ترجمة وتحرير: نون بوست
يتم هدم المدافن والأضرحة، مما يهدر تراث القاهرة الذي يعود تاريخه إلى ألف سنة من أجل إنشاء المطاعم والمقاهي والفنادق التي نادرًا ما تستخدم.
عند سفح جبل المقطم في القاهرة توجد مقبرة يعود تاريخها إلى ما يقرب من ألفي سنة وهي مقبرة مصرية. وكانت في البداية مكانًا لدفن المسيحيين، الذين أرادوا أن تبقى كذلك. عندما وصل الحكم الإسلامي إلى مصر، قبل 1400 سنة، كتب الحاكم القبطي في ذلك الوقت إلى ممثل الخلافة الإسلامية الجديد وعرض عليه 70 ألف دينار مقابل الموقع (كان الدينار يساوي 4.25 جرامات من الذهب في ذلك الوقت، أي ما يعادل حوالي 12 مليون دولار أمريكي اليوم).
ويسرد المؤرخ المملوكي المقريزي القصة في كتابه المهم “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”، ويسمي الحاكم المقوقس، الذي من المحتمل أن يكون البطريرك الملكي اليوناني كيرولوس في المصادر المسيحية. ويبدو أن المقوقس قد عرض الثمن الباهظ لإبقاء المنطقة مسيحية لأن “وصفها في الكتب أنها تحتوي على غراس [أشجار] الجنة”. فكتب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستشيره في ذلك، فكتب إليه الخليفة قائلاً: “لا يعرف غراس الجنة هذه إلا المؤمنون، فادفن فيها من مات من المؤمنين قبلك ولا تبيعها بشيء”.
وهكذا أصبحت هذه المنطقة مقبرة إسلامية، إلى جانب منطقة أخرى تعرف باسم القرافة، وكلاهما في مناطق صحراوية جافة بعيدة عن النيل. وبمرور الوقت، اتسعت المقبرتان جنوبًا وشمالًا وشرقًا حتى اندمجتا لتشكلا ما يُعرف الآن باسم مدينة الموتى. وتنقسم هذه المقبرة الشاسعة إلى أجزاء مثل القرافة الكبرى والقرافة الصغرى والمجاورين ومقابر الخلفاء ومقبرة قايتباي والصحراء المملوكية، وتمتد لأكثر من 7 أميال، وهي الآن مجزأة بسبب مشاريع الطرق الحديثة.
وقد دُفن في هذه الصحراء الملايين من العوام والمشايخ والعلماء والأولياء والأدباء والشعراء والسلاطين والأمراء والباشاوات والبكوات مما خلق نسيجًا تاريخيًا معقدًا ومتداخلاً. ففي القرن التاسع عشر؛ بنى الباشاوات والأعيان مدافن دُفنوا فيها مع عائلاتهم. وكانت هذه المدافن متاخمة لتلك التي بناها المماليك وغالبًا ما كانت تستعير العناصر المعمارية المملوكية، مما زاد من ثراء المقبرة وتنوعها. وعندما أصبح الناس أكثر ثراءً، كانوا يبنون مقابر أكثر فخامة واتساعًا وجمالاً، ويزرعون الأشجار لخلق واحات خصبة في الصحراء.
ولكن الآن، أصبح هذا الموقع والعديد من المواقع التاريخية الأخرى في القاهرة في خطر؛ حيث يقع كل ذلك في إطار حملة لتطوير المدينة بطريقة يبدو أنها تتجاهل تاريخها الثري؛ حيث تختفي تلك المواقع الفريدة من نوعها، التي تعود لآلاف السنين، أمام أعيننا، على الرغم من الاحتجاجات التي تضرب وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام.
