وصفت إستراتيجية الأمن القومي الصادرة عن الإدارة الأمريكية الحاليّة، في ديسمبر/كانون الأول 2017، إيران وكوريا الشمالية “بالدول أو الأنظمة المارقة” التي يجب مواجهتها لحماية الأمن العالمي من التدهور، مبينة أن الحقبة الجديدة من التنافس على الساحة الدولية تقوم على مواجهة نظم الحكم المارقة التي أخذت في الانتشار حول العالم.
وفي ضوء نهج التصعيد الخطابي الذي تسير عليه الإدارة الأمريكية منذ توليها مقاليد الحكم، وتحول اليوم إلى تصعيد عملي، تصبح التساؤلات المطروحة، ما الدوافع العملية لاتخاذ القرار؟ وما السيناريوهات المحتملة؟
دوافع اتخاذ القرار
ربما تكمن أهم دوافع اتخاذ القرار في النقاط التالية:
– التكاليف البديلة لعدم اتخاذ القرار: ينظر ترامب إلى الاتفاق على أنه “خسارة” مُنيّت بها الولايات المتحدة، إذ لم يحقق لها المكاسب التي ترنو إليها فيما يتعلق بتجميد الملف النووي لإيران، ما جعل تكاليفه البديلة في حال استمر على حاله باهظة بالنسبة للولايات المتحدة، الأمر الذي جعل اتخاذه بالنسبة لترامب أمرًا لا بد منه.
إيران يمكن أن تعيد تخصيبها النووي بعد فترة من الزمن، لكن بنسبة مئوية منخفضة لا تتجاوز 5%
ـ مسعى إدارة ترامب بتطبيق سياسة “العصا الغليظة” التي تحد فعلاً من تحرك الجهات المنافسة للولايات المتحدة وحلفائها، من خلال تطويقها ورفع مستوى التعامل الصارم معها، من أجل إعادة الهيبة الدبلوماسية التي هُدرت في عهد إدارة أوباما.
ـ جنوح إيران لتطوير ترسانتها العسكرية “النووية والكيميائية” في الأراضي السورية، لا سيما في بانياس “طرطوس” ومصياف “حماة”، ويمكن وصف هذه الخطوة بالالتفاف الفعلي حول الاتفاق، ولا شك أن هذا التحرك أثار تخوف الحليف الأكبر للولايات المتحدة في المنطقة “إسرائيل”، ودفعها نحو بذل جهود حثيثة لإقناع الإدارة الأمريكية باتخاذ القرار، وفي الحقيقة لا يتطرق الاتفاق إلى آلية الحيلولة دون تطوير إيران أسلحتها الكيميائية أو النووية خارج حدودها.
ـ مواصلة إيران تصنيع أسلحة باليستية لها القدرة على حمل أنواع مختلفة من الرؤوس الحربية الكيميائية والنووية، وقد اُستخدم هذا السلاح أكثر من مرة من الحوثيين الموالين لإيران.
ـ رفع القيود التقنية عن الأنشطة النووية اعتبارًا من عام 2025، والتوقف عن بناء المزيد من مفاعلات المياه الثقيلة لمدة 15 عامًا بحسب بعض مواد الاتفاق، أي أن إيران يمكن أن تعيد تخصيبها النووي بعد فترة من الزمن لكن بنسبة مئوية منخفضة لا تتجاوز 5%، وبغض النظر عن النسبة المرصودة ففي جميع الأحوال تستطيع إيران تطوير ترسانتها العسكرية خارج حدودها والعودة إلى تطوير برنامجها النووي بعد عام 2025، وتصف الإدارة الأمريكية هذه المواد بالمواد التي تُضعف بنية الاتفاق.
ـ السياسة القطبية لبعض شخصيات الإدارة الأمريكية، كجيمس ماتيس ومايك بومبيو وجون بولتون التي تتسم بالنزعة القطبية الأحادية على الساحة الدولية، أي أنها تحاول بذل جهود حثيثة واتخاذ إجراءات احترازية صلبة للحيلولة دون ولادة قوة إقليمية أو عُظمى يمكن أن تنافس القوة الأمريكية.
