تلعب الموسيقى دورًا مهمًا في المجتمعات جميعها، ويمتد أثرها إلى شتى أشكال الثقافة والحضارة بما في ذلك الأديان، وبالتالي فمن الصعب جدًا العثور على أي دين بدون ثقافة موسيقية، سواء مباشرة أو غير مباشرة. ولو عدنا لكتب التاريخ لوجدنا أنّ الموسيقى منذ مئات السنين كانت حاضرة في الطقوس الدينية والشعائر العباديّة في الأديان المختلفة.
الموسيقى في الإسلام
يمكن اعتبار أنّ الموسيقى بدأت تزدهر في الحضارة الإسلامية منذ بداية العصر العباسي، حيث قام العديد من العلماء والفلاسفة العرب والمسلمون بدراستها والعمل على تطويرها مستندين بدايةً على النظرية الإغريقية القديمة، قبل أنْ يظهر عندنا فنّ المقامات الذي برعوا وتميّزوا به. وقد أسهم الكثير من الأسماء المعروفة مثل الفارابي وابن سينا والكندي وصفي الدين الأرموي وقطب الدين الشيرازي، ثم عبد القادر المراغي في فترة لاحقة في القرن الرابع عشر وغيرهم في الكتابة عن الموسيقى وفلسفتها ودورها في الحياة.
لكن لم تحضر الموسيقى حضورًا دينيًّا ملاحظًا إلا مع بدايات الدولة السلجوقية والعثمانية، حيث ظهرت الحركات الصوفية التي اعتنت بالموسيقى أيّما اعتناء، وأدخلتها في طقوسها الدينية بشكلٍ واضحٍ وجليّ. فبالنسبة للصوفية فإنّ تزكية النفس تمرّ أولًا من خلال القلب والروح، وبالتالي فإنّ الموسيقى بوصفها هبة من الخالق تعمل كوسيلة للتدريب على الكمال الروحاني والتناغم مع الذات، وقد كان الهدف النهائي للموسيقى عند الصوفيين هو تحقيق الحرية الذاتية للنفس من أجل وصول الروح إلى الأصل السماوي، وبذلك فهي عندهم وسيلة لعلاج أمراض النفس والروح.
وتعد الطريقة المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي سنة 207 للهجرة، الشكل الأكثر شهرة في الموسيقى الصوفية عند كلٍ من المتصوفة الأتراك والعرب، في حين تمثّل “موسيقى القوّالي” التي أسسها الهندي أمير خسرو في القرن الرابع عشر الطريقة الأكثر شيوعًا في الثقافة الصوفية لدى المتصوفة في جنوب آسيا كالهند وباكستان والدول المجاورة.
تعد الطريقة المولوية الشكل الأكثر شهرة في الموسيقى الصوفية عند كلٍ من المتصوفة الأتراك والعرب
كانت الموسيقى والغناء لدى المتصوفة العثمانيين تُعرف أحيانًا باسم “الفن الإلهي” أو “الفنّ السماوي”، ورغم غموض المصطلح بعض الأمر، فإنه كان يشير في عمومه إلى نوعين من الأداء، أحدهما كان يُغنى باللغة التركية في حلقات الذكر والموالد النبوية. فيما نشأ نوع آخر من الفن الإلهي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أطلق عليه اسم “الشغول”، وكان عبارة عن ترانيم تؤدَّى باللغة العربية في شهر رمضان ومحرم وذي الحجة. كما ظهر نوع غنائي كان يقوم به المأذنون بعد صلاة التراويح في شهر رمضان يسمى “المناجاة”، حيث يصعد المؤذن على المنبر ويبدأ في إنشاد مدائحه واستغفاراته، وأحيانًا كثيرة تقوم مجموعة من المرددين من خلفه بمساعدته في أداء بعض المقاطع.
وفي القرن العشرين، ظهرت بعض المواهب الفنية التي تنتمي للطريقة النقشبندية، والتي تعود أصولها إلى بهاء الدين النقشبند، وهي من أوسع الطرق الصوفية عالميًا في الوقت الحالي. أما الشيخ سيد النقشبندي، وكان والده شيخ الطريقة النقشبندية في مصر، فقد كان أكثر من أشهر هذا النوع من الفن في الوطن العربي، فقد تعاون في بعض أناشيده مع كبار الملحنين مثل بليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وغيرهم. ويُقال أنه كان أول من غنى من المتصوفين بمصاحبة آلة القانون حين غنى قصيدة ابن الفارض الشهيرة “قلبي يُحدّثني بأنك متلفي”.
