لا يُعدّ الذكاء العاطفيّ خاصية مكتسبة يجدها الفرد منذ ولادته، وإنما هي نتاج التعليم والتدريب والتجارب المختلفة التي يحتكّ فيها في مراحل حياته المختلفة. لذلك فلا عجب أنّ مرحلة الطفولة المبكّرة، لما لها من تأثير بالغ الأهمية على بقية المراحل، يمكن أنْ تكون محطةً جيّدة لتنمية الذكاء العاطفي وتقويته وتوجيهه.
وبكل أسفٍ فنحن نعيش في مجتمعاتٍ لا تولي للتعليم العاطفيّ أية أهمية، سواء في مرحلة الطفولة أو في المراحل التي تتبعها. فننسى حين تعاملنا مع أطفالنا وتربيتهم أنّنا نتعامل مع فردٍ كاملٍ بمشاعره وعواطفه وأفكاره وردود أفعاله، وبالتالي فكثيرًا ما نهمل هذه الجوانب من حياته ونتعمّد معاملتهم وكأنّهم ناقصين عاطفيًا أو غير ناضجين. لكن أليس من الأولى أن نتعلّم في سني حياتنا المبكرة كيف نفسّر أحزاننا تمامًا كما نتعلّم اللغة، ونتعلّم كيف نفهم غضبنا تمامًا كما نتعلّم قواعد الأكل، أو كيف نعامل أصدقاءنا وشركاءنا تمامًا كما نتعلم الرياضيات والتاريخ في المدرسىة؟
إذا كان بإمكاننا تعزيز الذكاء العاطفي عند أطفالنا في مراحلهم المبكّرة، فإنّنا بذلك نقوم بإعدادهم للتواصل بشكل جيد مع أنفسهم أولًا ومع الآخرين من حولهم ثانيًا
ظهر مصطلح “الذكاء العاطفيّ” في عام 1990، بعد أن استخدمه كلٌّ من بيتر سالوفي وجون ماير في دراستهم، معرّفين إياه بأنه “”شكل من أشكال الذكاء الاجتماعي الذي ينطوي على القدرة على رصد المرء لمشاعره ومشاعر الآخرين وعواطفهم، والتمييز بينها، واستخدامها لتوجيه أفكاره وأفعاله”. وبكلماتٍ أخرى، فالذكاء العاطفي هو الخاصية التي نتمكن من خلالها التعامل بصبر وصبيرة وفعالية عالية مع المشكلات أو الأحداث الكثيرة التي نواجهها في علاقاتنا سواء مع أنفسنا أو مع الآخرين من حولنا.
في العام نفسه أصدر دانيال غولمان كتابه الذي حمل اسم “الذكاء العاطفي”، والذي استند فيه إلى بحث سالوفي وماير وأشار فيه إلى أربع خصائص رئيسية لهذا النوع من الذكاء وهي: الوعي الذاتي أو قدرة الفرد على فهم مشاعره الخاصة، والتحكم الذاتي أو القدرة على إدارة العواطف الذاتية، والوعي الاجتماعي أو القدرة على التعاطف وفهم مشاعر الآخرين وانفعالاتهم، والمهارات الاجتماعية وهي القدرة على التعامل مع مشاعر وعواطف الآخرين.
الذكاء العاطفي هو شكل من أشكال الذكاء الاجتماعي الذي ينطوي على القدرة على رصد المرء لمشاعره ومشاعر الآخرين وعواطفهم، والتمييز بينها، واستخدامها لتوجيه أفكاره وأفعاله
وبالتالي، فيمكننا القول هنا أنه إذا كان بإمكاننا تعزيز الذكاء العاطفي عند أطفالنا في مراحلهم المبكّرة، فإنّنا بذلك نقوم بإعدادهم للتواصل بشكل جيد مع أنفسهم أولًا ومع الآخرين من حولهم ثانيًا، كما نقوم بمساعدتهم في تطوير علاقات قوية مع الآخرين، والتفاوض بشأن المواقف الصعبة، وتحمّل نتائجها السلبية. كما سيكونون أكثر تعاطفًا ورأفةً مع أصدقائهم وشركائهم وأطفالهم، ويتصلون بسهولة أكبر داخل إطار العلاقات الاجتماعية ولديهم قدر أكبر من الوعي الذاتي لما يريدونه من تلك العلاقات.
فبمجرد أنْ تساعد أطفالك في “تسمية” عواطفهم ومشاعرهم الخاصة بمسمّياتها، سواء كانت غضبًا أو حزنًا أو إحباطًا أو خيبة الأمل أو إعجابٍ أو غيرها، فسيكون بإمكانهم البدء في التعامل معها بصفتهم المسؤولين عنها وعن فهمها وأسبابها وعواقبها، على النقيض من لو أنّك أهملتها أو تجاهلتها دون التوقف عندها، أو حتى أنّ بعض الآباء يعملون على إضفاء طابع المرفوض والممنوع لبعض العواطف والمشاعر من خلال قمعها أو استخدام بعض أساليب العقاب حين تطوّرها أو ظهورها.