لطالما كان التطوير صديقًا وعدوًا في آنٍ واحد لعلم الآثار؛ حيث يكشف عن مواقع لم تكن معروفة من قبل ولكنه يتسبب في تدميرها في نفس الوقت. ولكن ما يحدث في القاهرة ينقل هذا العنصر التدميري إلى مستوى جديد تمامًا، فما يتعرض للخطر ليس فقط التاريخ ولكن أيضًا جميع الممارسات والطقوس التي تطورت حول تكريم الموتى.
وتختلف المقابر الإسلامية في مصر عن نظيراتها في معظم البلدان؛ حيث يتم الدفن عادةً تحت الأرض. ففي مصر، تواصل المقابر التقليد القديم للبلاد في الهندسة المعمارية الجنائزية المهمة والمساحات التي تأخذ في الاعتبار احتياجات الأحياء الذين يزورون الموتى خلال المواسم الدينية والأعياد.
وتحتوي مقبرة الوزير الفرعوني القوي ميروكا، الواقعة في مدينة سقارة في الجيزة، على 33 غرفة، بعضها كان مخصصًا للأحياء لاستخدامها، خاصة خلال مهرجان الوادي الجميل المخصص لتذكر الموتى. فخلال هذا المهرجان، كان الناس يزورون أفراد عائلاتهم المتوفين ويضعون الزهور على القبور لإحياء أرواحهم، ويأكلون ويشربون وينامون في المقابر.
ونرى العادات نفسها بعد 2,500 سنة في العصر الروماني في مصر. ففي سراديب الموتى بكوم الشقافة غرب الإسكندرية، وهي مقبرة متعددة المستويات تحت الأرض، توجد قاعة تريكلينيوم، أو قاعة الولائم، حيث كان يجتمع أهل المتوفى في المناسبات الخاصة لتناول الطعام أثناء تكريمهم للموتى.
بعد مرور ثلاث سنوات على افتتاح محور الحضارة، لم يستخدمه سوى عدد قليل من السيارات، مما أثار الشكوك حول الأسباب الأساسية لإنشائه، ناهيك عن تكلفة المشروع من الناحية المالية والتاريخية
واستمرت هذه العادة في مصر حتى بعد تحول البلاد إلى الإسلام. وقد نُشرت العديد من الكتب حول ممارسة زيارة القرافة، ولعل أشهرها كتاب لشمس الدين محمد بن الزيات يعود للقرن الخامس عشر يشرح بالتفصيل تقليد زيارة القرافة الكبرى والصغرى. وحتى يومنا هذا، لا يزال هذا التقليد منتشرًا على نطاق واسع، خاصة بين الطبقات الاجتماعية الفقيرة.
ولا تزال المقابر تضم أماكن مخصصة للأشخاص لاستخدامها أثناء زيارة أسلافهم، والتي يمكن أن يستمر بعضها لمدة أسبوع كامل، كما توجد أماكن لإقامة الحراس وعائلاتهم. وقد تُقام فيها الاحتفالات الدينية للاحتفال بالمشايخ والأولياء والصالحين، وتكثر فيها الزيارات، خاصة أيام الجمعة، مما يجعلها مكانًا للأموات والأحياء على حد سواء.
لكن لا الماضي ولا الحاضر كافٍ لحماية المقابر من محاولات التطوير، رغم موجات الاحتجاج من قبل المجتمع المدني. كما لم توفر اللوائح الواسعة لحماية الآثار والمناطق التاريخية أي حماية من الجرافات. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تدميرًا متزايدًا لهوية القاهرة القديمة.
ومن الأمثلة على ذلك حي هليوبوليس التاريخي، والذي تأسس في الأصل كـ”مدينة حدائق” في سنة 1905، وقد شهد حي هليوبوليس الآن إزالة الجزء الأكبر من حدائقها بسبب أعمال البناء التي تهدف إلى تخفيف الازدحام المروري وتسهيل الوصول إلى العاصمة الإدارية الجديدة. وقد قاوم المجتمع المدني ذلك ولكنه خسر في النهاية، فقد دفنت هذه المشاريع المباني التراثية، واقتلعت المساحات الخضراء من جذورها، وفي غضون أشهر قليلة، حولت الحي إلى ممرات مرورية واسعة لا يمكن السير فيها. وأصبحت مدينة الحدائق، التي كانت ذات يوم حيًا مرموقًا في القاهرة، مشهدًا رماديًا خال من الحيوية.
