شهد معتقل قاعدة سديه تيمان القابع بصحراء النقب على بُعد 30 كيلومترًا من قطاع غزة في اتجاه مدينة بئر السبع، حالة من الفوضى العارمة، أمس الاثنين، جراء اقتحام مئات المتطرفين الإسرائيليين المدعومين من تيارات سياسية وأمنية عدة للقاعدة، اعتراضًا على تحقيق الشرطة العسكرية مع 9 من جنود الاحتياط الإسرائيلي بشبهة الاعتداء جنسيًا والتعذيب والتنكيل بالعديد من الأسرى الفلسطينيين.
وأجبر الاقتحام الذي شارك فيه أعضاء بالكنيست من الائتلاف الحاكم، على رأسه حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، و”الصهيونية الدينية” برئاسة بتسلئيل سموتريتش، و”عظمة يهودية” برئاسة إيتمار بن غفير، الشرطة العسكرية في القاعدة على نقل الجنود المحتجزين إلى قاعدة بيت ليد العسكرية شمال تل أبيب لاستكمال التحقيقات، غير أن المقتحمين لاحقوهم وتمكنوا من اقتحامها كذلك.
وبعيدًا عن القراءات الوردية لتلك الواقعة التي تحاول تجميل صورة الاحتلال وتسويقه كمؤسسة ترفض الانتهاكات الممارسة بحق الأسرى الفلسطينيين، وتقديم المتورطين في ذلك للمحاكمة، إلا أنها كشفت وبشكل كبير عن حالة الانقسام الحاد بين المؤسستين، العسكرية والسياسية، في الداخل الإسرائيلي.. فما الذي حدث؟
اقتحام سديه تيمان.. ما القصة؟
تعود القصة ابتداءً حين قررت سلطات الاحتلال مع انطلاق حرب غزة أكتوبر/تشرين الأول الماضي إعادة افتتاح معتقل قاعدة سديه تيمان التابعة للقيادة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي، والتي أقيمت أوائل أربعينيات القرن الماضي خلال فترة الانتداب البريطاني، والتي كانت في السابق مقرًا بديلًا لمديرية التنسيق والارتباط في غزة، التي تعمل في حالات الطوارئ على حدود القطاع.
كان الهدف من إعادة افتتاح هذا المعتقل، الواقع على بعد نحو 10 كيلومترات شمال غرب مدينة بئر السبع، والقريب من مسرح عمليات حرب غزة، احتجاز المعتقلين الفلسطينيين الذين ألقت قوات الاحتلال القبض عليهم طيلة أيام الحرب، لا سيما عناصر “وحدة النخبة” من كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حسب المزاعم الإسرائيلية.
ومنذ اندلاع الحرب وبموجب قرار إداري من وزير الدفاع الإسرائيلي، يواف غالانت، احتجز الاحتلال داخل هذا المعتقل قرابة 1500 غزي، هذا بخلاف المئات الذين تم اعتقالهم في السابق خلال معركة “الفرقان” 2008 و”البنيان المرصوص” 2014.
ومنذ بداية الحرب بدأت العديد من التسريبات التي تشير إلى انتهاكات بالجملة يرتكبها عناصر الاحتلال ضد الفلسطينيين في هذا المعتقل، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، أي بعد أقل من شهرين على بداية الحرب، نشرت بعض الصحف العبرية ولأول مرة تقارير صحفية عن حالات تعذيب ممنهجة للأسرى هناك.
وأمام تلك التقارير الموثقة بشهادات حية من بعض المعتقلين المفرج عنهم، وما تلاها من مذكرة قدمتها 5 جمعيات حقوقية إسرائيلية إلى المحكمة العليا طالبتها فيها بإغلاق معتقل سديه تيمان والكشف عن مصير مئات الأسرى الغزيين الذين اختفوا قسرًا، سمح جيش الاحتلال بنشر بيانات خاصة قال فيها إن هناك قرابة 700 معتقل في هذا السجن، وأن هناك 36 معتقلًا قُتل بداخله، معظمهم من قطاع غزة، الأمر الذي أحدث حالة من الغضب في صفوف المنظمات الحقوقية، الفلسطينية والإقليمية والدولية.
ثم جاءت التقارير الواردة حول تحويل 9 عسكريين إسرائيليين (من بينهم قائد “القوة 100″، التي تتولى حراسة الأسرى في المنشأة، وهو برتبة رائد) للمحاكمة بسبب الاعتداء جنسيًا على أحد أسرى غزة، والذي نقل إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع وهو يعاني جروحًا خطيرة.