كوريا الشمالية تلقت دعمًا صينيًا كبيرًا وكانت روسيا داعمة دبلوماسية، أما إيران ففقدت الدعم الروسي أو الإيراني الخطابي أو العسكري، ولعل ذلك يعود إلى الرغبة الروسية في تقليم أظافر إيران فعلاً في سوريا
ـ البُعد الجغرافي: قد يتساءل أحدنا عن سبب ميل الولايات المتحدة للتفاوض مع كوريا الشمالية والتصعيد ضد إيران، الإجابة عن هذا السؤال متعددة الجوانب، لكن يبدو أن البُعد الجغرافي يلعب دورًا مهمًا في الإجابة عنها، إذ تقع أراضي البلدين – الولايات المتحدة وكوريا الشمالية – في نطاق مدى الصواريخ التي تمتلكانها، فالمسافة بين جزيرة غوام الأمريكية وكوريا الشمالية 2112 ميلاً، وتبعد هاواي عن كوريا الشمالية مسافة 4700 ميل، وتقع كوريا الشمالية في نطاق البوارج الأمريكية ما يزيد من جدية الأزمة، أما المسافة بين الولايات المتحدة وإيران فبعيدة جدًا.
فضلاً عن عدم جاهزية إيران من حيث امتلاك السلاح النووي مقارنة بالنظام الكوري الشمالي، بالإضافة إلى عقلانية النظام الإيراني الذي يمكن أن يُرتدع حرصًا على أمن شعبه واستقرار اقتصاده المفتوح مع الدول الأخرى، مقارنة بالنظام الكوري الشمالي الذي يفتقد لأي معلم من معالم العقلانية، نظرًا لديكتاتوريته العالية التي لا تكترث لأمن شعبها أو استقراره الاقتصادي.
عوضًا عن انعدام نية حلفاء الولايات المتحدة في محيط كوريا الشمالية، ككوريا الجنوبية واليابان، الاتجاه نحو التصعيد، بينما مساير “إسرائيل” ودول الخليج الولايات المتحدة وتشجيعها على التصعيد الذي يمكن أن يؤسس لسياسة ردع ضد إيران، وأخيرًا ربما انعدام الدعم القطبي لإيران، فكوريا الشمالية تلقت دعمًا صينيًا كبيرًا وكانت روسيا داعمة دبلوماسية، أما إيران ففقدت الدعم الروسي أو الإيراني الخطابي أو العسكري، ولعل ذلك يعود إلى الرغبة الروسية في تقليم أظافر إيران فعلاً في سوريا.
سيناريوهات ما بعد الانسحاب من الاتفاق
كثيرةٌ هي السيناريوهات التي يمكن توقعها، لكن يبدو السيناريوهات أدناه هي الأقرب لترقب ما يمكن أن يُظهر قرار الانسحاب للسطح:
١- سيناريو التصعيد النسبي
يقوم هذا السيناريو، كما أسلفنا ذكره، على إستراتيجية “العصا الغليظة” التي تتم عبر إرسال قوات ردعية تربض في المناطق القريبة من المنافس والسيطرة على الطرق التجارية المحيطة به وتضييق الخناق على الفعاليات التجارية والاقتصادية خاصته، وقد يشمل هذا التصعيد استهداف أوسع للنفوذ الإيراني في الدول المنتشرة فيه، كسوريا واليمن والعراق ولبنان، وتوسيع نطاق العقوبات التي قد تشمل النفوذ التجاري والأمني والتمويلي والتكنولوجي ليس في منطقة الشرق الأوسط، بل في المناطق الأخرى كأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وما يُضفي لهذا السيناريو احتمال التحول إلى واقع هو:
يُرشح أغلب أعضاء الإدارة الأمريكية إستراتيجية الضرب الوقائية الاستباقية التي تعني استهداف المنافس في قعر داره ومناطق نفوذه
ـ الاستهداف الإسرائيلي العسكري المباشر والأمريكي الخطابي ـ الدبلوماسي إلى الآن – للوجود الإيراني في سوريا ودول أخرى.
