تصدرت المرأة في وقتنا الحاليّ العديد من المناصب المركزية في التشكيلات الاقتصادية والسياسية، ولم تعد تستثنى من دوائر المشاركة والحكم، لكن بالطبع، هذا الاستثناء ما زال يطبق على بعضهن في عدة دول، فوفقًا لدراسة نشرت على موقع “بيزنس إنسايدر” فإن باكستان وإيران ومصر والسعودية وغيرها من الدول، من أكثر الأماكن التي تتعرض فيها النساء للتمييز الجنسي، في جوانب مختلفة.
ورغم أن هذه الدراسة غضت نظرها عن بعض الانتهاكات التي تجرى بحق المرأة في الدول الغربية، فإن منصات التواصل الاجتماعي لم تتهاون في فضح خباياها في السنوات الماضية، لندرك أن المرأة ما زالت تشكو من عدم المساواة حتى في أكثر الدول ديمقراطية وتقدمًا.
كيف عاشت المرأة قبل 9 آلاف سنة في قرية “تشاتل هويك”؟
لنفهم هذا التواطؤ الاجتماعي على المرأة وسبب محاباة العالم للرجل بشكلٍ مكشوف، كان لا بد أن نعود في التاريخ لقرونٍ بعيدة نستخلص منها رحلة المرأة في كل حضارة، وبداية هذا الطريق تبدأ في قرية تسمى “تشاتل هويك” تقع في ولاية قونية بتركيا، وهي مستوطنة عاش بها من 5 آلاف إلى 8 آلاف شخص، وجدت في العصري الحجري الحديث أي 7 آلاف و500 سنة قبل الميلاد.
أهم ما يميز هذه المنطقة التي استقطبت الآلاف من الأكاديميين من 22 دولة، أنها مثالًا للحياة الشاهدة على المساواة بين الجنسين، حيث لم يعثر علماء الآثار خلال عمليات التنقيب على منازل ذات سمات مميزة أو مختلفة عن غيرها، فلقد كانت هيئتها واحدة، والأهم من ذلك، ما يقوله البروفيسور إيان هودر في جامعة ستانفورد الذي يدير الحفريات القائمة في تلك المنطقة: “بفضل التقنيات العلمية الحديثة، رأينا أن النساء والرجال كانوا يتناولون أطعمة متشابهة للغاية، وعاشوا حياة مساوية وعملوا في مهن متماثلة، كلاهما يتمتع بنفس الرتبة الاجتماعية”، مضيفًا “الناس عاشوا على مبدأ المساواة، لا سيما أن هذه المنطقة لم يكن فيها قائد أو مبانٍ حكومية أو إدارية؛ ما جعل المرأة والرجل في نفس المقام”.
وما يجعل هذه المنطقة ذات أهمية خاصة، تماثيل الإناث المصقولة بعناية ومنحوتة من مرمر وطين، والملفت للنظر أن عدد تماثيل الإناث يفوق عدد تماثيل الذكور، وأكثرها عظمة وإثارة للاهتمام تمثال “المرأة الجالسة” التي اعتبرت لسنوات طويلة آلهة الأمومة والخصوبة، وذلك بسبب النحت الدقيق لتفاصيل جسدها الممتلئ الذي يركز على بطنها الكبير وثدييها، لكن هودر ينفي صفة الألهوية عن هذه الشخصيات موضحًا “هذه التماثيل ترمز إلى نساء عجائز لهن مكانة عالية في المجتمع، ولسن آلهة”.
المرأة لم تتعرض لإجحاف التمييز والعنصرية الجنسية، وإنما تنعمت بالمساواة ونالت حقها الاجتماعي حتى خلدت حكايتها على هيئة امرأة تجلس على مقعد نحتت أطرافه على شكل نمور ضارية
وفي تقرير إضافي نشرته صحيفة “حرييت دايلي نيوز” التركية يستبعد الدكتور هودر بأن يكون هذا المجتمع أموميًا من الأساس، فيقول “عندما ننظر إلى ما اعتادوا أكله وشربه فيمكننا أن نلاحظ المساواة الاجتماعية، وإذا تأملنا عادات الدفن لديهم، لرأينا أن رأس الشخص يفصل عن جسده إذا كان مستواه الاجتماعي مرموقًا”، مكملًا “في أثناء الحفريات وجدنا أن عدد جماجم الإناث والذكور متساويًا تقريبًا، ومن هنا علمنا أن الرجال والنساء كانوا على نفس القدر من الأهمية في تلك الفترة”.
تبين لنا هذه الأدلة القليلة أن المرأة لم تتعرض لإجحاف التمييز والعنصرية الجنسية، وإنما تنعمت بالمساواة ونالت حقها الاجتماعي حتى خلدت حكايتها على هيئة امرأة تجلس على مقعد نحتت أطرافه على شكل نمور ضارية، وهي إشارة للقوة والثقة.
