على بعد أمتار قليلة من مقر جامعة الدول العربية يمينًا، ودقيقة ونصف من ميدان الشهيد عبد المنعم رياض الذي استشهد على أيدي جيش الاحتلال خلال تفقده لمواقع عسكرية في سيناء عام 1969 يسارًا، احتفلت سفارة تل أبيب في القاهرة بمناسبة ما تدعيه “عيد الاستقلال الـ70” أو بالأحرى (ذكرى النكبة الفلسطينية).
الحفل الذي أقيم داخل فندق الريتز كارلتون على ضفاف نهر النيل، بحضور ممثلين عن الحكومة المصرية وعدد من الشخصيات السياسية والإعلامية حسبما نقلت المواقع العبرية أثار موجة من الجدل، ليس داخل الشارع المصري فحسب، بل الشارع العربي أيضًا.
ففي الوقت الذي تواصل فيه دولة الاحتلال ممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين، بالتزامن مع استعدادات نقل السفارة الأمريكية للقدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني والمقرر في الـ15 من هذا الشهر، ها هي السفارة الإسرائيلية في مصر تقيم مثل هذه الاحتفالية الكبيرة بعد أكثر من 10 سنوات تقريبًا لم تجرؤ فيها على تنظيم أي حدث رسمي من هذا القبيل.
الشراكة المصرية الإسرائيلية قدوة
احتفال السفارة الإسرائيلية بالأمس في قلب القاهرة لا شك أنه يمثل علامة فارقة في مشوار التطبيع العربي الصهيوني، وهو ما دفع الإعلام العبري بمختلف أطيافه للاحتفاء به بصورة كبيرة مقارنة بالاحتفالات التي تقيمها سفارات الصهيونية في الدول الأخرى.
العلاقات المصرية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة شهدت موجات من التقارب والتنسيق لم تشهده منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، ما يفسر الدعم المتواصل من حكومة نتنياهو للنظام المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تجمعه علاقات قوية مع رئيس وزراء دولة الاحتلال.
لم تكن عبارة “السلام الدافئ” التي أطلقها السيسي تعليقًا على علاقات بلاده مع دولة الكيان المغتصب سوى إعلان صريح لتوجهات الدولة المصرية مع عدوها التقليدي خلال المرحلة المقبلة، التي وضعت في الاعتبار تدشين مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على التعاون والتنسيق.
المراسم التي أجرتها سفارة نتنياهو في القاهرة أمس حضرها لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمال وممثلون عن الحكومة المصرية، كما استمتع الضيوف بعشاء إسرائيلي أعده الشيف شاؤول بن أديريت مع فريق طهاة الفندق، حسبما ذكر حساب “إسرائيل في مصر” شبه الرسمي على موقع “فيسبوك”.
نجحت دولة الاحتلال خلال السنوات الـ4 الأخيرة على وجه التحديد في تطوير علاقاتها مع عدد من الدول العربية بشكل غير مسبوق، لا سيما مصر والسعودية والإمارات والبحرين
السفير الإسرائيلي في القاهرة دافيد جوبرين خلال كلمته في الحفل قال: “الشراكة المتينة بين مصر و”إسرائيل” تشكل قدوة ومثالًا لحل صراعات إقليمية ودولية في العالم أجمع حتى يومنا هذا، ومع ذلك نحن اليوم في أوج معركة السلام، هذه المعركة تستوجب التغيير الواسع في الوعي والإدراك وتحتم خلق جو يسوده التسامح والتعرف على الآخر والصبر”، وتابع “لا شك أن الأمر يحتاج إلى عملية طويلة ومستمرة ولكنها ضرورية لنشر السلام، ليس فقط بين الحكومات بل ليعم أيضًا بين الشعوب”.
السفير تطرق أيضًا إلى التغير الواضح في علاقات بلاده بالدول العربية خلال السنوات الأخيرة، مضيفًا “نلاحظ التغيير في معاملة الدول العربية لـ”إسرائيل”، لا تعتبر عدوًا بل شريكًا في صياغة واقع جديد وأفضل في المنطقة، واقع يستند إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي”، مشيرًا “الاعتقاد السائد في الماضي كان أن التعاون في مجال معين يأتي بالضرورة لصالح طرف على حساب الطرف الثاني، ولكن مع مرور الوقت أدركنا أنها ليست بالضرورة “لعبة خاسرة” بل وجدنا في أوجه التعاون المختلفة ثمارًا يربح منها الجميع، وتشكل اتفاقية الغاز التي وُقعت مؤخرًا وتخدم مصالح الطرفين دليلًا على هذه الثمار، ويبقى الأمل أن تفتح الطريق أمام التعاون في مجالات أخرى”.
القاهرة تلتزم الصمت
التزمت القاهرة الصمت حيال الجدل المثار بشأن تلك الاحتفالية، إذ لم يصدر عن الخارجية المصرية أي بيانات رسمية أو غير رسمية تتعلق بتفاصيل ما حدث، خاصة أنه لم يرد ذكر الأسماء التي شاركت في حضور مراسم الاحتفال، وإن اكتفى الموقع العبري بذكر مشاركة ممثلين عن الحكومة ودبلوماسيين دون تسميتهم، ولعل هذا كان بالاتفاق بين الطرفين تجنبًا لوضع الحكومة المصرية في حالة حرج أمام شعبها.
