية ومكافحة الفساد كمواضيع رئيسية، بدلا من التركيز على نضالهم ضد”إسرائيل” ومشاركتهم في النزاع السوري
في حديثه عن الوضع في مدينة بعلبك، أضاف اللقيس أن منظمته تتلقى الآلاف من طلبات العمل، حيث قال: “نحن ندير مطبخا لتوفير الطعام للأسر الفقيرة. وفي البداية، كنا نظن أن هذا المطبخ سيكون موجها بشكل أساسي للسوريين ولا يمكن أن يقصده مواطنون لبنانيون، لكننا وجدنا الآن أن اللبنانيين يحتاجون أيضا للحصول على الطعام من أجل أسرهم”.
في الحقيقة، بدا أن خطاب الحملة الانتخابية لحزب الله يقر بالمشاكل الاقتصادية كضعف سياسي محتمل. وفي تحول مغاير مقارنة بالحملات السابقة، ركز المسؤولون في الحزب على التنمية ومكافحة الفساد كمواضيع رئيسية، بدلا من التركيز على نضالهم ضد إسرائيل ومشاركتهم في النزاع السوري. وحيال هذا الشأن، قال حسن نصر الله في خطابه الأخير قُبيل الانتخابات: “سيعالج حزب الله وحلفاؤه أوجه القصور الخطيرة، كما سيتلافى الأخطاء التي أُرتكبت في الماضي”.
في المقابل، يرى مؤيدو حزب الله أن هذه الأخطاء تكتسي أهمية ثانوية نظرا للدور الأمني القوي الذي يلعبه الحزب الشيعي الأكثر شعبية في البلاد. ويمكن القول إن الحزب نجح في إقناع الغالبية العظمى من الناخبين الشيعة في بعلبك بأن التصويت لصالحه يمثل تعبيرا عن دعمهم لدور الحزب في حمايتهم مما يرونه تهديدات قادمة من سوريا وإسرائيل. في الوقت ذاته، انتقد نصر الله الأشخاص المعارضين لحزبه، وقال مخاطبا مؤيديه أن هؤلاء المعارضين “تآمروا مع الجماعات المسلحة لاحتلال مدنكم”. وفي هذا القول تكرار للمزاعم السابقة للأمين العام التي أفاد فيها أن السياسيين المعارضين له هم حلفاء لتنظيم الدولة وعدة جماعات سنية أخرى.
نتيجة لهذا الخطاب، وجد السياسيون الشيعة، الذين كانوا يطمحون لهزيمة حزب الله في صناديق الاقتراع، أنفسهم في وضع صعب. ولتلافي ذلك، أرادوا فصل قوة حزب الله العسكرية القوية عن الحملة وخوض غمار الانتخابات اعتمادا على القضايا المحلية فقط، في حين أظهر حسن نصر الله توجهات الناخبين على أنها ذات مسارين، إما ضد حزب الله أو معه. ولطالما كررت شخصيات شيعية معارضة أن نصر الله لم يكن يريد ضربهم في الانتخابات فحسب، بل أراد إسكاتهم بالكامل.
هناك ضغوطات بطرق معينة، حيث يعتمد الناس على العديد من الأطراف لكسب قوتهم اليومي، مما يحيل إلى حقيقة وجود دويلة داخل الدولة
من جهته، صرح يحيى شمس، وهو عضو سابق في البرلمان كان قد ترشح ضد حزب الله في مدينة بعلبك، أن “السيد حسن نصر الله يريد أن يثبت أنه هو وحلفاؤه أصحاب القرار المتعلق بالشيعة في لبنان. لكن، هناك شركاء آخرون في بعلبك ـ هرمل، ولا يمكن لحزب الله احتكار القرار وإغلاق المجال أمام الآخرين”.
مع ذلك، من المرجح ألا تحدث الانتخابات تغييرا جذريا على مستوى الطريقة التي يُحكم بها لبنان. فحتى الأحزاب التي تم تجاهلها في صناديق الاقتراع بإمكانها استرجاع مكانتها بعد إجراء مفاوضات مطولة لتشكيل ائتلاف حاكم. ومن هذا المنطلق، دفعت التدابير، التي سعت النخب السياسية إلى ترسيخ حكمها، أحد السياسيين إلى الاعتقاد بأن لبنان ليس دولة ديمقراطية، وإنما “حكم أقلية بلوتوقراطية”. وبالنسبة للسياسيين الشيعة الذين حاولوا معارضة حزب الله، من الصعب تبرير النتيجة على أنها انعكاس للإرادة الشعبية.
في النهاية، علق ياغي قائلا إنه “من المفترض أن يكون لبنان بلدا ديمقراطيا، حيث يتمتع كل شخص بحرية اختيار الإدلاء بصوته لمن يراه أهلا لذلك. لكن الواقع يختلف عن ذلك، حيث لا يمكنك التصويت لمن تريد الإدلاء بصوتك لصالحه. إن هناك ضغوطات بطرق معينة، حيث يعتمد الناس على العديد من الأطراف لكسب قوتهم اليومي، مما يحيل إلى حقيقة وجود دويلة داخل الدولة. وفي الواقع، هذه الدويلة أشد قوة من الدولة نفسها”.
المصدر: الأتلنتك