ـ الرغبة الأمريكية في تقليل كلفة أي تحرك عسكري، وقد لامسنا ذلك بمطالبة دول الخليج تحمل مسؤولية التحرك الأمريكي في سوريا، ما يعني حرص الإدارة الأمريكية على التحرك وفقًا لأساليب الإستراتيجية المذكورة أعلاه التي تتصف بالتصعيد النسبي غير المُكلف ولكن ذي النتائج الإيجابية نسبيًا.
ـ فقدان الولايات المتحدة الشريك الإقليمي المجاور لإيران الذي يمكن أن يدعم إجراءات العسكرية الصلبة، فعدم التزام الدول المجاورة لإيران كتركيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمنستان بقرار العقوبات الأمريكية التي اُتخذت مسبقًا ضد إيران بارز جدًا.
ـ معارضة دول الاتفاق الأخرى فرض عقوبات على إيران وتطلعها للتعاون معها، لا سيما على صعيد اقتصادي، وذلك انطلاقًا من قاعدة التحالف النسبي وليس التحالف المُطلق، أي أن بعض دول 5+1 خاصة فرنسا تنظر إلى مكسبها الاقتصادي على وجه الخصوص من الاتفاق مع إيران مقارنة مع دول الاتفاق الأخرى، بمعزل عن الهدف المطلق لهذا التحالف الذي كان محددًا في إطار الحيلولة دون تطوير إيران قدراتها النووية بشكل كامل.
ويمكن أن نجد في إعلان الولايات المتحدة منتصف يوليو/تموز 2017 فرض عقوبات جديدة على إيران شملت 18 من الشخصيات والمؤسسات الإيرانية فقط دون التوسع في نطاق هذه العقوبات، لكن بالتركيز على تقليم نفوذها في جنوب سوريا ولبنان بمحاولة رفع التنسيق مع الحكومة اللبنانية، دليلاً على تبني منهج تطبيق سياسة التطويق وتقليم الأظافر النسبية التي قد تؤدي إلى مفاوضات أو إجراءات توقف المشروع الإيراني في التمدد وتملك السلاح النووي قدر الإمكان.
المرشح هو أن تُحاول الإدارة الأمريكية الجديدة كبح جماح التوغل الإيراني في المنطقة، انطلاقًا من كونه يؤثر سلبًا على المصالح الأمريكية والحلفاء
٢- سيناريو الضربة الوقائية
يُرشح أغلب أعضاء الإدارة الأمريكية إستراتيجية الضرب الوقائية الاستباقية التي تعني استهداف المنافس في قعر داره ومناطق نفوذه، قبل أن يتمدد ويشكل خطرًا حقيقيًا، لكن تنفيذ الولايات المتحدة هذا السيناريو يبدو صعبًا بعض الشيء، لأن الأعضاء الذين يدعون والذين لا يدعون إلى تنفيذ هذه الإستراتيجية على حد سواء يعلمون حجم كلفتها السياسية والاقتصادية، خاصة في ظل وجود أمثلة عملية على فشلها كالمثال الأفغانستاني والعراقي، بالإضافة إلى العقلية الاقتصادية التي يتسم بها ترامب ومعاونوه.
فتكاليف تلك الضربة التي قد تستهدف إيران، ستكون موجعة جدًا للولايات المتحدة التي لم تكد تخرج من ثوب الخسائر الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية جراء الحرب على أفغانستان والعراق، تلك الحرب التي ولدت منظمات إرهابية دفعت أعضاء الإدارة الجديدة للاعتراف بأنها ناتجة عن فراغ السلطة الذي نتج عن انهيار الأنظمة السابقة، مع ضرورة التذكير بالرفض الأوروبي للقرار الأمريكي.
