من أين تأتي حبوب القهوة الموجودة في قهوتك الصباحية؟ ربما قبل سنوات عديدة لم يكن الكثيرون يهتمون بسؤال أنفسهم عن المصدر الذي تأتي منه حبوب القهوة التي يحتسونها كل صباح، إلا أن بعد ظهور سلاسل المقاهي التجارية العالمية في بداية الألفية الجديدة، مثل سلاسل مقاهي “ستاربكس”، بدأ المهتمون بالقهوة ومن يشربونها بشكل يومي الاتجاه نحو تعلم القهوة وجعلها فنًا يحاولون أن يكونوا بارعين فيه.
اتجه محبو القهوة للتعرف أكثر على كل المراحل التي تمر بها قبل وصولها إلى الكوب الذي يحتسونه بشكل يومي، ليجعلوا أنفسهم، رغم أنهم المستهلكون للمنتج، جزءًا من عملية التصنيع تلك التي تتحول فيها القهوة من حبوب تُستخرج من المزارع إلى مشروب يومي يصلح لجميع الأوقات، لم يعد يحب محتسو القهوة أن يكون جوابه على السؤال المعتاد “من أين تكون قهوتك المفضلة” هو “ستاربكس”.
حينما تدخل لتناول كوب من القهوة في أحد المقاهي، ستجد على الأرفف منتجات لحبوب القهوة المختلفة، أحدها من كولومبيا والآخر من إثيوبيا، ومنتج من إندونيسيا، وإذا قررت أن تبدأ في صنع القهوة الخاصة بك في منزلك، سيكون قرار شراء أي نوع من هذه الحبوب مُحيرًا للغاية، فما الفرق بينهم ما داموا كلهم يخرجون السائل البني المركز بالكافيين، في الواقع هناك فرق كبير بين كل منتج من المنتجات السابقة، والسبب هو مصدرها.
هناك ما يقارب 2.2 مليار كوب من القهوة يُستهلك يوميًا
دعنا نأخذك في رحلة مع منتج القهوة من الحبوب إلى الكوب، لتتعرف العوامل التي تحدد مذاق القهوة بحسب مصدرها، وأسرار تسمية أنواع معينة من المشروب الذي يشربه مئات الملايين حول العالم.
البداية
عملية حصاد ثمار كرز القهوة يدويًا
القهوة في الأصل هي حبوب أو بذور يتم تجميعها من أشجار القهوة التي يكون لها مزارعها الخاصة، تأخذ كل شجرة ما يقرب من ثلاث إلى أربع سنوات كي تطرح الثمار التي يُستخرج منها بذور أو حبوب القهوة، تُعرف الثمار بـ”كرز القهوة” وهي ثمار تشبه الكرز لونها أحمر بداخلها بذرة القهوة التي تكون صفراء اللون في البداية.
المكان: أمريكا اللاتينية
تُحصد ثمار كرز القهوة مرة واحدة في السنة في كثير من المناطق حول العالم، إلا أنها تحصد على مرتين في مناطق بأمريكا اللاتينية، مثل كولومبيا والبرازيل (أحد أكثر دول أمريكا اللاتينية تصديرًا لحبوب القهوة وتوجد حبوب القهوة الخاصة بهم في جميع أنحاء العالم).
المرحلة الأولى
تُنقى ثمار الكرز الناضجة من أشجار القهوة باستخدام العمل اليدوي، حيث يمر العمال على أشجار القهوة كل ثمانية أو عشرة أيام لحصاد الثمار، يحصد المزارع أو العامل النشط من 50 – 100 كيلوغرام من الثمار الناضجة كمتوسط يومي، التي ستنتج نحو 10- 20 كيلوغرامًا من حبوب القهوة يوميًا، حيث يتم محاسبة العامل على مجهوده اليومي من جمع الثمار، وهي عملية تحتاج عددًا كبيرًا من العمال بالإضافة إلى كونها مُكلفة.