حضارة بلاد الرافدين: من حرية مطلقة إلى احتجاب مبرر
يخبرنا الفيلم الوثائقي “صعود المرأة” بأن تطور الزراعة ساهم في حدوث تغييرات اقتصادية واجتماعية، إذ أصبحت المجتمعات أكثر تنظيمًا وتحددت أدوار الجنسين معها، فارتبطت مهام المرأة بشؤون المنزل والتربية، ليحظى الرجل بحق التحكم والتملك في الخارج، وما ساعد على ترسيخ هذه الأدوار بشكلٍ أكبر هو تأسيس الوحدات العسكرية والجيوش الحربية، وهي أدوار ارتبطت بالذكور ورمزت إلى القوة والسيطرة، إضافة إلى الأفكار الدينية التي جاءت لاحقًا بعد توالي حضارات مختلفة على الحكم في منطقة ما بين النهرين، وأولها الحضارة السومرية والبابلية ثم الآشورية، التي تناوبت على تبديل دور المرأة في كل مرة.
بداية من الحضارة السومرية المعروفة بثراء إنجازاتها العلمية، وأهمها اختراع الكتابة عام 3300 قبل الميلاد، وهو الأمر الذي ازدهرت به النساء أيضًا، فاستطاعت أن تكتب وتعبر عن نفسها؛ الأمر الذي انعكس إيجابًا على حقوقها القانونية والاجتماعية، إذ نجحت في حجز مساحة لرأيها في المواضيع التي تتعلق بحياتها الخاصة مثل الزواج والطلاق والتملك والتعلم، وأدارت أعمالًا تجارية وعملت ككاهنة وطبيبة وقاضية وشاهدة في المحاكم، وبقيت على هذه الحال من المساواة والانتعاش حتى 2300 قبل الميلاد.
الطابع السائد لتاريخهم ذكوري، مع اختلاف واضح بين الآلهة الإناث والذكور، فالأولى اقتصرت على الخصوبة والطبيعة، والأخيرة على العقل والعدالة.
عندما غزا الملك سرجون العظيم الأكادي بلاد الحضارة السومرية وجعلها تابعة لحكمه، بدأت النساء بخسارة حرياتهن، وتدريجيًا، فقدن حقهن في المشاركة بالشؤون الاقتصادية ومنعن من التعليم والعمل والخروج من المنزل، وأغلقت أمامهن جميع الأبواب، فغابت المرأة تمامًا عن المراكز المهمة ومجالس الحكم والتشريع.
أهم الدلائل على ذلك، النقوش الحجرية والمخطوطات التي تركتها هذه الحضارة خلفها، لنجد أن الطابع السائد لتاريخهم ذكوري، مع اختلاف واضح بين الآلهة الإناث والذكور، فالأولى اقتصرت على الخصوبة والطبيعة، والأخيرة على العقل والعدالة.
مع الغياب الصارخ للوجود الأنثوي في هذا العالم، تظهر “انهدوانا” ابنة الملك سرجون كأول كاتبة وشاعرة في ذاك الوقت، ويعتبر المؤرخون كتاباتها أول الأعمال الأدبية الموقعة في التاريخ، ورغم هذه الصلاحية التي نعمت بها انهدوانا إلا أن ذلك لم ينعكس على غيرها من النساء، بل زادت الأمور خشونة وشدة تجاههن.
حيث بينت أقدم القوانين المكتوبة في ذاك العصر مجموعة من العقوبات التي سنتها العائلات الحاكمة، وكان من بينها “ضرب المرأة بقطعة طوب على أسنانها إن تكلمت في غير دورها”، وفي زمن لاحق، بعد تأسيس المملكة البابلية، عرضت قوانين حمورابي الشهيرة – تشكل 282 قانونًا عن معايير السلوك في بلاد بابل – جانبًا إيجابيًا عن حقوق المرأة، فسُمِح لها بالتملك والتوريث وحظر معاملتها بالسوء والإهمال، وفي حال انفصالها عن زوجها منح لها حق الاحتفاظ بمهرها، أما الأرملة فتمتعت بحقها في استخدام والاحتفاظ بممتلكات زوجها مدى الحياة.
عند هذا الحد ينتهي الجانب المشرق، فالقانون نفسه سمح للرجل بالتحكم بأمور المرأة الاقتصادية والجنسية، ومن هنا بدأ المجتمع الأبوي أو السلطة الذكورية بالسيادة والسيطرة بصلاحية تامة من القانون والمجتمع، لتنصاع المرأة إلى ولايتهم باسم القانون، وبمعنى آخر، لم تعد حياة المرأة الجنسية خصوصية شخصية واختيار فردي، فعلى سبيل المثال، أصبحت عذريتها هاجسًا اجتماعيًا وشرطًا للزواج، لذلك منذ ذاك الزمن، اعتبر اغتصاب المرأة ليس فقط إهانةً لها وإنما استخفاف وتصغير للرجال من أقاربها سواء أبيها أو أخيها أو زوجها، وعارضًا قويًا لزواجها أيضًا.