غير أن “العربي الجديد” نقل عن مصدر خاص به أن السفارة وجهت دعوة الحضور لنحو 100 برلماني مصري، على رأسهم رئيس مجلس النواب علي عبد العال ووكيليه السيد الشريف وسليمان وهدان ورئيس ائتلاف الغالبية (دعم مصر) محمد السويدي ورئيس الهيئة البرلمانية لحزب المصريين الأحرار علاء عابد ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي اللواء السابق كمال عامر ورئيس لجنة العلاقات الخارجية طارق رضوان ووكيل اللجنة كريم درويش ورئيس لجنة الصناعة أحمد سمير.
دافيد جوبرين خلال كلمته في الحفل قال: “الشراكة المتينة بين مصر و”إسرائيل” تشكل قدوة ومثالًا لحل صراعات إقليمية ودولية في العالم أجمع حتى يومنا هذا”
كما شملت الدعوات رئيس لجنة الشؤون العربية في البرلمان لواء الشرطة السابق سعد الجمال ووكيل اللجنة أحمد فؤاد أباظة ورئيس حزب “الوفد” واللجنة التشريعية بهاء الدين أبو شقة ورئيس اللجنة الاقتصادية ونائب رئيس ائتلاف الغالبية عمرو غلاب ورئيس لجنة الشباب والرياضة محمد فرج عامر، وأخيرًا رئيس لجنة الثقافة والإعلام وزير الإعلام الأسبق أسامة هيكل، حسب المصدر.
وبالتزامن مع الحفل الذي تقيمه السفارة الإسرائيلية في القاهرة كانت السفارة المصرية في تل أبيب تشارك بدورها في مراسم إحياء ذكرى الجنود المصريين الذين استشهدوا خلال حرب التحرير في فلسطين عام 1948، حيث أقيم لهم نصبًا تذكاريًا “عاد هالوم” في مدينة أشدود المحتلة جنوب “إسرائيل”.
شارك في المراسم سفير مصر في “إسرائيل” حازم خيرت وأعضاء السفارة، كذلك ممثلو جيش الدفاع الإسرائيلي وأعضاء من وزارة الخارجية الإسرائيلية وممثلون من القوات الدولية لحفظ السلام وكبار الموظفين في بلدية اشدود، يذكر أنه أقيم هذا النصب عام 1989 في نطاق اتفاقية السلام بين مصر و”إسرائيل”.
ما الرسائل؟
لم يكن اختيار مكان إقامة هذا الحفل عشوائيًا، فبينما كانت تتحفظ السفارة الإسرائيلية في القاهرة قبل ذلك على اختيار أماكن إقامة فعالياتها، حيث كانت تميل للمناطق البعيدة نسبيًا عن وسط العاصمة، المؤمنة بشكل جيد، الغائبة عن الأضواء وصخب الإعلام خشية تعرض أعضائها لأي تهديد، إذ بها اليوم تنسف هذا التحفظ شكلًا ومضمونًا.
بات من الواضح لدى الحكومة العبرية أن استئناس الأنظمة الحل الأسرع نحو الوصول إلى الأهداف المنشودة، خاصة بعدما أثبتت التجارب التاريخية أن الحصول على مباركة الشعوب العربية ضربًا من ضروب الخيال
أن يقع الاختيار على الفندق الذي كان يلتقي فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر زعماء وقادة دولة فلسطين على رأسهم الرئيس ياسر عرفات الذي يبعد أمتار قليلة عن مقر جامعة الدول العربية التي من المفترض أن تكون القضية الفلسطينية شغلها الأول، كذلك على بعد دقيقة ونصف تقريبًا من تمثال الشهيد الفريق عبد المنعم رياض الذي استشهد صبيحة 9 من مارس 1969 بنيران القوات الإسرائيلية بينما كان يقف وسط جنوده في سيناء، كذلك ملاصقته لميدان التحرير الذي طالما شهد حرق العلم الإسرائيلي عبر فعاليات عدة بخلاف كونه ميدان الثورة التي طالبت بقطع أشكال التطبيع كافة.. لا شك أنه اختيار يحمل رسائل عدة.
نجحت دولة الاحتلال خلال السنوات الـ4 الأخيرة على وجه التحديد في تطوير علاقاتها مع عدد من الدول العربية بشكل غير مسبوق، لا سيما مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وبات الحديث عن مشروعات مشتركة بين تلك الدول وتطبيع رياضي ثقافي سياسي خبرًا عاديًا، بل وصل الأمر إلى الحديث عن افتتاح سفارة سعودية قريبًا في تل أبيب، يقابلها هرولة من ولي العهد السعودي نحو تفعيل سبل التعاون مع “إسرائيل” تحت ذريعة التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
الضغوط التي تمارسها الحكومات العربية على السلطة الفلسطينية بشقيها، رام الله وغزة، في الوقت الذي تذلل فيه كل العقبات لتفعيل أواصر التعاون مع حكومة الاحتلال، تجسد حجم الأزمة وتعكس بصورة كبيرة نجاح الدبلوماسية الإسرائيلية في كسب ثقة بعض الأنظمة العربية، مستغلة في ذلك حالة الوهن والضعف التي تنتاب تلك الأنظمة الساعية إلى ترسيخ أركانها بأي صورة كانت، حتى لو عبر التحالف مع خصومها.