الموسيقى في المسيحية
مثلها مثل الأشكال الأخرى للموسيقى، فيختلف النوع والأداء والمغزى والمحتوى للموسيقى المسيحية وفقًا للثقافة والسياق الاجتماعي، وتتنوع أهدافها بدءًا من المتعة الجَمالية أو الأغراض الدينية أو الاحتفالية، أو حتى بهدف نشر الرسائل التوجيهية والتوعوية. وبالتالي تتضمن الموضوعات الشائعة للموسيقى المسيحية كثيرًا من الجوانب مثل التمجيد والعبادة والتوبة والندم والرثاء، وتتنوع أشكالها على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
موسيقى القدّاس هي عمل موسيقي كوراليّ ظهر في الكنيسة الكاثولوكية باللغة اليونانية بدايةً، لكن مع الوقت أصبح باللغة اللاتينية تُتلى في المناسبات الخاصة وفي الأيام العادية
يُعدّ الغناء الجريجوري واحدّا من أقدم أشكال الموسيقى الدينية في الكنيسة، والذي أضيف في عهد البابا جريجوري الأول في الفترة ما بين عاميْ 590 و 604 للميلاد، وما تزال حتى يومنا هذا من أكثر الممارسات الدينية السائدة عبر العالم، وهي عبارة عن ترتيلٍ مغنّى لبعض النصوص الدينية المصحوبة بألحان بسيطة مع إيقاعات تعود للعصور الوسطى دون أيّ استخدامٍ للآلات الموسيقية. كما تُغنّى الأناشيد أو التراتيل الجريجورية في المعتاد من خلال جماعة من رجال والغلمان أو النساء، وتُعرف بإيقاعها الحر والمرن، وتتخلّل جملها كلمة “هالولويا” والتي تعني مدح الرب.
ومع نهاية القرن السادس عشر والذي يُعرف بالفترة الباروكية، فقد بدأت أغلبية الطوائف المسيحية في الغرب باستخدام العديد من الآلات الموسيقية مثل البيانو والأورغان والجيتار لتكون جنبًا إلى جنب مع التراتيل التي يتم إنشادها في الكنيسة، والتي عادة ما تتم من خلال فرقة موسيقية أو أوركسترا. وقد لمعت أسماء العديد من المؤلفين الموسيقيين مثل يوهان باخ وجورج فريدريك هاندل وفرانسوا كوبيرين وسيزار فرانك وغيرهم الكثير ممن اختصوا بتأليف الموسيقى الكنائسية.
ثمّ ظهرت موسيقى القدّاس، وهي عمل موسيقي كوراليّ ظهر في الكنيسة الكاثولوكية باللغة اليونانية بدايةً، لكن مع الوقت أصبح باللغة اللاتينية. منها ما يُتلى ويُغنى في المناسبات الخاصة مثل عيد الميلاد، ومنها اليوميّ الذي يشكّل “الجزء العادي” من القداس، ويمكن تصنيفه إلى خمسة أقسام: كرياليسون أي فلترحمنا يا إلهي، جلوريا أي المجد لله في العلى، الكريدو أي الإيمان، و”سانكتوس” أي نشيد التقديس ، و”أنجوس دي” أي حمل الله .
قائمة كبيرة من الملحنين والموسيقيين انتجوا أعمال فنية تحت تصنيف “موسيقى القدّاس”، قد يكون أشهرهم موزات الذي ألّف “قدّاس الموت” عام 1791 في فيينا قبل وفاته. ويُقال بأنه طُلب من موزارت تأليف هذه المقطوعة حيث كان يعرف اقتراب أجله بسبب إصابته بمرض السل لكنه توفي دون أن يكملها، فأكملها لاحقًا تلميذه فرانز خافير سوسماير.
أما في العصور الحديثة، فقد ظهر نوع جديد من الموسيقى المسيحية داخل البروتستانتية مثل موسيقى “الغوسبل”، الكلمة تعني الإنجيل بالإنجليزية، وهي نوع من الغناء الإنجيلي المسيحي الذي تطوّر في الثلاثينات من القرن الماضي عند الأمريكيين الأفارقة قبل أن يغزو بقية العالم. وهذه الموسيقى أسلوبٌ يعتمد على أصوات الجوقة وصفق الأيدي وما إلى ذلك. أمّا المواضيع المغنّاة فمأخوذة من العهد الجديد. كما وظهر نوع جديد في التيار الإنجيلي مثل الروك المسيحي وهو نوع من موسيقى الروك، الذين غالبًا ما يركزون في كلماتهم على الإيمان والخلاص والنجاة وما إلى ذلك.
الموسيقى عند اليهود
يمتد تاريخ الموسيقى اليهودية الدينية إلى العصور التوراتية بحسب بعض الروايات، حيث شهد الكُنس والمعابد في ذلك الوقت العديد من الطقوس الدينية التي صاحبتها التراتيل الغنائية والألحان الموسيقية المتعددة، لا سيّما في معبد القدس عام 70 للميلاد، حيث كانت تتألف أوركسترا المعبد العادية من اثنتي عشر أداة، وجوقة المغنّنين من اثني عشر مطربًا من الذكور.
وقد استخدم اليهود في ذلك العصر آلات الطبول والصنوج والقرون والأبواق، ولكن بعد تدمير الهيكل، منع الحاخامات استخدام الأدوات أثناء الصلاة حدادًا على سقوط الهيكل وهزيمتهم. ومع بدء تشتتهم وتوزعهم في عدة بلدان، عاد اليهود لاستخدام الموسيقى في صلواتهم التلمودية، الأمر الذي ما يزال معروفًا حتى يومنا هذا.
وتتنوع الموسيقى الدينية عند اليهود وفقًا للكنيس، فهناك كنيس السفارديم الذي يضمّ المغاربة والعراقيين بموسيقاهم ذات الطابع الشرقيّ، وهناك الكنيس الأشكنازي الذي يعتمد في موسيقاه على الألحان الألمانية أوال روسية. عوضًا عن أنّ بعض التجمعات تفضل الموسيقى التقليدية في حين تستخدم بعضها الآخر الألحان الشعبية الحديثة.