وبينما كان يجري بناء الجسور فوق حدائق هليوبوليس، اجتاحت الجرافات جزءًا كبيرًا من مقابر حي البساتين جنوب القاهرة، وأزيلت المقابر المحيطة بحديقة بحيرة عين الصيرة من أجل “التطوير”. وكان من بين المعالم التي فُقدت، مشهد الطباطبة، وهو ضريح عائلة الطباطبة، الذي يعود تاريخه إلى حوالي سنة 943م، وهو آخر أثر أثري للسلالة الإخشيدية في مصر.
وقد تحول الموقع إلى موقف للسيارات بعد أن تم تفكيك أضرحته وأجزائه العلوية ونقلها بالقرب من المتحف القومي للحضارة المصرية. لكن العديد من الخبراء يعتقدون أن نقل مثل هذه الآثار، مثل معبد أبو سمبل عند بناء سد أسوان، لا ينقذها لأن جزءًا من تاريخها وقيمتها يكمن في موقعها الأصلي.
وكانت عمليات الإزالة هذه جزءًا من محور الحضارات الذي وضعته الحكومة، وهو تقاطع رئيسي مصمم لتسهيل الوصول إلى المتحف القومي للحضارة المصرية الذي تم بناؤه حديثًا. ويشمل المحور جسرًا بأساساته التي تم حفرها في أرض المقابر، ليقترب بشدة من مسجد وضريح الإمام الفقيه الليث بن سعد، والذي كان فقيهًا مبجلًا، ويلتمس الكثير من المسلمين المصريين البركة من ضريحه.
كما أثر المشروع أيضًا على قناطر ابن طولون التي بُنيت في القرن التاسع الميلادي لتوصيل المياه إلى البساتين، وهي واحدة من خمسة آثار متبقية من العصر الطولوني.
ومما زاد الطين بلة، أنه بعد مرور ثلاث سنوات على افتتاح محور الحضارة في أوائل سنة 2021، لم يستخدمه سوى عدد قليل من السيارات، مما أثار الشكوك حول الأسباب الأساسية لإنشائه، ناهيك عن تكلفة المشروع من الناحية المالية والتاريخية. وبعد الانتهاء من محور الحضارة، انتقلت أعمال البناء شمالًا إلى القرافة الشرقية، موطن الأضرحة والمباني الجميلة من العصر المملوكي، لإنشاء تقاطع كبير آخر هو محور الفردوس.
وفي حزيران/ يوليو 2020؛ اندلعت موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتشار صور تظهر جرافات تهدم أجزاء من شارع قنصوه، أحد أجمل شوارع القرافة الشرقية. ويضم هذا الشارع ضريح أبو سعيد قنصوه، وهو سلطان مملوكي حكم في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، والعديد من المقابر القديمة والمرموقة.
وكان من بين المباني المهدمة مقابر أحمد عبود باشا، وهو رجل صناعي وأحد أغنى أغنياء مصر في العصر الملكي، والذي ساعد في إنشاء شبكات السكك الحديدية مع فلسطين وسوريا، وأحمد لطفي السيد، وهو مفكر وفيلسوف بارز في حركة النهضة في القرن التاسع عشر (المعروفة أيضًا باسم الصحوة العربية أو التنوير)، إلى جانب عشرات المدافن الأخرى. كما هُدمت مقابر في شوارع موازية، بما في ذلك شارع الأشراف، للسماح بالتوسعة.