وكانت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية قد نشرت عددًا من الأدلة التي تؤكد تورط العسكريين التسع في انتهاكات بشعة بحق الأسرى الفلسطينيين خلال الآونة الأخيرة، منها على سبيل المثال أن أحد رجال الوحدة المسؤولة عن حراسة الأسرى (القوة 100) طلب من جميع المعتقلين الاستلقاء على الأرض، وعلى الفور ألقوا قنابل صوت صوبهم، ثم ركلوهم بعنف، بحسب وصف الصحيفة.
حاولت الحكومة الإسرائيلية تغييب تلك الأدلة ومحاولة فتح أي تحقيقات بشأن الانتهاكات المرتكبة بحق الأسرى الفلسطينيين، كما تعهدت بغلق تدريجي لمعتقل سيدي تيمان، إلا أن الضغوط الإقليمية والدولية وما نشرته الصحافة الأجنبية وضع المحكمة العليا الإسرائيلية في مأزق وحرج شديد، ما دفعها لتقديم المتورطين في الجريمة الأخيرة للمحاكمة.
وتجمع مئات المتطرفين، مستوطنين ونخبة، متجهين في تجمعات عشوائية صوب القاعدة حين علموا باحتجاز العسكريين التسع، حيث اقتحموا البوابة ودخلوا القاعدة، وكان يتقدمهم عدد من أعضاء الكنيست المتطرفين منهم: تسفي سوكوت من حزب” الصهيونية الدينية”، ونيسيم فاتوري من “الليكود”، بجانب وزير التراث عميحاي إلياهو، الذي هتف عند دخوله القاعدة قائلًا: “الموت للإرهابيين”، بجانب العضو ألموغ كوهين من حزب “عظمة يهودية” وهو الذي طالب بتدمير الأقفاص الحديدية التي يحتجز بها المعتقلون، وإخراجهم منها، علاوة على وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي قال في بيان له إن “مشهد ضباط الشرطة العسكرية وهم يأتون لاعتقال أفضل أبطالنا في سديه تيمان ليس أقل من مخز”.
وأمام هذا المشهد الفوضوي، اضطرت الشرطة العسكرية الإسرائيلية لنقل الجنود الموقوفين إلى قاعدة “بيت ليد” وسط “إسرائيل”، لكن المتظاهرين لم يتركوهم، ولاحقوهم إلى هناك واقتحموا القاعدة مرة أخرى، ما دفع الجيش إلى نقل 3 كتائب كان مُقررًا أن تدخل قطاع غزة، لحماية القاعدة من المقتحمين، وسط اتهامات للسلطات الأمنية بقيادة الوزير المتطرف، إيتمار بن غفير، بعدم إرسال عناصرها للدفاع عن القاعدة وتعمد ذلك.
ظروف غير إنسانية
يقع معتقل سديه تيمان ذو الحراسة المشددة في قلب صحراء النقب، بمعزل عن أي تجمعات سكانية، وفي الغالب يحتضن المعتقلين التابعين لفصائل المقاومة أو الداعمين لها، ويُطلق عليه بين الأوساط الحقوقية “غوانتنامو إسرائيل” لما يُمارس بداخله من وحشية وإجرام فج.
ويصف المحامي الفلسطيني، خالد محاجنة، هذا المعتقل، حين زاره ذات مرة، بأنه “معسكر أو ثكنة عسكرية وليس سجنًا عاديًا، إذ كانت العديد من الدبابات والمدرعات والمعدات العسكرية منتشرة في كل مكان، وكان هناك جنود ينتشرون بين كثبان الرمال”، مضيفًا في حواره مع “الجزيرة” أنه “يمتد على مساحات واسعة، ومقسم إلى 4 أقسام لاحتجاز واعتقال الأسرى الغزيين، وفي كل قسم هناك 4 بركسات من صفيح وزينك، هي أشبه بالحظيرة، وفي كل واحدة يتم احتجاز 100 أسير في ظروف غير إنسانية وبلا مقومات للحياة”.