بات من الواضح لدى الحكومة العبرية أن استئناس الأنظمة الحل الأسرع نحو الوصول إلى الأهداف المنشودة، خاصة بعدما أثبتت التجارب التاريخية أن الحصول على مباركة الشعوب العربية ضربًا من ضروب الخيال، ومن ثم كان الدعم لتلك الأنظمة في مواجهة شعوبها، وهو ما ذهب إليه بعض ساسة الصهيونية بعدم الإسراع في إبرام اتفاقيات سلام مع دول مثل السعودية في الوقت الراهن، طالما أن العلاقات بشكلها الحاليّ تحقق ما تريده تل أبيب بما يوفر الحرج الذي من الممكن أن يتعرض له النظام الحاكم في المملكة من السعوديين، قد ينعكس سلبًا فيما بعد على العلاقات بين البلدين.
احتفل الإسرائيليون الليلة في ميدان التحرير بذكرى احتلال فلسطين!
تم اختيار مكان الاحتفال بفندق الريتز كارلتون (هيلتون النيل سابقا) المطل على النيل والملاصق لمقر الجامعة العربية.
رسالة صهيونية من قلب القاهرة تتحدى كل ثوابتنا وتعكس حالة الذل والاستسلام التي تعيشها مصر وأمة العرب. pic.twitter.com/4wXBa8gTDF
— عامر عبد المنعم (@aamermon1) May 8, 2018
في تعليق لأحد المصريين على احتفالية الأمس على صفحة “إسرائيل في مصر” قال “سلامكم مع الأنظمة،… ولكن الشعوب تكرهكم إلى يوم الدين، الحق لا يسقط بالتقادم، الأرض لا تورث حسب الديانة، أجدادنا كانوا يهودًا أو نصارى وأسلموا، لا ينزع حقهم وحقنا لمجرد أنكم ما زلتم يهودًا قادمين من سيبيريا وإثيوبيا وشتى بقاع الأرض، إذا كنتم تنبشون في الأرض العربية عن شيء من قديم الأزل يثبت وجودكم فمن باب أولى أن تكون الأرض حق لمن يحمل مفتاح بيته إلى اليوم”.
جاء رد الموقع: “الأنظمة لها المسؤولية بقيادة الدولة والشعب، وهذه المسؤولية تتطلب مواقف واقعية وبرغماتية، أما الشعوب التي تتكلم عنها فتتكون من أفراد ليست لهم أي مسؤولية، ولذلك هم بارعون فقط بحكي دون جمرك وبالشعارات الجوفاء”.
من صور الحفل
بالتزامن مع الحفل الذي تقيمه السفارة الإسرائيلية في القاهرة كانت السفارة المصرية في تل أبيب تشارك بدورها في مراسم إحياء ذكرى الجنود المصريين الذين استشهدوا خلال حرب التحرير في فلسطين عام 1948
غضب شعبي خجول
حالة من الغضب الشعبي الخجول سيطرت على الشارع المصري منذ إعلان إقامة هذا الحفل، حيث تعالت الأصوات الداعية لصياغة “قائمة سوداء” بالشخصيات المصرية التي لبت الدعوة الإسرائيلية، فيما أكد محمد سعد عبد الحفيظ عضو مجلس نقابة الصحافيين المصرية إحالة أي صحافي سيشارك في تغطية تلك الفعالية إلى التحقيق النقابي لمخالفته قرار النقابة برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
الغضب الشعبي لم ينصب على الحكومة المصرية التي سمحت بإقامة مثل هذه الاحتفالية فحسب، بل وصل الهجوم إلى الفندق نفسه الذي أكد البعض امتلاك الدولة لكامل أسهمه، ودشنوا وسم “#قاطعوا_ريتز_كارلتون”، كعقاب لكل من يتعامل مع الكيان الصهيوني.
الإسرائيليون يحتفلون بذكرى اغتصابهم فلسطين في ميدان التحرير ، معززين مكرمين ، آمنين مطمئنين ، لكن ثوار يناير الذين احتشدوا في الميدان نفسه رافعين علم فلسطين كانوا يتهمون بأنهم عملاء لإسرائيل ؟!!!
— جمال سلطان (@GamalSultan1) May 8, 2018
https://twitter.com/HosamYahiaAJ/status/993923202152775680
في أيام الثورة اللي كانت بالنسبة لكم نكسة، السفير الصهيوني مكنش لاقي حتة تلمه والبعثة الصهيونية كانت بتشتغل من مكان سري وعلم فلسطين كان منور ميدان التحرير في كل المليونيات..لكم الصهاينة القتلة المحتلين ولنا الثورة وفلسطين.
— رشا عزب (@RashaPress) May 8, 2018