مساعدتك لأطفالك في “تسمية” عواطفهم ومشاعرهم الخاصة بمسمّياتها تمكّنهم من البدء في التعامل معها بصفتهم المسؤولين عنها وعن فهمها وأسبابها وعواقبها
وللإجابة على سؤال كيف يمكنك تنمية وتقوية الذكاء العاطفي عند طفلك، فلا بدّ أن نتفق أولًا أنّ ذلك يمرّ من خلالك، فمتى ما كنتَ أنتَ نفسك واعيًا ومدركًا لذاتك بعواطفها ومشاعرها وانفعالاتها ولطبيعة علاقاتك مع الآخرين وطرق تفاعلك معهم ومعاملتك لهم، فإنّك ستكون في تلك اللحظة قادرًا على تعليم طفلك كيف يكونون مدركين لعواطفهم.
الوعي الذاتي ذلك يحتاج أيضًا تنمية الصبر عندك، فتأكد دومًا أنّ تعاملك مع طفلك وتربيتك له تحتاج دومًا لأن تكون محفوفة بالصبر والتروّي. كما عليك أنْ تفهم أنّ أي مشاعر أو ردود أفعال يمكن أنْ يطوّرها طفلك، فهي ليست بالضرورة علامةَ إزعاجٍ أو تحدٍ أو دليلًا على عدم النضج، وإنما هي جزءُ من عملية نموّه وتطوّره جسديًا ونفسيًّا وعاطفيًا وإدراكيًّا، وكل عاطفة أو شعور لديه فقد تطورت لتخدم غرضًا ما يرتبط بحياته وبسلوكياته، بحسب علم النفس التطوّري.
لذلك، يجب عليك أن تحترم عواطف طفلك وما ينعكس عليها، سواء في المواقف البسيطة أو تلك المعقدة والشديدة. وبالتالي، فإنّ عواطفه قد تكون فرصةً كبيرة للتواصل معه وتدريبه. فعلّمه منذ الصغر أنّ جميع العواطف مقبولة لكنّ المشكلة تكمن في السلوكيات المرتبطة بها. هنا عليك أنْ تساعد طفلك على التعامل مع عواطفه من خلال تطوير مهارات حل المشكلات مع التفاصيل المتعلقة بها.
من المهم أن لا تنسى أنّ خطوات التدريب العاطفي قد تحدث بسرعة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى فقد تستغرق هذه الخطوات الكثير من الوقت
تحدث مع طفلك عمّا يشعر ويمرّ به، شجعه على وضع مسمّياتٍ محددة لمشاعره، علّمه أن يقول أن حزين حين حزنه، أو أنه غاضب في حال غضبه. ثمّ اسأله عن سبب ذلك الشعور وما الذي يعتقده حياله. وأخيرًا حاول أنْ تتوصل معه لحلولٍ أو طرقٍ يمكنه من خلالها التعامل مع الشعور وما يرتبط به.
كما تساعد القصص والحكايا التي تقرؤها لأطفالك كثيرًا في فهمهم للعالم الاجتماعي من حولهم، من خلال تعليمهم كيفية نشوء الأحداث والمواقف عند شخصيات تلك القصص، ومساعدتهم على الارتباط بها وفهم تطوّر عواطفهم المتعلقة بها. أي أنها تعمل على خلق سياقاتٍ عديدة لمواقف الحياة المختلفة التي يمكن للطفل أن يمرّ بها، فتعلّمه كيف يكون مدركًا لمشاعره الخاصة والتعبير عنها من خلال إدراكه لمشاعر الشخصية في القصة، إضافةً لتعليمه كيفية التعامل مع الآخرين ومشاركتهم، أو تحمّله المسؤولية حيال انفعالاته.
من المهم أن لا تنسى أنّ خطوات التدريب العاطفي قد تحدث بسرعة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى فقد تستغرق هذه الخطوات الكثير من الوقت. الصبر والوعي الذاتيّ هما المفتاحان الرئيسيان. فبالنهاية، فإنّ قدرتنا على تحديد وإدارة مشاعرنا الخاصة ومشاعر الآخرين ثابتة أو مستقرة إلى حد ما مع مرور الوقت، تبعًا لتأثرها بتجارب طفولتنا المبكرة وجيناتنا الوراثية، إلا أنّ هذا لا يعني أننا لا نستطيع تغييرها، أو أنّك لا تستطيع أنْ تعلّمها لطفلك وتنمّيها عنده.