وبعد التغطية الإعلامية الواسعة النطاق التي أعقبت ذلك، تم تقليص خطط الهدم وتقليص عرض المحور المخطط له، ولكن الخطط الجديدة لا تزال تسمح بحدوث أضرار كبيرة. واتضح أنه على الرغم من تراجع الحكومة، إلا أن التراث أصبح الآن أكثر عرضة للخطر، فقد أصدر وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية قرارًا بإزالة أربعة من المقابر المتضررة أو المدمرة من “سجل المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المميز” في محافظة القاهرة.
ويشمل هذا السجل المباني ذات القيمة المعمارية أو التاريخية أو تلك المرتبطة بشخصيات مشهورة، ويهدف إلى حمايتها من الهدم أو التخريب. وقد تم تسجيل مقبرتين من المقابر الأربع كمواقع تاريخية في سنة 2019، لتتم إزالتها بعد ثلاث سنوات. ويشير هذا إلى أن تسجيل المباني كمواقع تاريخية لا يضمن حمايتها، إذ يمكن دائمًا إزالتها من السجل ثم هدمها، أو هدمها أولًا ثم إزالتها من السجل بعد ذلك. وردًا على قرار الوزير، استقال أيمن ونّاس، رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المميز في شرق القاهرة، من منصبه في آب/ أغسطس 2023.
ولم تكد تهدأ الضجة التي أحدثتها أعمال الهدم في صحراء المماليك حتى نقلت الحكومة مشروعات التطوير جنوبًا إلى منطقة السيدة عائشة ومحيطها. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أعلنت الحكومة عن خطط لهدم 2,700 مقبرة. وقد تم تفكيك العديد من المباني التاريخية لإفساح المجال للتطوير، بما في ذلك مئذنتا مسجدين يعودان للقرن الرابع عشر (مسجد قوصون الساقي الذي بُني سنة 1336، والضريح السلطاني الذي بُني سنة 1350) بالإضافة إلى مسجدين يعودان للقرن السادس عشر، وكلاهما في ميدان السيدة عائشة؛ مسجد الغوري الذي بُني سنة 1509، ومسجد مسيح محمد باشا الذي بُني سنة 1585. وعلى بُعد خطوات قليلة من الساحة، هُدمت منطقة عرب اليسار لإفساح المجال أمام المتاجر والمطاعم.
استهداف المقابر للهدم ليس ممارسة جديدة في مصر، سواء في العصور القديمة أو الحديثة، لكن الموجة الحالية أكثر عنفًا وشدة
تم نشر خبراء المعاينة في مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي جنوب القاهرة، لوضع علامات على آلاف القبور لإزالتها. وشملت الإزالة قبورًا ومباني مذهلة تخلد ذكرى العديد من الشخصيات الشهيرة في التاريخ المصري والإسلامي، والتي تشمل الإمام ورش، المعروف بأسلوبه في تلاوة القرآن الكريم؛ ومحمود سامي البارودي، رئيس الوزراء والشاعر المعروف باسم “سيد السيف والقلم” (1839-1904)؛ ومحمد محمود باشا، رئيس وزراء آخر (1878-1941)؛ والفنان يوسف وهبي (1898-1982)؛ و”أمير الشعراء” أحمد شوقي (1868-1932)، على سبيل المثال لا الحصر. وقد تم نبش رفات الملكة فريدة، الزوجة الأولى للملك فاروق، ونقلها إلى مسجد الرفاعي لتسهيل الهدم.
وفي مقابر السيدة نفيسة يقع قبر علي باشا مبارك (1823-1893)، أحد أهم الشخصيات في تخطيط القاهرة الحضري في القرن التاسع عشر ومؤلف الكتاب المرجعي الموسوعي “الخطط الجديدة للتسوية”، وهو أطلس شامل لمدن مصر عبر العصور، وكأن المخطط الحديث قد صمم الطريق عمدًا ليمر فوق رفات أشهر مخطط في تاريخ القاهرة، ليقطع بذلك رمزيًا الروابط مع ماضي المدينة القديم.