وتشير التقارير الحقوقية التي تطرقت إلى هذا المعتقل، بحسب شهادات معتقلين سابقين، إلى أن الأسرى بداخله يتعرضون لأنواع شتى من التعذيب والتنكيل من بينها: إبقاؤهم مقيدين على الدوام، وبعضهم تم بتر أطرافهم بسبب آثار القيود والأصفاد، انتهاكات وامتهان للكرامة وتعذيب جنسي، تعريضهم لروائح كريهة وحشرهم في مساحات ضيقة ومنعهم من التحدث والكلام، مقتل عشرات منهم تحت التعذيب.
علاوة على إجبار المعتقلين على الوقوف لساعات وضربهم بالهراوات، ترك الجرحى منهم لآلامهم ومنع العلاج عنهم، إحاطتهم بالجنود المسلحين والكلاب البوليسية على مدار الساعة، السماح لهم باستخدام دورة المياه لمدة دقيقة واحدة فقط، ومن يتجاوز الوقت يتعرض لعقوبات تصل إلى الضرب والتنكيل والاعتداء الجنسي، منعهم من الاستحمام، إذ يسمح لكل واحد منهم بالاستحمام دقيقة واحدة فقط في الأسبوع، التجويع وعدم تقديم الطعام الكافي، بجانب عدم توفير الأفرشة والأغطية للمعتقلين، ومنعهم من الصلاة وأداء شعائرهم الدينية.
ومن بين صور الانتهاكات التي نشرتها التقارير الحقوقية عن هذا السجن الوحشي، احتجاز المعتقلين داخل أقفاص حديدية دون أي أسرة وبلا مقومات الحياة الأساسية، وتكبيل أطرافهم على مدار الساعة، ما تسبب في بتر أطراف بعضهم، كذا تعصيب أعينهم لفترات طويلة، فيما كشفت بعض المعلومات عن إجراء العمليات الجراحية للمعتقلين دون تخدير بقرار من وزارة الصحة الإسرائيلية للأطقم الطبية داخل المعتقل، وتقديم العلاج لهم وهم مكبلون ومعصوبو الأعين.
انتهاكات الاحتلال بحق الأسرى.. سجل مشين
يقبع في سجون الاحتلال نحو 9 آلاف أسير فلسطيني، كثير منهم تم اعتقاله بعد طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بحسب رئيس نادي الأسير عبد الله الزغاري، الذي قال إن 3400 أسير تم تحويلهم للاعتقال الإداري، كما تجاوز عدد الأسيرات الـ90 أسيرة، والأطفال نحو 250 طفلًا حتى الآن.
ويستعرض الزغاري وغيره من الأسرى المحررين عشرات الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون في سجون الاحتلال، من تنكيل واغتصاب وانتهاكات لإنسانيتهم وكرامتهم بشكل متعمد، وسط تعتيم إعلامي ممنهج وصمت دولي فاضح.
وكثف الاحتلال من انتهاكاته الإجرامية والعنصرية بحق الأسرى والمعتقلين منذ بداية حرب غزة، بمعزل عن أي رقابة أو محاسبة، فيما أوضح المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي زياد أبو لبن، أن اللجنة لم تقم بزيارة السجون كما كان معتادًا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن، مؤكدًا أن استئناف الزيارات هو أقصى سلم أولوياتهم، وفق تصريحات صحفية له.
وتمتلك “إسرائيل” سجلًا مشينًا من الانتهاكات الممارسة بحق الأسرى الفلسطينيين داخل سجونها التي تحولت إلى “مقابر أحياء”، وكانت الدائرة القانونية بوزارة شؤون الأسرى و المحررين قد كشفت في قائمة لها أبرز الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون في جل السجون الإسرائيلية ومنها: ممارسة سياسة التعذيب بحقهم بشكل ممنهج وتحت غطاء قضائي من أعلى سلطة قضائية في دولة الكيان و المتمثلة بمحكمة العدل العليا في مدينة القدس الشريف، وذلك لانتزاع الاعترافات من الأسرى الفلسطينيين، كذلك اتباع سياسة العزل بحق الأسرى، ومداهمة واقتحام غرف الأسرى بشكل استفزازي والاعتداء عليهم بالضرب وإطلاق الغازات السامة والرصاص عليهم داخل غرفهم عن طريق ما يسمى بوحدة “متسادا ونحشون” المخصصة لقمع الأسرى.