تتمتع أمريكا اللاتينية بتربة مسامية وجو معتدل من حيث حرارة الشمس وكمية الأمطار، وعلى الرغم من أنه لا يوجد اختلاف كبير بين البرازيل وكولومبيا، فالأولى تعتبر المسؤول الأول عن صناعة ثلث كمية القهوة في القارة اللاتينية، حيث تتمتع بذور القهوة في البرازيل بمذاق حلو قليلًا، يتخلله مذاق خفيف من البندق أو المكسرات، كما أنها تعتبر قليلة الحموضة، بينما تتمتع كولومبيا بوجود مزارع القهوة على ارتفاعات عالية، وهو ما يمنحها مذاقًا متوسط الحموضة وغنيًا وله مزيج من حلاوة الكراميل، إن كنت من غير محبي القهوة شديدة المرارة، عليك تجربة القهوة من كولومبيا.
تحتل البرازيل المركز الأول على العالم في تصدير القهوة
لا يمكن أن يكون العمال أكثر سرعة إلا في المرحلة التي تلي حصاد الثمار، حيث يجب على ثمار كرز القهوة أن تصل إلى محطات التصنيع فور حصادها، وذلك للحفاظ على الثمرة من التعفن والحفاظ على جودة البذور وما تحويه بداخلها من مذاق فريد، لتتم معالجة ثمار القهوة بطريقتين: الطريقة الأولى توصف بأنها الطريقة التقليدية وتُسمي “الطريقة الجافة”، يُستغل فيها عدد كبير من العمال لوضع الثمار على بساط كبير لتجف على ضوء الشمس ويتم تقليبها أكثر من مرة في اليوم للحفاظ عليها، وطبقًا للظروف الجوية يتم تكرار هذه العملية عدة مرات خلال عدة أسابيع حتى تنخفض رطوبة الثمرة إلى 11%.
تعتمد الطريقة الأخرى على الآلة بدلًا من الإنسان، وهي الطريقة الأكثر كلفة للمصنعين مقارنة بالطريقة الأولى التي يتم فيها استغلال كثير من العمال مقابل أجور زهيدة، يُفصل لب الثمرة عن قشرتها بواسطة الماكينة، ومن ثم يتم تجفيف البذور بعيدًا عن قشرتها قبل أن يتم ضخها في قنوات للمياه لفصل البذور على حسب حجمها ووزنها، البذور الأخف تبقى على سطح الماء بينما تغرق الأكثر وزنًا إلى القاع.
يتم نقل الحبوب بعد ذلك إلى خزانات مملوءة بالمياه لتمر الحبوب بمرحلة تُسمي بالتخمير، حيث تبقى الحبوب داخل هذه الخزانات ليوم أو ليومين على حسب حالة البذور والطقس، لتنتج بعض الإنزيمات داخل هذه الخزانات تساعد في فصل الحبوب عن القشرة الملتصقة بها من إثر الثمرة التي تُعرف بالـ”بارنشيما” وتنفصل عن الحبوب بفعل الإنزيمات داخل خزانات المياه، لتجفف بعد ذلك إما بالطريقة التقليدية المذكورة سابقًا أو باستخدام التجفيف بواسطة الماكينات، لتكون الحبوب جاهزة للمرحلة التالية.
نحن هنا نتحدث عن المراحل التي تمر بها حبوب القهوة قبل أن يتم تصديرها، ولكن قبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية دعنا ننتقل إلى مكان آخر لنلقي نظرة على الحبوب التي تُنتج منه، حيث تتبع أغلب المناطق التي تصدر حبوب القهوة مراحل التصنيع نفسها.
المكان: إفريقيا
تعتبر إفريقيا المنافس الأكثر شراسة بالنسبة لأمريكا اللاتينية حينما تكون الصادرات حبوب القهوة، فلإفريقيا تاريخ طويل مع القهوة بحكم كونها المكتشف الأول للحبوب في إثيوبيا، تختلف حبوب القهوة الإفريقية عن نظيرتها من أمريكا اللاتينية في أنها تتمتع بمذاق من مذاق ورائحة الفاكهة، حيث يكون فيها مذاق ورائحة من الكرز أو من الليمون أو من الزهور، وبالأخص حبوب القهوة القادمة من بوروندي أو كينيا أو إثيوبيا.