وهنا يجدر ذكر القوة العسكرية والتماسك الأمني اللذين تتسم بهما الدول المعنية مقارنة بالعراق أو أفغانستان، الأمر الذي يزيد من تكاليف الحرب الأمريكية في حال ركنت لإستراتيجية الضربات الوقائية، عوضًا عن اقتصار رغبة ترامب على استرداد حق الولايات المتحدة من الحرب على العراق خصوصًا، وليس فتح جبهة حرب جديد تكلف بلاده ثروة هائلة لا تعود بعائد أمني أو اقتصادي جيد، فترامب “التاجر” يرى أن المقدرات العراقية وعلى رأسها النفط سُلمت لإيران ولا بد استعادتها.
وقد أكد هذا الأمر مسؤول رفيع في الإدارة الأمريكية، حيث أشار إلى أن الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي لا تتضمن ضربات استباقية، مع التأكيد على حق واشنطن في حماية مصالحها، بمعنى وجود هدف تقوّية النفوذ ولكن بأساليب مختلفة، على الأرجح تدور في فلك سياسة الاحتواء أو التطويق لإيقاف دور “الدول التحريفية”، حسب وصف الإستراتيجية، في المضي قدمًا نحو تغيير خريطة النفوذ العالمي.
يبدو أن بنية الاتفاق التي تسمح لإيران الاستمرار في تطوير برنامجها النووي داخل وخارج البلاد بعد فترة من الزمن، التي لا تحد من تحركها خارج حدودها القومية، هما العاملان الرئيسان في دفع ترامب نحو اتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاق
المرشح أن تُحاول الإدارة الأمريكية الجديدة كبح جماح التوغل الإيراني في المنطقة، انطلاقاً من كونه يؤثر سلبًا على المصالح الأمريكية والحلفاء كدول الخليج و”إسرائيل”، لكن بالتمعن في توازن القوى الذي يوفر المساندة العسكرية والدعم الدبلوماسي والشرعية، ممثلاً بروسيا ونسبيًا بالصين، يبدو أن الولايات المتحدة قد لا تستطيع اتخاذ إجراءات صلبة أو عسكرية مباشرة ضد إيران، وإنما قد تضطر للنظر في التنسيق مع روسيا للضغط على إيران وإيقاف التعاون العسكري التطويري معها مقابل ملفات أخرى، لعل أهمها ملف أوكرانيا وكوريا الشمالية، إذ يمكن أن توقف أو تخفف الولايات المتحدة دعمها المُقدم لأوكرانيا، كما يمكن أن تمنح روسيا دورًا أكبر نسبيًا فيما يتعلق بملف أزمة كوريا الشمالية وما يمكن أن يتبعها من انفتاح كوري شمالي على العالم.
٣- سيناريو خوض مرحلة جديدة من المفاوضات
يبدو أن سيناريو التصعيد النسبي أكثر رجوحًا مقارنة بالضربة العسكرية الصلبة، لأنه يعود على الولايات المتحدة بما هو مطلوب بتكاليف أقل ودون الاشتباك مع قوى أخرى، وبتحقيق الولايات المتحدة ما تصبو إليه من حد للنفوذ الإيراني وضمان لوقف التخصيب النووي في الداخل والخارج، قد تتجه “لدسترة” أو محاصرة إيران “بالشرعية الدولية” لوقف تخصيب برنامجها النووي، فتصريح ترامب بضرورة وقف تخصيب إيران نشاطها النووي بالكامل لما بعد عام 2030 دليل ملموس بشأن الهدف الأمريكي من قرار الانسحاب من الاتفاق، كما أن رفض الدول الأوروبية القرار الأمريكي قد يلعب دورًا في دفع الولايات المتحدة لخوض مفاوضات جديدة بشأن الاتفاق بعد تحقيق النقاط التي ترنو إليها.
في الختام، يبدو أن بنية الاتفاق التي تسمح لإيران الاستمرار في تطوير برنامجها النووي داخل وخارج البلاد بعد فترة من الزمن، التي لا تحد من تحركها خارج حدودها القومية، هما العاملان الرئيسان في دفع ترامب نحو اتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاق، والمرشح هو العودة إلى الاتفاق بصيغة جديدة.