بدأ هدم مقبرة السيدة نفيسة في النصف الأول من سنة 2023. ومع ذلك، نشأت اعتراضات عديدة، وأدت صرخة الإعلام إلى تغييرات متكررة في مواقع علامات الهدم، ولكن في كل مرة تم فيها تغيير المسار، كان يصطدم بمواقع دفن تاريخية أخرى في المنطقة. وفي حزيران/ يونيو 2023، كلف الرئيس لجنة بدراسة المشروع. وقد أوصت اللجنة بعدم الهدم بالجملة، لكن المشرفين على المشروع تجاهلوا رأيها، وبدأت الجرافات عملها في المباني القديمة ومزارات الإمام الشافعي، واحتجاجًا على ذلك استقال بعض أعضاء اللجنة.
وفي نفس الوقت تقريبا، ظهر مشروع محور آخر، وهو محور ياسر رزق، نسبة لرئيس التحرير السابق في جريدة أخبار اليوم. وظهرت الجرافات مرة أخرى، وهذه المرة في عشرات المقابر في منطقة الأباجية. وكان من المقرر في البداية هدم قبر الكاتب الشهير طه حسين، لكن الضغوط الاجتماعية وتصريحات أسرته عن رغبتهم في نقل رفاته خارج مصر لضمان عدم انتهاك “حرمة الموتى” مرة أخرى، أدت إلى استبعاد قبر عميد الأدب العربي من الهدم.
ومع ذلك، تم بناء الكوبري، وترك قبر حسين وحده في مساحة كبيرة فارغة تحت الكوبري. ولم تحظ المقابر المهمة القريبة الأخرى بنفس الاعتبار وتم هدمها. ومن بين هذه المقابر قبر يوسف الصديق عضو مجلس قيادة الثورة 1952، وقبر صلاح الدين المرشدي شهيد حرب أكتوبر 1973.
بعد عمليات الهدم، ظهرت العديد من المنشآت وشواهد القبور الرخامية من المقابر للبيع في أسواق التراث. وأثارت صور هذه التحف المهدمة موجة جديدة من الغضب، مما أجبر السلطات على تعليق الهدم مؤقتًا في أيلول/ سبتمبر 2023. وتم نشر أفراد الأمن في مقبرة الإمام الشافعي، وللحد من الضغط الشعبي، مُنع التصوير، ووردت أنباء عن اعتقالات لمن يتجول أو يلتقط الصور في المقابر.
ولكن مرة أخرى، لم يستمر توقف مشاريع الهدم. ففي شهر نيسان/ بريل، أصدرت محافظة القاهرة قرارًا بوقف دفن الموتى في مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة. وفي غضون ذلك، بدأت عملية إخلاء مقبرة باب النصر التاريخية، الواقعة أمام بوابتي الفتوح والنصر خارج أسوار القاهرة القديمة، لمشروع موقف سيارات، فيما يبدو إصرارًا من الحكومة على قلب مقابر القاهرة التاريخية.
إن استهداف المقابر للهدم ليس ممارسة جديدة في مصر، سواء في العصور القديمة أو الحديثة، لكن الموجة الحالية أكثر عنفًا وشدة. لقد شهدت أجيال من المصريين أحداثًا مماثلة، مثل أثناء بناء طريقي صلاح سالم والنصر، اللذين تم تطويرهما على مراحل متعددة. ففي الخمسينات، تم بناء أول طريق عندما أمر الرئيس جمال عبد الناصر وزير الحربية عبد اللطيف البغدادي ببناء هذا الطريق السريع، المعروف بالطريق العسكري، والذي افتتح في الستينات.