رغم أن قوانين حمورابي أوجدت نظام المجتمع الأبوي، فالخبراء يعتقدون أن القوانين الآشورية تُجذر هذا المفهوم وتطبقه بصورة وحشية بسبب المعاملة المذلة التي يشجع عليها القانون فيما يخص معاملة الأزواج لزوجاتهم مثل شد الشعر أو رميهم بالشارع
هذه التحولات التي عاصرتها المرأة في بلاد بابل، كانت تغيرات محورية وتأثيرها لا شك أنه ما زال يلاحقها حتى يومنا هذا، لذلك تعتبر قوانين حمورابي من أهم السجلات الأثرية في دراسة تاريخ المرأة، وهذه الأهمية تمتد إلى الإمبراطورية الآشورية التي طرحت أساليب جديدة أيضًا في التلاعب بصورة المرأة الاجتماعية.
بالاعتماد على الحفريات والقطع الحجرية، تمكن الخبراء من استشفاف ملامح هذه الحضارة، ووجدوا أن الآثار تعج برسومات الجنود والمحاربين وصيادي النمور، وهذه إشارة إلى الهيمنة والسيطرة الرجولية الغزيرة، وهذا على النقيض الكامل من الآثار والتماثيل التي وجدت في قرية “تشاتل هويك”.
للتعرف بشكل أدق على التفاصيل الحياتية المرأة، قرأ المؤرخون كتب القانون التي تعود لهذه الحقبة من الزمن، وهو مجلد يحتوي على نحو 112 قانونًا، أكثر من نصفها تتعلق بالزواج والجنس، ورغم أن قوانين حمورابي أوجدت نظام المجتمع الأبوي، فالخبراء يعتقدون أن القوانين الآشورية تُجذر هذا المفهوم وتطبقه بصورة وحشية بسبب المعاملة المذلة التي يشجع عليها القانون فيما يخص معاملة الأزواج لزوجاتهم مثل شد الشعر أو رميهم بالشارع أو سلب أموالهم، ولا يسمح لهم بقتلهم إلا بسبب وجيه!
يصعب القول على وجه التحديد مدى قسوة القانون على النساء مقارنة بالرجال، ولا يمكن تحديد ما إذا كان الرجال أيضًا خضعوا لعقوبات مماثلة، لكن يمكن الاستنتاج أن النساء في تلك البلاد ما زلن مواطنات من الدرجة الثانية أو أقل.
هذه الشراسة تصل إلى حد الإعدام إذا أجهضت المرأة طفلها، والمثير للدهشة بشكل استفزازي هو القانون الذي ينص على معاقبة النساء ليس فقط بسبب تجاوزاتهن للأحكام، بل أيضًا بموجب الجرائم التي يرتكبها أقاربهن، والعقوبة تشمل قطع أذن أو أنف المرأة أو إزالة عينيها وتمزيق أجزاء من ثدييها، فمثلًا، إذا اغتصب الرجل يكون عقابه اغتصاب زوجته من آخر.
وبسبب الأدلة غير الكاملة يصعب القول على وجه التحديد مدى قسوة القانون على النساء مقارنة بالرجال، ولا يمكن تحديد ما إذا كان الرجال أيضًا خضعوا لعقوبات مماثلة، لكن يمكن الاستنتاج أن النساء في تلك البلاد ما زلن مواطنات من الدرجة الثانية أو أقل.
قبل 2000 سنة من ظهور الإسلام
“يجب ألا تخرج النساء الآشوريات المتزوجات والأرامل ورؤوسهن مكشوفة في الشارع، يجب أن ترتدي بنات الطبقة المرموقة الحجاب، وعلى الرفيقة السرية ارتدائه، ويجب على العاهرة أن يبقى رأسها مكشوفًا”، أول قانون يأمر النساء ذوات الطبقة الاجتماعية الرفيعة بارتداء الحجاب في الدولة الآشورية.
لذلك يعتقد المختصون بتاريخ المرأة، أن السيادة الآشورية وقوانينها ساهمت في خلق تصنيفات اجتماعية ضد المرأة ورسخت التمييز بحجة حمايتها عند الخروج من المنزل أو عند غياب زوجها، مثل سن قانون ارتداء الحجاب على طبقة معينة وحظره على أخرى، وإذا خالفت إحداهن هذه القوانين أمُر الرجل بضربهن بالخيزران أو قطع آذانهن، لينقل هذا الغطاء إلى مناطق أخرى من العالم، ويصبح رمزًا حضاريًا عند الشعوب الإغريقية والرومانية والبيزنطية، لترتديه الراهبات في القرون الوسطى في أوروبا ويتحول إلى واحدة من التقاليد الدينية للديانة الكونفوشيوسية في الصين وكوريا، في القرن السادس قبل الميلاد، لينتهي بكونه هوية للمرأة المسلمة ورمزًا للإيمان في الإسلام.