تنتج إفريقيا نوعي القهوة المعروفين في العالم “أرابيكا” أو “روبوستا”
المرحلة الثانية
حبوب القهوة الخضراء قبل التحميص
ذكرنا من قبل أن القهوة تمر بعدة مراحل لتفصل عن الثمار ومن ثم تدخل مرحلة التجفيف حتى تصير حبة قهوة قاسية، حينها فقط يأتي دور عملية “التقشير”، حيث تدخل الحبوب ماكينات تعمل على تقشير الحبوب من أي قشرة من ثمار الكرز قد تكون عالقة بها بعد عملية التجفيف، ومن ثم تدخل عملية “التلميع” التي لا تعتبر مرحلة أساسية ولا يقوم بها الأغلبية إلا أن الحبوب التي تدخل مرحلة التلميع تلك، وتعني تنقية حبة القهوة بشكل كامل، حبوبًا عالية الجودة مقارنة بالحبوب التي لا تُلمع.
من هنا تأتي مرحلة “الصنف والتفريز” التي تتم من خلال الحجم والوزن، كما يكون اللون من بين الصفات التي يتم تصنيف الحبوب وفرزها على أساسها، تُستخدم تقنية الهواء المضغوط لفصل الحبوب ثقيلة الوزن من الحبوب خفيفة الوزن، ومن ثم يتم تنقية الحبوب الجيدة فقط ليتم تصديرها، أما ما يكون معيوبًا منها سواء من حيث الحجم أم الشكل أم الوزن أم اللون فيتم انتقائه من المجموعة السابقة إما من خلال العمل اليدوي أو من خلال الماكينات، تستخدم أغلب الدول الماكينات، إلا أن العمل اليدوي يكون أرخص، وتستغله سلاسل المقاهي الكبرى لتخفيض تكلفة الإنتاج لتحقيق مزيد من الأرباح.
تنتهي هذه المرحلة بإنتاج ما يُعرف بحبوب القهوة الخضراء، وهي ما قبل تحميص حبوب القهوة لتتحول إلى حبوب بنية اللون
المكان: آسيا
تتمع حبوب القهوة القادمة من القارة الآسيوية أنها أكثر الحبوب امتلاءً أي أكبرها حجمًا، وأكثرها ميلًا لطعم الشيكولاتة الداكنة أو زبدة البندق، تحتل “إندونيسيا” المركز الرابع من بين الدول الآسيوية المصدرة للقهوة، كما تحتل الهند المركز السابع على مستوى العالم.
تأتي هنا مرحلة تصدير حبوب القهوة من خلال النقل عبر سفن الشحن من خلال المحيطات، حينها تصل إلى محطات الاستقبال من موزعي القهوة في كل بلد، حينها يكون أول شخص يحكم على القهوة من يُقال عنه “الذواقة” وهو الشخص الذي يعمل من أجل أن يحكم على مظهر حبوب القهوة الخارجي ومن ثم يتذوق الحبوب نفسها ليحكم على طعمها قبل أن تدخل مرحلة “التحميص”.
مرحلة تذوق القهوة
تُحمص الحبوب بعد ذلك في معامل مخصصة لذلك، ومن ثم تُطحن لتأتي مهمة “الذواقة” الثانية وهي شم رائحة القهوة بعد أن تُطحن وتغلى في الماء، وذلك للحكم على مدى جودة القهوة من رائحتها، ومن ثم يلتقط ملعقة ويستنشق الرائحة سريعًا ومن ثم ينشرها سريعًا على أماكن التذوق على لسانه من دون أن يبلعها قبل أن يبصقها خارج فمه.
يمكن لذواقة ماهر أن يتذوق مئات من عينات القهوة يوميًا
يجب أن تصل القهوة إلى المستهلك بعد تحميصها، لأن مرحلة التحميص هي التي تحدد طعم ورائحة القهوة التي نتناولها في المقاهي، ولهذا فعملية التحميص تتم في الدول المستوردة لحبوب القهوة وليس في الدول المصدرة، حيث تنتهي مهمة الدول المصدرة عند مرحلة “القهوة الخضراء” فحسب.
كانت هذه هي رحلة حبوب القهوة من الحبوب إلى الكوب، تكشف لك سر الاختلاف بين الأطعمة المختلفة للحبوب على أساس المصدر الذي تأتي منه، وكيفية استخراجها وتجفيفها والعمليات الكثيرة التي تمر بها تلك الحبة الصغيرة التي يصنع بسببها مئات المليارات من الأرباح قبل أن تتحول إلى المشروب الساخن المفضل عالميًا.