ويقدم الكاتب المصري خيري شلبي، الذي أمضى فترات طويلة في زيارة المقابر، رواية مؤثرة عن هذه العملية في كتابه “بطن البقرة” الذي نُشر سنة 1995، والذي كتب فيه قائلًا: “لقد كان مقدرًا لي أن أشهد تجربة لن أنساها ما حييت. وكانت تلك عملية إنشاء الطريق السريع. لقد شقت الجرافات قلب المقابر بقسوة بشعة وجهنمية، بمحاريث تحفر في قلب التربة وترمي عظام الموتى على الجانبين، حتى تتمكن من حفر الرمال والدوس الأرض لتعبيدها.
وعندما يحل الظلام على المنطقة، تظهر شرارات وامضة من الضوء من أكوام الأوساخ القادمة من العظام البيضاء والجماجم بلا لحم. وكانت هناك أسنان كالجواهر، والأذرع والأرجل والتوابيت، بعضها طازج ولم يتضرر بعد بسبب التآكل. كان المنظر مؤلمًا وسخيفًا وحزينًا جدًّا، فلم يكن الراقدون في هذه القبور يعرفون بعد أن لحمهم قد داسته الأقدام. وكان علينا أن نفعل شيئًا للتخفيف من حدة غضبنا، لذلك شكلنا فريقًا، بقيادتي، واشترينا مجموعة من المقاليع. وبدأنا نتبع الجرافات ونجمع أجزاء الجثث، ونضعها في المقلاع. كان جسدي ويرتجف كلما أمسكت بجمجمة، وتتساقط خصلات الشعر منها، مدفونة في التراب، وتسقط بقايا فروة الرأس بين الخصلات”.
صدر أول قانون لتنظيم المقابر في مصر في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1877، في عهد الخديوي إسماعيل. وقد تضمن هذا القانون عدة شروط، مثل أن تكون المقابر مبنية في اتجاه الريح من المناطق المأهولة وعلى مسافة 650 قدمًا على الأقل، وأن تكون موجودة في نقاط مرتفعة أو على التلال، وأن تكون محاطة بسور لا يعيق تدفق الهواء، وأن تكون بعيدة عن الأنهار والقنوات والآبار ومجاري المياه. كما فصّل عملية الدفن، وقواعد استخراج الجثث، وطرق تصدير الجثث إلى بلدان أخرى واستلام الجثث من الخارج.
وفي وقت لاحق، في سنة 1894 في عهد عباس حلمي الثاني، صدر قانون آخر، وضع قواعد لنقل المقابر التي تعتبر ضارة بالصحة العامة. وأعطى سلطة نقل المقابر لوزير الداخلية بعد أن يقدم مدير عام مصلحة الصحة تقريرًا وألزم الحكومة بتوفير أرض مجانية للمقابر الجديدة. ولم يسر هذا القانون على مقابر القاهرة والإسكندرية، واشترط إصدار أمر خاص بها لاحقًا.
وفي سنة 1928، أصدر وزير الداخلية قائمة معدلة للمقابر الإسلامية، تنطبق على جميع المقابر الإسلامية باستثناء تلك الموجودة في الإسكندرية. وقد حظرت هذه اللائحة استخدام المقابر لأغراض أخرى غير الدفن، ووضعت قواعد لإنشاء المقابر، مثل اعتبار أرض المقبرة منفعة عامة.
تخدم هذه المشاريع أصحاب الأعمال واستثماراتهم ولكن هذا يأتي على حساب خسارة فترة طويلة من التراث الإنساني الفريد، والذي بمجرد فقدانه، لا يمكن استعادته أبدًا
ولم تمنح الرسوم التي يدفعها المستأجر ملكية الأرض، ولكن مواد البناء المستخدمة ظلت ملكًا له. كما تضمنت اللائحة بعض الغرائب، مثل منع دخول الناس إلى المقابر خارج الجنازات أو أوقات الزيارة المعروفة، وكذلك منع النحيب وجلد الذات وطقوس “الزار” (الرقص والعزف على الدفوف لطرد الشياطين التي تسكن الناس)، إلى جانب العديد من أشكال السحر الشعبي والطقوس الأخرى، كما حظرت قضاء الليل في المقابر أو البقاء بعد غروب الشمس بساعتين، باستثناء الحراس الخاصين المعترف بهم من الشرطة والحراس المعينين من قبل رؤساء اللجان، وحظرت أيضًا التسول داخل المقابر.