علاوة على ممارسة سياسة التفتيش العاري بحق الأسرى و الأسيرات، ومنع الأسير من الزيارة، وحرمانهم من إكمال تعليمهم الجامعي والثانوي، أيضًا حرمانهم من التريض في الهواء وإقامة الشعائر الدينية، فضلًا عن سوء التغذية والجراية الغذائية المقدمة للأسرى كونها غير صحية والقائمين عليها هم من الجنائيين اليهود.
إضافة إلى حرمانهم من التواصل مع العالم الخارجي من خلال مشاهدة التلفاز أو سماع الراديو أو مطالعة الصحف أو حتى إرسال واستقبال الرسائل، وفرض الغرامات العالية عليهم داخل السجون ومصادرة المخصصات المالية لهم، ومنع إدخال الملابس لهم، كذلك منعهم من تلقي العلاج وإجراء الفحوصات الطبية.
بجانب هذا لا تُفرج سلطات الاحتلال عن الأسرى الذين انتهت فترة محكوميتهم، وتحويلهم إلى الاعتقال المفتوح سواء عن طريق الاعتقال الإداري إم المقاتل غير الشرعي، بل وصل الإجرام إلى سرقة أعضاء الأسرى الشهداء ودفنهم في مقابر أرقام وليس وفق دياناتهم وتقاليدهم.
صراع نفوذ وفاشية مطلقة
بعيدًا عن القراءات السطحية لواقعة اقتحام معتقل سديه تيمان والتي تحاول إظهار المشهد كأنه صراع حقوقي بين السلطة الإسرائيلية الراغبة في محاكمة المتورطين في الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين، من جانب، والرافضين لهذا الإجراء من اليمين المتطرف، من جانب آخر، فإن الصورة عكس ذلك تمامًا، فالمعتقل الذي قُتل بداخله 36 فلسطينيًا منذ بداية حرب غزة، لا يمكن أن ينتفض هكذا فجأة للاعتداء على أسير.
بداية فإن سجل الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين يبلغ من الإجرام والوحشية والعنصرية ما يغني عن تسليط الضوء عليه، فالقائمة طويلة والضحايا بالآلاف، وهو ما توثقه شهادات المحررين من الأسر والناجين من كماشة التنكيل، فضلًا عن التسريبات والتقارير الحقوقية التي تظهر بين الحين والآخر لحسابات سياسية خاصة.
ومن ثم فإن القراءة الموضوعية لما حدث من اقتحام لهذا المعتقل وردود الفعل بشأنه تتمحور في مسارين لا ثالث لهما:
الأول: أن التحقيق في تلك الانتهاكات في حقيقته محاولة لذر الرماد في العيون، والرضوخ للضغوط الإقليمية والدولية على الجانب الإسرائيلي بعدما بلغت السمعة السيئة لهذا المعتقل مداها الوحشي الذي يشوه صورة الكيان المحتل في الأوساط الحقوقية، على أمل تخفيف حدة الانتقادات التي تتعرض لها حكومة الاحتلال بسبب جرائمها بحق فلسطيني غزة على مدار الأشهر العشر الماضية، وما قبلها.
الثاني: أن ما حدث هو حلقة جديدة في مسلسل صراع النفوذ بين المؤسستين: السياسية والعسكرية، في الداخل الإسرائيلي، وهو الصراع الذي تفاقم أكثر وأكثر مع اندلاع حرب غزة التي كشفت عن حجم الانقسام الكبير بين هاتين المؤسستين، وهو ما تظهره الخلافات الحادة بين نتنياهو واليمين المتطرف من جانب، وغالانت وغانتس وأيزنكوت وغيرهم من الفريق المتحفظ على إدارة الحكومة للحرب من جانب آخر.
ومن ثم جاء اقتحام القاعدة العسكرية في سديه تيمان، والتلكؤ من قبل بن غفير في إرسال العناصر الأمنية لفض الاحتجاجات والدفاع عن تلك المنشأة، لإحراج جيش الاحتلال وقياداته، وإظهاره في صورة الضعيف أمام الإرادة الشعبية التي يعبر عنها أبناء اليمين المتطرف.
وفي الأخير، تفضح تلك الواقعة، مجددًا، الفاشية التي تعمقت في الوسط الإسرائيلي وسرطان العنصرية الذي تفشى في أركان كيان الاحتلال، وحوّله إلى مجتمع نازي من الطراز الأول، مرتكزًا على تنامي جيل جديد من الأصوليين المتطرفين الذين تربوا على أفكار بن غفير وسموتيرتش الإجرامية.