في مخيمات الشمال السوري صاح الأب عن بعد ثلاثين خيمة أطفالي داخلها وهي تغرق بالماء، تساقط المطر بغزارة عند منتصف الليل بعدما نهض من فراشه إلى الخلاء، كان يحمل في يديه إبريقًا لاستخدامه هناك، وصل منتصف الطريق وهو ينادي: أطفالي ما زالوا نائمين في الخيمة، تبللت الثياب وغاصت القدمين في التراب واقتلعت الخيمة بعدما جرفتها السيول.
أبو جهاد في الخامسة والثلاثين من عمره، كان ينادي بصوت عالٍ ولكن لم يجد أحدًا يسمعه، فقد كان صوته يملأ الأرجاء، وكامل المخيم تجرفه السيول، وساكنيه مشغولين بجرف المياه من خيامهم، على الجانب الآخر من الطريق فتاة تبكي والمطر يداعب عينيها حينًا تلو الآخر، لكن سيول من المطر أرجفت قدميها بردًا فعلا الصوت أكثر، ووالديها أصبحا يجرفان المياه من قصرهم الذي يكاد يُدمر، في حين ما زالت قدما مصطفى غاطستين في الوحل، والعديد من المحاولات قد فشلت في إخراجهما.
وفي الخيمة التي اُقتلعت، ينام الأطفال على فراش مبلل وخيمة عارية تعانق أطلال السماء المليئة بالغيوم التي بدت وكأنها تحمل بؤس نازحين تركوا ديارهم مرغمين، ووالدة الأطفال تجرف المياه حول ما تبقى من الخيمة الكئيبة التي استباحتها السيول وجعلتها أرضًا.
أبو جهاد: “كنا في الغوطة تنزل البراميل والصواريخ مثل المطر، والآن بتنزل علينا المطر متل البراميل ونحن في أسوأ حال (يارب لطفك فينا)”
فاض المخيم بساكنيه، ترتجف الأصوات من جديد بين صيحات استغاثة وأخرى استعانة، حتى أخرج أبو جهاد قدميه عن بعد ثلاثين خيمة من خيمته، يركض نحوها ويحمل أتعابًا من الهموم، وأسئلة توارده ماذا حل بالأطفال والخيمة، والأم تهدئ أطفالها بعدما أرغمتهم المياه على الاستيقاظ، وهو يرفع أعمدة الخيمة بصعوبة شديدة وينادي أحد أفراد جيرانه في الخيمة المجاورة التي تبعد مترين اثنين عن خيمته، الجار يرفعها ولكنها كانت تقع من جديد، تعاون الرجلان على نصب خيامهم بعد دعوات وصبر شديدين.
هدأت الأمطار وانشق الفجر في يوم جديد، بعدما رحلت الغيوم وتمزقت ووقعت الخيام فوق ساكنيها، بعد رحلة مطرية ليلية ربيعية، وسكان المخيم يعيدون ما تدمر خلال رحلتهم المسائية، وأوجاع تفتك بأرواحهم التي تحمل معاناة الخيام التي فضلوها عن حكم مستبد، تهجير وإهانة سبقهما براميل، وصواريخ أذاقتهم لويعات العذاب وإرهاب الحرب.
ما زال يحدثنا ودموعه تنهمر كالمطر على خديه، ويعبر أبو جهاد في قوله: “كنا في الغوطة تنزل البراميل والصواريخ مثل المطر، والآن بتنزل علينا المطر متل البراميل ونحن في أسوأ حال (يارب لطفك فينا)”، وجد نفسه وحيدًا يحدثها عن أوجاع تركها في منزله النصف منه مدمر الذي كان يقلل من برد أطفاله وحرارتهم التي بدأت تنخفض وترتفع بشكل متناقض بسبب التغيرات الجوية.
تزايد أعداد المهجرين في المناطق المحررة في الشمال السوري زاد الطين بلة، فقد وصل عشرات الآلاف من المهجرين قسريًا من المناطق التي خضعت بالفترة الأخيرة لاتفاقيات مع روسيا والنظام، فيما لا يزال العدد بازدياد، فبشكل يومي يصل قرابة 2000 مهجر إما لريف حماة الشمالي من معبر قلعة المضيق، أو ريف حلب الشمالي الشرقي من معبر أبو الزندين
وفي المخيم ذاته شاب يجلس على كرسي متحرك، له عجلتان كبار وأخيرتان صغار، وولد صغير يبلغ من العمر خمسة أعوام يدفع عربته من حومة الماء إلى قارعة اليابسة التي تتمثل ببعض من معجونات الطين رسمت عليها أقدام صغار وكبار، كان قد فقد قدميه منذ ثلاث سنوات في برميل أنهى حياة عائلته وبتر قدميه، جاء مع المهجرين من أقاربه، في ريف دمشق، في الوقت الذي كانت تتساقط الأمطار بقي مكانه يقاوم المطر ويعاركها بدعاء فرج ورحمة له وأهله.
وخلال رحلة مطرية جالت الشمال السوري وزادت المعاناة على قاطني الخيام التي اقتلع أغلبها جراء الأمطار وسيول المياه في الأراضي الزراعية التي بنيت عليها المخيمات العشوائية وكانت بالأصل تفتقد للكثير من المعونات الإغاثية ونقص حاد بالأدوية طوال فصل الشتاء الماضي، تحدثنا في التقارير السابقة عن أعداد النازحين في المخيمات العشوائية والرسمية، والتي لم نغط إلا جزءًا منها الواقع في ريف حلب الشمالي.
عشرات المخيمات العشوائية والرسمية تنتشر بالريف الإدلبي المحاذي للحدود التركية، شمال سوريا، يواجه فيها آلاف العائلات مصيرًا مجهولًا، مع المعاناة المستمرة، في تقلبات الأحوال الجوية.
تزايد أعداد المهجرين في المناطق المحررة في الشمال السوري زاد الطين بلة، فقد وصل عشرات الآلاف من المهجرين قسريًا من المناطق التي خضعت بالفترة الأخيرة لاتفاقيات مع روسيا والنظام، فيما لا يزال العدد بازدياد، فبشكل يومي يصل قرابة 2000 مهجر إما لريف حماة الشمالي من معبر قلعة المضيق، أو ريف حلب الشمالي الشرقي من معبر أبو الزندين المحاذي لمدينة الباب الواقعة في مناطق درع الفرات.