وصدر القانون الحالي للمقابر سنة 1966، وتنص مادته الأولى على أن “أراضي المقابر وقف عام، وتحتفظ بهذه الصفة بعد إلغاء الدفن لمدة عشر سنوات أو إلى أن يتم نقل الرفات”.
ويبدو الإصرار على هدم المقابر القديمة غريبا، فهي من أجمل المقابر الإسلامية في العالم. ورغم الطرق والكباري العديدة التي تقطعها من جميع الاتجاهات، إلا أن اللجان شككت في جدوى هذه الطرق، فلم تشهد الطرق التي تم إنشاؤها إلا القليل من الحركة.
وفي أواخر سنة 2007، عُرِّف المصريون برؤية القاهرة 2050، وقيل إن جمال مبارك، الذي كان يستعد آنذاك لخلافة والده في حكم مصر، ومجموعته الاقتصادية، هم من يقفون وراءها. وبحلول سنة 2008، بدأت تفاصيل الخطة تظهر في وسائل الإعلام.
وكان من أبرز المسؤولين عن رؤية القاهرة 2050 مصطفى مدبولي، الذي كان وقتها رئيسًا للهيئة العامة للتخطيط العمراني ثم أصبح وزيرًا للإسكان ثم رئيسًا لوزراء مصر. وتتعامل الخطة مع القاهرة وكأنها صفحة بيضاء لا يوجد بها سوى بعض المباني المسجلة رسميًا كآثار في سجلات وزارة السياحة والآثار وتتجاهل كل شيء آخر.
وتنص الخطة على إنشاء منطقة مقابر جديدة وتحويل المقابر القائمة إلى حدائق ومطاعم ومقاهي وفنادق، على أن يتم الحفاظ على المباني الأثرية وهدم الباقي. وأطلقت خرائط المشروع على مقابر الجوارين وصحراء المماليك المطلة على شارع صلاح سالم اسم حدائق الأزهر الكبرى.
وأطلق على مقابر البساتين اسم حدائق الفسطاط الكبرى، ومنطقة منشأة ناصر منتجعًا سياحيًّا سكنيًّا، وحي القاهرة القديمة ومقبرة باب النصر حدائق الجمالية. كما تتضمن الخطة مشاريع طموحة أخرى، مثل إنشاء شارع بعرض 650 قدمًا في المطرية شرقي القاهرة، ومشروع محور خوفو في محافظة الجيزة، وهو شارع ضخم يبلغ عرضه نحو 2000 قدم وطوله 5 أميال، ويتطلب هدم العديد من المباني.
في الواقع؛ تفتقر هذه المشاريع العمرانية إلى الشفافية وتتجاهل الحصص التاريخية لسكانها، بل إنها تظهر احتقارًا للأشياء القديمة وانبهارًا غير مبرر بنموذج دبي في البناء والتنمية بلا هوادة.
إن العقلية التي أنتجت رؤية القاهرة 2050 هي نفس العقلية التي تحرك مشاريع التنمية الحالية. وتخدم هذه المشاريع أصحاب الأعمال واستثماراتهم من خلال خلق مساحات شاسعة من الأراضي الفارغة القابلة للبيع في أغلى مناطق القاهرة من خلال الهدم ونقل السكان. وفي الوقت نفسه، تضمن استمرار عمل مئات شركات المقاولات. ولكن هذا يأتي على حساب خسارة فترة طويلة من التراث الإنساني الفريد، والذي بمجرد فقدانه، لا يمكن استعادته أبدًا.
المصدر: نيولاينز